[email protected] ( 1 ) يحدثونك عن جاذبية الوحدة، وكيف يكون البذل من هنا ومن هناك، لاختلاق فينيق جديد، من رمادٍ، أوشكت رياح الضغائن أن تذروه، وعاديات الإحن أن تعصف به، غثاءاً محضا. ثم تتطلع حولك فترى الإلهام يتيماً بلا مُلهِمين فعلة، ولا مُحفِّزين يتوسلون لغيبوبة أضاعت أحلامنا ونحن في مغاطسنا غرقى . أقصى ما نستدعيه من ذاكرة الجهاد وصون الوطن السودان، هو ما تداعى من سيرة المهدي وسيرة الدولة المهدوية، وسيرة رموزها ، بكل ما حوت من ايجابيات تحققت لبلدٍ، لم تكن أطرافه وحدوده على وضوح ، وبكل ما استصحبت من مظالم لم تغب عن أعين التاريخ، ولا عن أعين من شهد ذلك العهد، وشارك في نجاحاته كما في اخفاقاته. لا أريد أن استدرج القاريء لسقطات شهدتها مسيرة الحركة الوطنية، في رؤية لبعض أطرافها –على سبيل المثال- لثورة 1924 ، كون بعض قياداتها ليسوا من "ذوي الأنساب". لعلنا في أشد الحاجة لفتح الجراحات القديمة من جديد ، حتى نرى انعكاسات وجوهنا في مرايا التاريخ القريب ، على حقيقته ،محتشداً بالنجاحات كما بالمظالم ، بالانتصارات كما بالمخازي . لو كنا على سجيتنا ، بعيدين عن الاستعلاء الزائف، لرأينا رموز ثورة 1924 ، جميعهم لا فئة مختارة منهم، بعين العنصرية المقيتة، ولعرفنا كيف نستلهم رموزنا التاريخية ولقرأنا تاريخنا بعين منصفة لا عين مجروحة ، ثم نكتبه من بعد، بروحٍ ترى الوطن بتنوع مكوناته وثرائها، مجتمعاً متوحدا ، لا شتاتاً منفرطا. ما أثقل الحديث عن هذه الاخفاقات وقد تلوثت أيدينا بطين وحلها ، وكأن الاستعمار أحبولة حيكت بذكاء لاصطياد نوايانا واحياء شياطين الشر الكامنة في النفوس. لك أن تسأل كيف تتجلى ممسكات الوحدة في الوجدان ونحن على ريبة من أمر رموزنا المُلهِمة، تنكرها الذاكرة المريضة عن عمى ، ولكنها في مرايا التاريخ، تلوح أوضح من الوشم في باطن اليد. .؟ على أن بناء الأوطان لا يتحقق إلا باحتمال مثل هذه الاخفاقات والمصابرة على ابتلاءاتها، وهناً على وهن ، حتى ساعة الظفر التي تتخفى في غيوم بعيدة المنال، جائزة لا تصاد إلا بعد التضحيات الجسام. ( 2 ) وقعت على سيرة رمزٍ وطني من رموزنا الباهرة ، نستحضره فلا يكاد يبين ، نستجلي دوره فلا تجد صدى لبذله في كتب التاريخ. فيما تتخبط خطانا على الدرب ، وقد استشرفنا محطات مفصلية تركت الوطن الواحد عرضة لمئآلات شتى ، ولمصائر ملتبسة ، يكاد بعضنا أن يكفر بالبلد الذي كتب التاريخُ قبل ترهاقا، أن يكون حول الوادي بلداً واحدا . لكأن الحرف المختلف بين "النوبة " في الشمال النيلي و"النوبا" في جبال كردفان، تلزمنا أن ننشيء حدودا تفصل بينهما، وتأشيرات دخول وخروج نقترحها بلا طائل ، ومواطَنات(بفتح الطاء) جديدة، نصطنعها ثم "نفتل" بلداناً مشوهة ، فتل العملة الصعبة في سوقها الأسود، لن يقتنع التاريخ بها ولا الجغرافيا ولا الوجدان السليم. وقعت على سيرة ذاتية خط جزءها الأول بقلمه وسجل الثاني مشافهة ، صاحبها ستانسلاوس بايساما. ولأكون أكثر دقة فهو صاحب إسمين في طفولته ، هو عبدالله