لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح .. وداعا ربيع الادب ... بقلم: مكي ابوقرجة
نشر في سودانيل يوم 18 - 03 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم
[email protected]
واقبلت جوقة الانشاد..كان مشهدا فريدا ومؤثرا.عددهم لم يكن يتجاوز العشرين شابا...يشكلون مربعا صغيرا ويسيرون في خطو منتظم نحو سرادق المأتم.اصواتهم شجية عذبة.توقفوا هنيهة امام الناس ينشدون.ثم ما لبثوا ان تفرقوا داخلين الي المكان في هدوء ووقار.هؤلاء شباب الاسماعيلية لاغيرهم.
كنت اجلس الي جانب الدكتور مرتضي الغالي وهو رجل عالم أريب فتساءلنا من الذي يعرف العلاقة الواشجة التي تربط كوكبة المنشدين هذه بالراحل الكبير؟من يعرف ذلك الخيط العرفاني الذي يشد اضرحة الدبة بذلك الضريح الثاوي فى قلب مدينة الابيض؟ رأي الطيب صالح هؤلاء المنشدين الشباب وهو فى مهجعه السماوي الوثير وأخذ يرمقهم . عودة وحبور ويقول " لذلك عدت اليكم عثرتي بعد هذا الغياب الطويل حاملا جذوة اشواقي ومحبتي وولائى الذي لايزول "
قال حين كتب " دفناها عند المغيب كاننا نغرس نخلة او نستودع باطن الارض سرا عزيزا" هكذا كان حاله هو . يسٌر وسهولة فى كل ما تعلق بعودة جثمانه ودفنه . اليوم كان الجمعة والشوارع ساكنة الا من سيارات قليلة عجلى تشق الطريق العام.تخترق صمت المشيعين الواقفين اصوات تجهش بالبكاء من وقت لاخر. تكاد لاتسمعها من فرط وقارها .عندما فرغوا من دفنه واخذوا ينفضون من حول القبر قلت اقف قليلا مودعا .ألفيت قبرا متطامنا لم يشرئب عن الارض كثيرا وما ارتفع.فرغ اناس منه للتو ولكنه بدا كقبر دارس مضت عليه سنوات.أهكذا انت في الحياة وفي الممات!
مااكثر ما لذنا بابداعه حين كانت الآفاق تعتكر وتنقبض النفوس.نتناول اعماله من قريب فلم تبعد عنا يوما.نلج عوالمه الساحرة فتنجاب عنا سحآئب الحزن وتوترات الغربة.وحين يجد بشأنه حديث نحاول الكتابة عنه حبا واحتفاءً.
استكتبته ذات مرة جريدة" الاتحاد" الظبانية التي كنت اعمل فيها .ظل مثابرا يكتب عمودا اسبوعيا يبعث به من اي مكان تقوده اليه خطاه في كل انحاء العالم .ما اعتذر يوما ولاسأل عن اجره.كتب مرة عن رحلة له الي نيويورك قال انه قضي نهارا رائقا وضيئا في ضيافة المدير الاقليمي لمنظمة اليونسكو هناك....الفاتح ابراهيم حمد.هزٍه كرم اهل الدار وأريحيتهم وتحدث عن اصهار الفاتح ....أهل الحلفاية الكرام .رأي من بينهم شقيقة ربة الدار سيدة ذات جمال وكمال تزمع الهجرة الي كندا .فأمضه ذلك واضناه.أشار الي عنت الايام والظروف اتي تدفع ببنات العائلات الكريمة الي الهجرة.كنت عائدامن عطلة قضيتها فى لندن في ضيافة صديقي الشاعر راشد سيد احمد . اكرمنا اصدقاؤه ومن ينهم نفرٌ من اهل الحلفايا . اكرموا وافاضوا .
