كنت أتصور أن الطبيب الحاذق والسياسى البارع مصطفى عثمان اسماعيل الذى لم اجد وهناً فى منطقه،ولا خللاً فى سكبه،ولا سقطاً فى ألفاظه،ولا شططاً فى معانيه لا يرمى بنفسه فى غمرات الرأى إلا على هدى وبصيرة وأن عقله المتقد يستقصى ألفاظه ويتحرى أعطاف كلامه حتى لا يتفوه لسانه بكلمة تمجها النفس أو عبارة ينفر منها الذوق السليم،لطالما أطنبت فى مدح الوزير الذى لا يجرى معه أحد فى عنان،والذى لا يجود بمثله زمان وخلعت عليه من الألقاب ما أن مفاتحه لتنوء بأولى العصبة من الرجال،وختمت على مسامع عترتى وخلانى بأن السودان الذى تزعزعت دعائمه،وتضعضعت نعائمه لا ينهض من كبوته ويجتاز محنته إلا على كاهل ممن هم على شاكلة المستشار الهمام فنحن يعوزنا الكثير منهم ولا يتسنى لنا أن نرتقى إلا بهم ولا نسلك وسط هذا الرّهَج والعجاج الطريق الصحيح إلا بهديهم وندّ عن ذهنى أن فخامة المستشار بشر والبشر النقص ممتزجاً فى جبلتهم مؤثلاً فى تركيب فطرتهم وأن الكمال صفة تلازم الخالق عزوجل ولا تتعداه إلى غيره. لا أيها السادة ليست الغطرسة والإستعلاء من شيم المستشار فهذا افتئات على الرجل وتعدياً على سيرته وأزعم واعتقد أننى قادر على اثبات ما أزعم –كما قال الأديب الضرير طه حسين- أن المستشار النابه ليس ممن يتكالب على السلطة ويفنى فيها ذاته بل هى من قصدته فى خفر وحياء وجمعت ثوبها الموشى وجثت تحت قدميه ترمقه فى غنج ودلال،كما لم يكن هوى الشيخ القطب الدكتور الترابى ناضباً فى قلبه وتبجيله ضامراً فى عقله بل كان هادراً متدفقاً لا يحجزه سد ولا يحصره ساحل،ولكن الحقيقة التى لا يمارى فيها أحد أن ذكاء مصطفى الذى يشع من عينيه وحكمته التى نطقت بها فكيه هى التى أهلته لنيل تلك المناصب ذات الرزء الوطنى الفادح والتى نهض بأعبائها على أكمل وجه فلم يدع خلّة إلا سدها،ولا ثلمة إلا رمهّا،ولا انفتاقاً إلا رتقه،ولا وهناً إلا جبره،ومضى كما عهدناه يجلو العمى،ويكشف الضلال،ويفضح المكيدة. ولكن رغم هذا الإرث الحقيق بالإعجاب أوشك الحديث الذى أدلى به المستشار فى الرياض أن يذهب بتاريخه السياسى ويخمد عرقه النابض وأضحت تلك الكليمات فى ومضة عين حديث الصحف والمرئيات ومادة الخطب والمحاضرات وجعلت الإستياء يمور بين الحنايا والبغض يلامس شغاف الأفئدة،فهاهو من شهد له الخصوم بالعقل الراجح والفكر القادح ينعت شعبه بنعوت لا تصدر حتى من أهل النوك والهزال الأمر الذى جعل البعض يزعم بأن الإنقاذ قد نضبت قرائحها وتراجعت عقولها...ولا يعدم المرء منا حجة للإعتقاد بأنه قول أحاط به الزيف من كل صوب وشابته الغفلة من كل جانب،ولكن دعونا أيها الأكارم نميط الأذى عن صورة المستشار التى ترقد وادعة فى جوانحنا ونطرح الواغش عن أطارها ونرم ما تحطم من جزئياتها وننتحل له عذراً صادقاً أو شبهة تدرء عنه غضب السود الذين لا يصبروا على خسف أو يطمئنوا إلى غضاضة فالرجل يذب عن وطن يستبيحه الغريب وتجول فيه مركباته التى تمزق فدافد الأرض لتعيث فيه فسادا وشعب يتخطفه الموت ومستقبل يكتنفه الظلام لذا تراه لا يستقر له جنان من الروع وقد تبدى ذلك من خلال قوله معبراً عن مثالب الإعلام العربى:" مشكلتنا في أجهزة الإعلام.. للأسف الشديد لدينا إعلام غبي.. لا يفرق بين الأمن القومي والسبق الإعلامي"والمستشار حينما كان يتولى حقيبة الخارجية ومازال متوثب العزيمة دائم الحركة والإضطراب يضرب من أفق لأفق ويخرج من غور إلى غور حتى سقط من العمل الدائب والعناء المرهق فتفوه بتلك الكلمة الجامحة...