كوجوك اسامه هارون، طفلاً مسلماً كما يشي الإسم ، ثمّ في صباه وكهولته، هو ستانسلاوس عبد الله بايساما. وبين الإسمين قصة الوطن خبيئة بين حنايا الرجل ، تجلياتها تحضّ على البكاء حسرة على ما أضعنا في برية السودان من فرصٍ وسوانح، لو استبصرنا ملياً ذلك الذي حولنا واستعصمنا بتاريخنا القديم التليد ، لتجاوزنا هذا الكم الهائل من المحن والعثرات، التي أفضت بنا إلى ما نحن عليه الآن من عطب سياسي فادح. الذي رابني في سيرة الرجل، أنها صدرت في طبعة منزلية عن كنيسة من الكنائس، لم تترك إسمها واضحاً على المطبوعة، وأغلب الظن أنها أنجزت على آلة كاتبة في عام 1987، قبيل رحيله بأقل من سنة، ثم صدرت في كتيب عام 1990 في الخرطوم بتحرير القس ف. ديللاجياكوما، والأرجح أنه قِسّ ايطالي نابه عرف قدر العم ستانسلاوس. ثم أن الكتيب لم يتوفر في مكتبات معروفة، ولقد تعب صديقي د.أحمد الصادق الذي وافاني بنسخة عزيزة منه ، أيّما تعب . سيقف السودانيون – ولا أقول الشماليين من أهله- وقفة عجبٍ تختلج معها الحواس جميعها، اختلاجاً كبيرا، وتنذهل العقول لصراحة بدرت من الرجل لم تكن معهودة ، ليس في زمانه بل في زماننا الحاضرهذا أيضاً. ولأقرّب لك الصورة، أريدك معنا عزيزي القاريء، حين جلسنا في "استديو سرور"، وهو ستديو من أفضل ما جهّز صديقنا معتصم فضل في الإذاعة السودانية، لتسجيل حلقة عن كتيب ستانسلاوس ع. بايساما، مع الأديب الناقد الحصيف د. أحمد الصادق والصديق الأستاذ سليمان الأمين، إذ تداولنا أمر عنوان الكتيب بداية ، كيف يخرج للناس عبر الإذاعة دون أن نخدش نعومة المايكرفون، أويضطرب سكون الاستديو . اهتدينا بعد اقتناع أن نقرأ عنوان الكتيب كما ورد معرّباً عن الانجليزية التي كتب بها ستانسلاوس ع. بايساما: "سيرته ذاتية، عن كيف صار العبد وزيرا ". كان السر السيد مخرج الحلقة الإذاعية تلك حصيفاً مقدراً لما تداولنا حوله. خطر لي أن صعوبة العنوان، لا شكّ تفسر بقاء الكتيب بعيداً عن التداول. ليس ذلك فحسب ولكن بقي الكتيب بعيداً عن لغة الناس، ولم يهتم أحد بترجمته، برغم ثراء سيرة الرجل وعلوّ مكانه وخطورة الدور الذي استظهره قبيل الاستقلال وبعده ، كما سيرد أدناه . . ( 3 ) ستأخذك الدهشة إن عرفت أن ستانسلاوس بايساما، المولود مع بدايات الحكم الثنائي، هو في الأصل من جنوب غرب دارفور، وليس "جنوبياً" بالكامل . هو دارفوري بالميلاد والجنس ، و"جنوبي" بالتنشئة، إن جاز الوصف. يقول الرجل في سيرته الذاتية، أنه ولد في جنوب غرب دارفور ، ودرس في الخلوة في طفولته ، ولكنه وقع أسيراً في إحدى غارات الاقتناص الذي كان يجري بين القبائل في تلك المنطقة وذلك الزمان. حكى عن قصة أكثر إثارة عن هربه من مكان موحش إلى مكان أقل وحشة، ومن نخاس قاسٍ إلى آخر أكثر رحمةً، في شبه استعباد ناعم. لكن سرعان ما احتضنته الكنيسة وصار مسيحياً وتعلم بتشجيع من الرهبان ومن الموظفين البريطانيين في راجا ورمبيك وجوبا . صار مُعلّماً من بعد، وقريباً من الكنيسة. في العقود الأولى من القرن العشرين، صار