كتبت مقالة حول حديثه ذاك.. فالفاتح كان من اهل مدينتي كوستي .مازلت اذكره ايام الطفولة يتقدمنا فى الدراسة مشاغبا عذب السلوك ومنذ تلك المقالة الزمني صديقنا المرحوم الفاتح التجاني – سكرتير التحرير بالجريدة- بالكتابة الاسبوعية التى امتدت لسنوات واحتواها فى وقت لاحق كتاب ( اصوات فى الثقافة السودانية )
فى منتصف سنوات الثمانين فى القرن الماضي التحقت بجريدة ( اخبار الخليج )بالبحرين محررا مترجما . قلت اناوش صفحة الادب احيانا بشئ مما اكتب . تناولت تجربة الطيب صالح الروائية. كنت منفعلا باعمال ماركيز وخاصة رائعته ( مائة عام من العزلة ) . غامرت بعقد مقارنة بين الكاتبين الروائيين . كنت احاول الزعم بان المناخات الروائية للطيب صالح سبقت تجربة ماركيز فى الواقعية السحرية. الكتابة اعجبت مدير التحرير وكان مثقفا مصريا جم الاحتشاد. كما اعجبت عدداً من القراء والادباء ونلت بها حظوة واعجابا لازمني حتي فارقتهم. تلك كانت احدي فيوضات وبركات سيد العارفين . ولما زار الطيب البحرين يوما جاءني صديقي الاديب البحريني محمد فاضل ليصحبني الى الفندق الذي كان يقيم فيه الروائى الكبير .كان يرغب في اجراء حديث معه . كنت غارقا فى اعداد اخبار الصفحة الاولي فاعتذرت وفاتني لقاؤه كما فاتني مرة اخري فى عاصمة الضباب ويا للحسرة .
فى صيف عام (2002) كنت عائدا الى ابوظبي من مهمة صحفيةفي العاصمة الالبانية ( تيرانا ) ولما توقفت فى مطار اسطنبول فاجأنى زوجان بلغاريان عجوزان بمعرفتهما للزعيم العمالي والنقابي العالمي ابراهيم زكريا – اطنبا فى الحديث عنه وعددا مآثره . كان الرجل البلغاري دبلوماسيا صغيرا حين التق ابراهيم زكريا فى اوائل الستينيات ولم يبرح ذاكرته . عدت مزهوا بما سمعت فكتبت . وقرأ الناس المقالة وبعث بها صديقنا الكاتب الاستاذ الفاضل عباس الى الطيب صالح فى لندن بالفاكس. بعد ايام التقيت بالفاضل الذي يمت بصلة القربي للكاتب فابلغنى ان الطيب اتصل به هاتفيا وهو يبكي بعد ان قرأ المقا لة. حتى ذلك الوقت لم اكن اعلم بالصلة التى تربط الطيب صالح بابراهيم زكريا. فاتضح لى انه ابن خاله. حقا هذه الارض لا تنجب سوي الافذاذ والنجباء. تلك البقعة زعم الاخباريون القدامي انها شهدت نشأة الخليقة الاولي.وقامت علي ثراها حضارات الانسانية البكر ونشأت فيها ممالك كثرآخرها مملكة الدفار.وانتشر بنوها في مختلف بلاد السودان منذ الزمن القديم .برزوا ونبه ذكرهم.فمنها جاء الشيخ اسماعيل ابن عبد الله الولي الكامل الذي اختط طريقة صوفية سودانية خالصة مازال شذاها يعطر دروب السالكين.وحاج عبدالله الدفاري مابرح ضريحه ظاهرا يزار في الكوة بالنيل الابيض.قال احد حوارييه كان القرب منه الجنة بعينها ولااطمع في جنة سواها.مازالت كراماته تتري والحديث عنه علي كل لسان.
ومن قرية ابكر بتلك المنطقة برزت والدة النور عنقرة الي غردون باشا تحدثه بشجاعة بشأن ابنها الذي كان موظفا في الادارة التركية.كان غردون قد جاء في مهمته الاخيرة حكمدارا علي السودان ليعمل علي اخلاء الحاميات .