لقد أراد أن يمدح ثورته المجيدة التى تناكب قوى البغى والإستبداد بالمناكب العريضة والتى عظمت مفاخرها وعلت مبانيها،والتى أحالت الشعب الذى كان يتكفف الناس ويتسول السكر إلى شعب مترع بالغنى والرياش ومفعم بالرّئى وسعة المعاش،ولا أعتقد أن المستشار كان يرمى لرسم لوحات فجة عن شعبه أو حطه عن منزلته و اذاعة غفلاته وتتبع سقطاته. أقول رغم المناقشات الفجة والأصوات الناشزة أن الدكتور مصطفى لم يفترى على شعبه كذباً بل كان صادقاً فيما قال...إننا نقر أيها السياسى المحنك والمستشار الذى لا تعزب عنه شاردة ولا واردة فى فن الممكن قبل مجئ ثورتك الظافرة بأن السواد الأعظم من هذا الشعب كان يعيش على الطعام الوخيم والماء الكدر والفراش النابى ولكنه لم يشكو من الوصب الذى نجم عن حروب رعناء لا تأصرها آصرة ولا تدركها رأفة بالنسيج الإجتماعى الذى تداعى وتهدم بسبب سياسة ثورتك الخرقاء التى قذفت الرعب فى كل قلب والشقاء فى كل منزل والتى آثرت أن تنصر عنصر تعتقد أنه خالى من الشوائب على عرق هو مادة القذى والدرن ونسيت أن السودان عُرِفَ بهذا الخليط وتفرد بهذا التنوع وأن هذا الوطن المترامى الأطراف قد امتزجت علائقه فلم يعد يكترث لمعايير الشرف والخسة،كما أن المعارضة الموتورة التى لم تملك الألباب ولم تثير الإعجاب ولداتها من الحركات المتخلفة العجفاء اللاتى لا تتحرك إلا فى اطار دوافعها الأنتهازية واللاتى أصلبها عوداً،وأصفاها جوهراً،وأجودها طبعاً،ماهى إلا أداة فى يد المستعمر الغربى يستخدمها لنيل شهواته وحصد نزواته وقادة تلك الحركات يتراشقون بالتهم من غير بينة، ويسعون إلى الحكم من غير غاية،ويبدوا أنّ متعتهم برؤية الدماء المنزوفة والدموع المذروفة هم والسادة أعيان الفضل وأقطاب الفخر حكامنا الأماجد لا تضاهيها أىّ متعة أخرى،أما الولاه حُكام الأقاليم المنكوبة فقد درجوا على الطمع والغلول حتى صارللفساد رائحة تزكم الأنوف،أيها المستشارصوّب بصرك تجاه هذا الشعب المجهد وستراه متدثراً بلفائف المرض رغم وفرة العلاج وأرتال الأطباء فهو رغم كدحه الدائب وراء الرزق الشرود لا يستطيع أن يسدد فاتورة نِطاسى تخرج للتو من جامعه لم يفقه فيها من الطب سوى أسمه،أنظر لمن يشايعون هذا النظام ستراهم وقعوا فى براثن الأهيغين الأكل واللهو،تطاولوا فى البنيان وتنقلوا فى البلدان وأضدادهم أنضاء الفاقة يعانوا الشظف ويكابدوا الحرمان ويرددون فى حسرة وأسى أبيات الكميت بن زيد: فقُلْ لبنى أُميّة حيثُ حلُّوا...وإنْ خِفتَ المُهنَّد والقَطِيعا أجاع الله مَن أشبعتُموه...وأشَبعَ مَن بجَوْرِكُمُ أُجِيعا الطيب عبدالرازق النقر عبدالكريم الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا غومباك-كوالمبور