ستانسلاوس من أوائل الجنوبيين الذين التحقوا بالخدمة المدنية في جنوب السودان . كان طبيعياً أن يجد الرجل نفسه في غابات السياسة في الجنوب، لاعباً رئيساً . شارك عن بعد في مؤتمر جوبا عام 1947. عرف محمد صالح الشنقيطي وعدّه من أصدقائه ، كما عرف ابراهيم بدري ، وكلا الرجلين من شمال السودان لكنهما من أوثق الأقربين والعارفين بأحوال جنوب البلاد. تنبّه الرجلُ في تلك السنوات من القرن الماضي، إلى حاجة الجنوب لمؤسسات تنقل صوت الجنوبيين إلى أسماع أهل الحكم من البريطانيين المتأهبين للمغادرة ، وللسودانيين من قيادات الحركة الوطنية، وقد لاحت تباشير الاستقلال بعد اتفاقية الحكم الذاتي ، واقتربت ساعة رحيل الحكم الثنائي ، بطرفيه . فيما تحفز الوطنيون لاعتلاء كراسي الحكم، كان صوت ستانسلاوس في الجمعية التشريعية، صادحاً ينادي بحكم ذاتي في جنوب السودان . تنزل الرأي من قناعته بتفاوت مستوى الوعي والتعليم ، وما تداعى من سياسات المناطق المقفولة التي اتبعها المستعمر ، تجاه جنوب السودان، يعد بمكرٍ ليكون جزءا من منظومة أخرى ، لا جزءاً أصيلا من السودان. ذلك خيار واحد من بين خيارات راودت وزارة المستعمرات البريطانية . نظر بعض أهل الجنوب وصفوة المتعلمين منهم ، إلى ستانسلاوس نظراً مستريباً أول الأمر، وأفصح بعضهم ينعت ستانسلاوس بأنه لا ينتمي للجنوب، ولا يلهج بأي لسانٍ من لهجات أهله . ذلك النعت خلّف في نفسه بعض مرارة وبعض إحباط، لكنه لم ينثنِ ولم ينكسر. أنشأ ستانسلاوس أول حزب في الجنوب وسماه "الحزب الليبرالي". كان الرجل صوتاً داوياً إلى جانب صوت بوث ديو وصوت بنجامين لووكا وغيرهما . عرفت الساحة الجنوبية وقتها أصواتاً شتى، بينها صوت كليمنت مبورو، والأب ساترينينو وزعيم الدينكا، شير ريحان ولادو لوليك . ( 4 ) قبيل الاستقلال، كان ستانسلاوس بايساما في البرلمان، مع كتلة من الجنوبيين ، لخصوا مطلبهم في الحصول على حكم ذاتي في الجنوب، وكان من رأي ستانسلاوس، ومن تأكيداته ونذاراته في البرلمان: أنه ليكن مفهوما أن الجنوب لن يقبل بأقل من الحكم الفيدرالي . بعد الاستقلال، لم يتحقق شيء من ذلك، بل كان خداعاً بحتاً. كتب منصور خالد في كتابه "قصة بلدين" : ((..ولم يبدِ الحزبان الرئيسيان(حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي) اهتماماً كبيراً بتلك النذارة، وربما كانا يعتقدان بأنهما كسبا الجولة ، وسيكسبان الجولات الأخرى بمزيد من المكر والخداع. فجوهر الاستقلال منذ البداية، كان جوهراً كذّابا، كما كان القسم الذي أدّي لدستوره قسماً كاذباً. ما درى المُقسِمون أنّ اليمين الكاذبة تدَع الديار بلاقع، كما جاء في الأثر.))