والنور عنقرة دوره مشهود في التركية والمهدية التي انحاز اليها وبات اسطورة في معاركها باقدامه الاسبرطي وروحه القتالية المتمردة ولعل التاريخ لم يذكر كثيرا ابن اخته الحاج ابوبكر الذي قذفت به جسارته الي المكسيك محاربا في صفوف الاورطة السودانية-المصرية في منتصف القرن التاسع عشر .ذكر عارفوه انه عاد الي السودان بخبرته العسكرية ومهاراته الحديثة في القتال وانخرط في صفوف انصار المهدي.وحين شارك في معارك الحبشة حدث ان تقدم العدو في بحر متلاطم من الجنود فأحرز نصرا مؤقتا علي الانصار .خرج فصيل بقيادة الزاكي طمل وعبد الله ودابراهيم والحاج ابوبكر.لحقوا بجيش الاحباش.زغردت النساء السبايا حين رأينهم يكرون .قذفوا بانفسهم في قلب جيش العدو.كالمردة كانوا يقاتلون او الغيلان. اندفعوا نحو موقع الامبراطور فقتلوه وانتزعوا رأسه وتاج ملكه.غيروا نتيجة الحرب وعادو ا ظافرين.
من هذا المكان ايضا انحدر اسلاف المفكر الاسلامي الشهيد محمود محمد طه والعالم الموسوعي الدكتور التجاني الماحي وغيرهم كثر.اليس حريا بالمؤرخين ان يلتفتوا لظاهرة هذة البقعة التي لاتنجب سوي الافذاذ.
كان يونس الدسوقي من الصداقات العظيمة التي اكتسبها الطيب صالح في السنوات الاخيرة .ربما كان يونس يكبر الطيب باربع او خمس سنوات علي وجه التقريب.وكان قد اتخذ من القاهرة منفي اختياريا له منذ اوائل العقد الاخير للقرن العشرين.غادر السودان مغاضبا حين غدت الايام عصيبة وعتمة النفق لاتبشر ببصيص.سرعان ماتعرف الناس علي قدراته المدهشة ومعارفه الموسوعية ومهاراته اللغوية في الحديث وشخصيته الآسرة.بات فندق هابتون في قلب القلهرةمحجة يفد اليها الناس .يحدثهم احاديث يتجملون بها .ويجدون فيه صورة السودان الضائعة .فالتقيا الطيب صالح ويونس واكتشفا انهما يحملان نفس الهوي والروح.يتحدثان في الادب والتاريخ ويتباريان في رواية اشعار المتنبي وذي الرمة يتعابثان احيانا فيصنع الطيب روايات صغيرة ملؤها السخرية والعبث.كان ثالثهم هو صديقهما محمود صالح الذي لايلتقيان دون حضوره المشرق وروحه العامرة .انتظم الطيب صالح في زيارته للقاهرة كل عام ليلتقي بصديقه لزيم الخان.وتظل اصداء زيارته لفندق هابيتون يتداولها العاملون –الذين اسعدتهم نفحاته المالية السخية. ومادار بخلدهم ان الكاتب صنع منهم مادة لدعاباته وحكاياته المرحة التي يسعد بها صديقه يونس.
حين زرنا القاهرة في صيف عام2004 اقمنا مع يونس في فندقه.كنا في انتظار محمود صالح الذي كان في اصيلةمع الطيب يشاركان في المهرجان .عاد محمود وحده بعد ان ودع صديقه الذي عاد الي لندن .كنا تمنينا ان يعودامعا فتسعدنا رؤية الكاتب الا ان محمودا الذي ما فارقنا طياة ايام زيارتنا عوضنا وافاض.اما يونس ففد غمر اماسينا –رغم الوهن وفقدان البصر-بكرمه الجموم واحاديثه العذاب وذكرياته المليئة بالطرائف والنوادر .كان الطيب صالح حاضرا دوما في تلك الاحاديث خاصة عندما يكون صديقنا مصطفي عبادي حاضرا وكان عبادي يروي لنا النكات التي كان الطيب صالح يستجيدها ويستملحها .
