بعد رهق يوم طويل في مهنة المتاعب، وبينما كنت في طريقي إلى ميدان جاكسون - ذلك الضابط الإنجليزي الذي دُفن وسط اهرامات مروي التاريخية فيما أصبح ميدانه بالخرطوم موقفاً للمواصلات- وجدت عند تقاطع شارعي السيد عبد الرحمن مع علي عبد اللطيف، العديد من حافلات الهايس، وعلى مقربة منها، تناوب كُمسنجية وكماسرة صوت بعضهم جميل، النداء على الركاب، بل وإستجدائهم لدرجة مسكهم من إيديهم أحياناً .. إلا واحداً. كان يقف علي مقربة من عربته، وإن شئت الدقة، عربة ابن عمه التي يعمل فيها كُمسارياً، ويضع إبتسامة ودودة لا أعرف من أين جاء بها في تلك الأجواء التي تحمل على الصراخ. فهو لايتسول الركاب، فقط، يردد بصوتٍ هادئ إستكثرته على هذه العبارات “ إتفضلوا أركبوا .. أيوه، الموردة، الشهداء، البوستة". وركبتُ. تحديداً في المقعد المقابل له، فقد كنت آخر الركاب في حافلته. بعدها، أغلق الكمساري الأمين محمد الأمين الباب بيدٍ إكتشفت فجأة، أنه لايملك سواها. فقد قُطعت الأخرى في الأول من ديسمبر من عام 1999م حينما كان طالباً في الصف الأول بالمرحلة الثانوية.. فهو كغيره من الصِبية في قرية الشيخ التوم ودبانقا بمنطقة سكر سنار، يساعد والده في الزراعة حتى موسم الحصاد. وفي موسم حصاد ذلك العام شحيح المحصول وافر الأحزان، إنتظر الأمين مع والده “الدقاقة" كما يقولون هناك، منذ الصباح، لكنها لم تأت إلا مجهدة في المساء. وعندما أتت، كانت بحاجة لمن يدفع قناديل الذرة إلى جوفها، فدفعها الأمين الذي لم يشعر، إلا ويده تُفرم في ماكينتها التي لا تعرف الرحمة، وكأنها أرادت أن تضيف إلى القناديل، يده. بعد أن تفاجأت بقلة المحصول، محصول ارتوى ذلك العام بعرق الطالب الأمين، ودمه معاً.. فحُمِل على عجل إلى مستشفى سنار حيث أُجريت له عملية لبتر ما تبقى من ذراعه حتى لا ينسرب الألم إلى أعلى. بإرادة إستثنائية، واصل الأمين المولود في العام 1982م دراسته حتى تخرج قبل ثلاثة أعوام في كلية المختبرات العلمية قسم الفيزياء، ومن وقتها، لم يعثر، رغم مثابرته وبحثه الدؤوب، على مجرد إعلان لفرصة عمل بمؤهلاته، ناهيك عن أن يجد الفرصة ذاتها، فهو ليس إستثناءً من زملائه، فحسبما أكد لى، فإن كل دفعتهم - عدا اثنين فقط - إما عطالى، أو يمارسون عطالة مقنعة بعملهم بشهادات رفيعة في مهن هامشية، بعد أن منّوا أنفسهم وأسرهم كثيراً، على أيام الدراسة، بالعمل بإدارات ضبط الجودة ومعامل الفيزياء في المصانع على الأقل. معاناة الأمين مع مهنته الشاقة يصعب تصورها لمن لم يركب يوماً معه، ولكم أن تتخيلوا كيف يمكنه بيد واحدة أن يخلص الحافلة، ويرجع الباقي، ويوقف السائق، ويفتح الباب، ويغلقه في اليوم الواحد مئات المرات، ثم يغسل الحافلة في وقتٍ متأخر من الليل لقاء (10) جنيهات فقط في اليوم تخرج من بين رهقٍ وألم تخففه أحياناً ونسات نصف الليل، وضحكاتها مع أبناء عمومته الذين يقتسم معهم السكن في بيت عزابة بائس بحي العباسية، بالكاد يجد فيه مساحة تكفي لمد جسده المنهك النحيل. معاناة أسرة الأمين التي رضع منها عزة النفس والإعتماد عليها، ليست أقل من معاناته. ففي نفس عام تخرجه في الجامعة -2007م -، أُحِيل والده المراقب الزراعي بسكر سنار، الى للمعاش. وترك ثمانية من الأبناء - أكبرهم الأمين- عُزلاً في مواجهة الحياة التي مدت لسانها مؤخراً لشقيقتيه (سلوى ونجلاء) اللتين تركتا الدراسة بسبب ظروفهما القاسية، وهو الأمر الذي تقبله أخوهما بمذاق غامض للمرارة. واجه الأمين قدره، ومسؤولياته بقوة رغم أنها كانت فوق طاقته على الإحتمال، فإعتمد في أكل عيشه من بعد الله سبحانه وتعالى، على ضراعه اليتيم، وعرق جبين كثيراً ما فشل في مسحه لأن يده الوحيدة مشغولة على الأرجح بما هو أهم من قبِيل “معافرة" باب الحافلة الآيل للسقوط وإرجاع الباقي لركاب في عجلة من أمرهم دائماً. فهو، لم يعرف لتسكع العاطلين طريقاً، فقد آثر أن يعمل في حافلة ابن عمه كيفما إتفق منذ أن خسر رهان الحصول على فرصة عمل في الحكومة التي تعاني من فائض في الوزراء، ونقص حاد في الوظائف. أذكر أنني أعطيته عملة ورقية كانت أكبر قليلاً من قيمة الترحيل، وأشرت إليه بأن يترك معه الباقي، ولكنه رفض بكل كبرياء الدنيا، ثم قال بتهذيب فوق المُعدل وهو يضع إبتسامته لم تسرقها من شفتيه الجافتين، قسوة الظروف والإعاقة: “دائما يحاول الركاب أن يتركوا لي الباقي، ولكني والله ما قبلته يوماً من أحدهم". ثم أضاف قبل أن نفترق، إن كنت تريد أن تساعدني حقاً، فأدع لي بالعافية والوظيفة... وها أنا أفعل يا عزيزي الكمساري الأمين.. الله يديك العافية. fateh alrhman albashir [[email protected]]