، أنظر صفحة 219 من كتاب منصور خالد:"السودان أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين"، (القاهرة، دار تراث -2003) يأتي الاستقلال فيتولى العم ستانسلاوس وزارة النقل ، ثم لا يستقر به الحال، إذ يجبر على الاستقالة من طرف الأزهري رئيس الحكومة ،وينأى ستانسلاوس عن ذكر التفاصيل في كتاب سيرته. لا مناص لمن أعيته الحيلة غير كظم الغيظ. يستريح قليلاً ، فيقع انقلاب 1958 ،ويرأس البلاد الفريق عبود الذي آثر الحل العسكري للتمرد الذي نشب في الجنوب . حين وقع طرد القساوسة ورجال الدين من الجنوب بعد عام1962، حزم ستانسلاوس أمره، وتوجه للقاء الفريق عبود ليتداول حال الجنوب معه، لكن عبود ، وهو صديق يعرفه ستانسلاوس، آثر أن يناقش كل شيء مع صديقه إلا موضوع الجنوب. ورد ذلك في صفحة 68 من كتاب سيرته. رجع ستانسلاوس إلى الجنوب، كاظماً غيظه، معتكفاً مع زوجه معلناً صياما طويلا عن السياسة. ينعقد مؤتمر المائدة المستديرة للتداول حول أمر الجنوب عام 1965 ، وقد رحل حكم عبود، ولكن حركة "الأنيانيا" التي يقودها جوزيف لاقو لا تزال تقاتل بلا هوادة . لم يكن ستانسلاوس هناك، غيرَ أنّ روحه كانت تجول في قاعات التداول، كلما وردت كلمة "الفيدريشن"، أو الحكم الذاتي. يقع الانقلاب العسكري الثاني في البلاد، ويأتي نميري إلى حكم البلاد، ويقترح الحكم الجديد طروحات تلبي حاجات الجنوب بقدر. يجري التفاوض سراً ثم جهراً في أديس أبابا عام 1972 ، ولكنك لا ترى أثراً لستانسلاوس بايساما . في ثنايا الإتفاقية التي أعادت السلام إلى ربوع البلاد لعقد كامل ، كانت روح بايساما ترفرف حفيّة بما تحقق. . ( 5 ) نظرت في سيرة الرجل فوجدته الأكثراستحقاقاً للقب "المواطن السوداني الأول". جمع التنوّع من أطرافه ، ومثل وجداناً ثرياً ، فلا هو ذلك المسلم المتطرف، وقد كان مسلما في يوم ، ولا هو ذلك المسيحي المستغرق في كنيسته ما همه من وما حوله . كان مُعلِّماً وكاتباًعرفته الخدمة المدنية، كما عرفته أروقة السياسة وقاعة البرلمان وكرسي الوزارة. فوق ذلك كله تمثلت فيه مكونات الهوية السودانية ، دماً يجري في شرايينه، وسحنة تشربت منها بشرته، ولسانا عربياً فوراويا جنوبياً سويا . ما استوقفني إلا قلم واحد كتب عن الرجل وأهداه ، مع إثنين آخرين، سفره القيّم : "قصة بلدين" ، ذلكم هو د.منصور خالد، إذ كتب : (( ستانسلاوس عبد الله بايساما : نشأ في بيئة شمالية إسلامية(دارفور)، وحفظ القرآن في خلاويها، ثم استُرقَ ، وبقيَ في رقّهِ إلى أن حُرر فرَعَاهُ في بحر الغزال المبشرون ونصّروه، تلك الرحلة القاسية لم تبقِ في نفس الرجل غيظاً عندما جاء الاستقلال. فالمغيظ يتشفى. كان بايساما في طليعة الدعاة لوحدة الشمال والجنوب، ولاحترام ديانات أهله وأعراقهم على اختلافها ، وكان يعبر عن رأيه بعربية فصيحة يغذيها بكلام الله. هذا الرجل الذي كظم غيظه، وعفى عن الناس، وعري عن كل ملامة ، طرد من الوزارة ، وأودع السجن لدفاعه عن الوحدة الفيدرالية .)) ص.3 من "قصة مدينتين"، المشار اليه أعلاه . إن شحذ الهممِ لاجتذاب الوحدة ولابتناء اللحمة الجامعة ، يستلزمنا استدعاء الرموز النيرة في سماء الوطن، نستلهمها رشداً نحن في أمسّ الحاجة لاتباعه، وخلاصاً نتلمسه في قراءاتنا العميقة لبذلهم، بلا تزيّد ولا استصغار. إن اسم ستانسلاوس بايساما، يظل برّاقاً لامعاً في هذا الليل البهيم . . الخرطوم – يوليو 2010