تلك ايام لن تعود فقد مضي يونس اثر عودته الي السودان قبل عامين او يزيد.وهاهو صديقه الطيب صالح يعود محمولا علي نعش بعد اغترابه الطويل ليدفن الي جواره في مقابر البكري.فعليهما الرحمة .
كتب الكاتبون نقادا ومحبين ،عربا وسودانيين منذ غيابه الفاجع .أسالوا حبرا كثيرا وسيظلون يفعلون مادام للادب سوق قائمة.وليس ذلك كثيرا علي هذا الرجل الذي بات في عداد الخالدين .كانت كتاباتهم مثقلة بالحزن والاحساس بمرارة الفقد .كانهم لم يتوقعوا له الغياب.لاازعم أني قرأت كل ما كتبوا ولكن استوقفنني بعض الكتابات لكتاب عرب ما كانوبعيدين عن ابداع الرجل ولاسيرته الشخصية التي ادهشت كل من تابعها .
سمير عطا الله كاتب في صحيفة"الشرق الاوسط"جاء في عموده في الصفحةالاخيرة غداة وفاة الطيب صالح"كان يحول الشجرة الي حكاية.والصبا والشقاء والهجرة والبقاء والترعة والفلاحين وصوت الغابة وغناء افريقية والتيه في عالم الرجل الابيض واضواء المدينه وابحار العمامة البيضاء في نوتات بيتهوفن ومؤلفات شيللي ومناخات مور. يحولها كلها الي حكاية يأسر بها قاريئه"ثم لايلبث ان يستطرد في عموده قائلا"لم يفلسف الطيب صالح المشاهدات ولم يطرح القضايا بل رسمها مثل غويا .ولم يثر الالمسائل بالفاظ طنانة بل زرعها في السهول ببساطة وعفوية .لم يتوسل لشهرته ظلامة افريقيا.ولم يستمهل احدا عند بشرته ولم يستوقف احدا.مثل النيل مضي وتركنا نتبعه.يقلده المقلدون عبثا .فقد كان خليطا سريا مثل القهوة الاتية من شجرة بن لها الف لون والف عبق. هذة نظرات نافذة ولا ريب من كاتب يبدو اهتمامه بالادب واضحا .وهي تبدو كانطباعات قاريء محب قادر علي التعبير .استطاع ان يسبر اغوار العوالم الابداعية للطيب صالح ويستمتع بنصوصه.
واستوقفني ماكتب ياسر عبد الحافظ-وهو روائي مصري شاب."انشغل بناوانشغلنا بانفسنا عن معرفته.وكأنك تطارد سرابا في صحراء.كائنا اسطوريا في غابة يحفظ كل دروبها وانت اعمي خلف اثره الذي لايكاد يري .يقترب من المستحيل ان تكون هناك شخصية مثل الطيب صالح ....لااحد هكذا .ربما فقط في الفن نصدق..:انما في الواقع ملعب الالام الواسع فهناك الصراع بكل مايحويه من متناقضات "ويقول في مقاله الذي نشرته صحيفة الاحداث في العاشر من مارس يبدو انه كان قرارا من البداية ان يقتصد نفسه لنفسه.هكذا نجح في العبور من وسطنا بعد ان نجحت خطته تلك التي تعتمد علي قاعدة واحدة لاغير:أنا لست هنا ؛لاتعتبروني هكذا حقيقة " هذة رؤية كاتب روائي يستبد به الخيال .فراي في سيرة الطيب ما هو اقرب الي الخيال من الواقع.فدفع به الي الدائرة التي يقف فيها البطل وحيدا بكل الخصائص التي يوفرها له السياق الدرامي.ننجح في الاشارة الي عظمة الكاتب وسجاياه البازخة .ومما لفت النظر كذلك اشارته الي كلمة الناقدة هدي فايق التي كتبت تقول :اتصفت اعماله باناقة اللغة و الغزارةالشعرية التي تجعل من رواياته قصائد صوفية كونية...هذا بالاضافة لتجديده في بنية الرواية العربية.من خلال استخدامه الواعي والمؤصل لتيار الوعي في كتابته وغوصه في عمق الشخصية العربية ليحررها من حدود المكان الضيق الي الفضاء الانساني الفسيح.
ظل محمد بن عيسي وزير الخارجية المغربي الاسبق وامين عام مؤسسة منتدي اصيلة يمحض الطيب صالح ودا عميقا وتعلقا مشبوبا ويناديه ب " سيدي الحشوم" قال عنه مرة :هو كل كامل يقاسمك احاسيسك .لايعادي ولايحاسب ولايلوم .وهو كل كامل لاينافق ولايحابي.قنوع لدرجة اهمال حقوقه ومستحقاته دؤوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته ..كل شي لدي الطيب ملفوف في الحشمة والتقشف ونكران الذات.
هذه كلمات رجل اقترب كثيرا من شخصية الطيب صالح ولمس ذلك التسامي الشفيف لرجل لابد انه ادرك جوهر الحياة وقيمتها في موازين العارفين .
لاريب اننا قرأنا اعمال كاتبنا منذ سنوات طويلة استعدنا قراءتها واستعدنا ومازلنا نستجيد ...ونحاول التعبير عن تلك المتعةما وسعنا ذلك محتفين بهذة الاضافة الثرية الملهمة الي حياتنا القاحلة الجديبة. مازلنا نتوقف عند مفرداته ونثره المختلف الذي لم يتوفر كثيرا لدي معظم الكتاب االروائيين .نتوقف دائما وكثيرا عند تلك المقدرةالعبقرية علي الوصف والتعبير .تجد ذلك في كتاباته المتناثرةفي مقالات او احاديث صحفية اومقدمات لكتب. ذلك غير رواياته التي اضحت متاحة للقراء في معظم لغات العالم الحية .
كتب مرة يصف لقاء له مع الام تيريزا، وهي مبشرة مسيحية شغلت العالم باعمالها الانسانية وحبها للفقراء وتفانيها في خدمتهم .رآها في صالة المغادرة بمطار الخرطوم .هو كان في وداع احمد مختار امبو؛مدير اليونسكو الاسبق. ما قرأت نصا ازهي واروع مما كتب.نثر يزري بالشعر الفخيم .كأنه صيحة ابن عربي"أدين بدين الحب " توجه بكلياته وقلبه يصف ذلك الحضور الاشراقي لتلك المرأة ا لعجائبية .قال "وكان الوقت اواخر الليل ،فاذا ضؤ يسطع الي اعيننا .التفت الي مصدره،فاذا السيدة العجيبة تدخل بهدؤ كما يسيل الماء في الجدول .عليها الثوب الابيض الذي اشتهرت به .وحولها فتيات في مثل زيها .سمراوات .هنديات .أو اثيوبيات او خليط من الاجناس .جلست علي كنبة وطيئة وجلسن حولها ،وعند قدميها كأنهن افراخ حمام في عش.وجهها مغضن ملئ بالتجاعيد .وجه جميل .اجمل ما وقعت عليه عيناك .يذكرك بوجوه كثيرة احببتها وضاعت منك في زحام الحياة .تملؤك بالحبور والحزن وتراها خفيفة جدا .وهي صغيرة الحجم اصلا.كأنك تستطيع ان تحماها في راحة يدك.تريد ان تحتضنها وتقبلها كما تحتضن جدتك او امك او ابنتك."
لم ينس المبدع ان يربط بينها وبين الاميرة ديانا والعلاقة التي نشأت بينهما والنهاية المريعة للاميرة الجميلة والتي توافقت مع رحيل تلك السيدة العجيبة....مضت تريزا في صمت، ولم يكف الاعلام عن الضوضاءبشأن ديانا.سافرت كل واحدة منهما في نهاية المطاف وحدها وكذلك الطيب صالح ...
فاي شهاب قد سطع في سماء الادب ،واي رجل قد تواري وذهب.
غاضت الينابيع وتصوح البستان، فوداعا ابا زينب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.