ثمة رجال كُتب لهم أن يكونوا في الصف الأول. ثمة من شاء القدر أن يكون أحد صانعي القرار، وثمة من اكتفى بالصف الخلفي. هناك من يحمل الشعلة ولا يعرف الراحة حتى يسلم الأمانة. في ذهننا نحن عامة الناس ثمة حسدٌ مبطن لكل من حمل لقب دبلوماسي أو سفير. العبارة- المهنة- تقترن في ذهن البعض منا، أو في ذهني على الأقل، بالسفر الدائم. والسفر مرادف للمغامرة والترف في مرات عدة. زُيّن لي في ما مضى أن السفراء أكثر الناس سعادة. فهم في سفر دائم يسكنون المنازل الفخمة ويتنقلون في أفخم السيارات ويجلسون في الصفوف الاولى، وكل بضع سنوات يجدون أنفسهم في بلد جديد وثقافات جديدة. كم تبدو هذه الرؤية سطحية وساذجة إذا ما تمعنا أكثر ونظرنا إلى حقيقة الأمور. خلف السفر هناك شوق متغلغل في الصدر لعائلة ، ولأولاد مصيبة إن تنقلوا من مدرسة إلى مدرسة ومن بلد إلى آخر ومصيبة أكبر إن استمروا في بلدهم والأسرة منقسمة لا تجتمع إلا في بعض الإجازات. ثمة مصاعب أكثر وقعاً وأثمان باهظة يتعين دفعها. هناك القرار وما توجبه المهنة بحد ذاتها من واجبات ومهام وسهر دائم وقلق مستمر وتخل عن كل الأفكار الذاتية لصالح الدولة. ثمة واجب لا ينتهي وهموم البلد الأم وبلد التمثيل وما بينهما. التحدي الأكبر يبقى لمن يستطيع ان يُدخل التغيير أو يقود الأمور نحو الأفضل. شاء القدر أن يحلّ بيننا في بيروت سفير من هذا الطراز التغييري البنّاء. سفير وطأت قدماه لبنان في ظرف عصيب، وسط انقسام يلف البلد وصراعات محلية مرتبطة بخلافات إقليمية وأجندات خارجية. أواخر العام 2006 جاء السفير جمال محمد إبراهيم إلى لبنان سفيراً للسودان. كان لبنان في ذلك الوقت خارجاً من رياح الانقسام تحت عناوين عدة أولها المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري. الانقسامات كانت تزداد حدة ولعبة المحاور باعدت بين اللبنانيين. كان تحدياً كبيراً لأي دبلوماسي أن يجتاز حواجز الانقسامات ويمد جسوراً متينة بين مختلف الأطراف اللبنانية دون انحياز لطرف على حساب آخر. لم يتعرّف السفير جمال إلى لبنان قبل أن وصله. فهو كان درسه جيداً قبل ذلك وقبل ذلك بكثير ، وربما قد يكون فهم تركيبته المشعبة منذ كان يقرأ الصحف اللبنانية وهو ما زال طالباً يلاحق الشعراء والروائيين ويتقصى أخبارهم وجديدهم. في العام 2006 كان السودان المبادِر إلى وساطة عربية في لبنان. استمرت المبادرة على مدى أشهر طويلة قادها بحنكة ودهاء الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل بشخصيته المحببة لدى اللبنانيين. وهكذا وانطلاقاً من دوره الطبيعي كرئيس للقمة العربية، وبمبارة من الرئيس عمر حسن أحمد البشير قاد السودان محادثات هامة ومحورية بين الأفرقاء اللبنانيين المختلفين. هي مبادرة كان مستغرَباً أن ينتقدها بعض السودانيين أنفسهم بقولهم إن على السودان أن يحلّ مشاكله أولاً. وبموضوعية ووفق مسار الأمور آنذاك كان للسودان عبر تلك الزيارات المكوكية التي قادها د. مصطفى عثمان اسماعيل يرافقه السفير جمال محمد إبراهيم، دور في تقريب وجهات النظر بين اللبنانيين وفي طرح مبادرة للحل أسست عليها جامعة الدول العربية ومن ثم اتفاق الدوحة في مايو عام 2008. شهد السفير جمال في لبنان تبدلات وصراعات، مظاهرات واعتصامات، فراغ رئاسي وأحداث أمنية أليمة في 7 مايو 2008 كادت تقود إلى حرب أهلية جديدة. رغم كل تلك الصعاب كان للسودان عمل دؤوب في لبنان. أدرك السفير جمال أهمية الثقافة في تقريب الشعوب، فبنى عليها وأسس لعلاقات متينة مع دور نشر ومثقفين وكتّاب وشعراء لبنانيين. كان حاضراً دائماً في الندوات والمؤتمرات بشخصيته القريبة من القلب وذكائه المعهود وقدرته الفائقة على تذكر الوجوه والأسماء. كما أدرك السفير جمال أهمية دور السودان كجاذب للاستثمار وطموح رجال الأعمال اللبنانيين في هذا المجال. فاستثمر هذا العامل ، دون أن ينسى في الوقت نفسه دوره الأساسي في المجال الدبلوماسي. شاء القدر أن لا يكمل السفير جمال مهامه في لبنان، ليس لسبب سوى لأنه بلغ الستين من عمره- سن التقاعد. عندما سمعت الخبر لأول وهلة ظننتها مزحة. ثم اكتشفت أن الكثير من أصدقائه اللبنانيين لم يصدقوا في بادىء الأمر. فعمر التقاعد في لبنان 64، ثم أن السودان في ظرف عصيب ويحتاج لكل قدراته الدبلوماسية. لذا كان من الطبيعي أن يسمع السفير جمال مراراً كلمة : "الآن ؟ " من أحد اللبنانيين تعليقاً على مسألة تقاعده. نعم، إنه القانون ويجب أن يُحترم ويجب أن يسري على الجميع دون استثناء لكن.. ثمة لكن.. لا بد أن أتذكر في هذا المقام سفيراً مميزاً آخر من السودان عرفه لبنان، هو السفير جلال حسن عتباني. هو أيضاً كان ممثلاً لبلاده في أصعب مرحلة من تاريخ لبنان وحضوره ترسخ في وجدان الكثيرين. حمل وسام رئيس الجمهورية اللبنانية الأعلى وانتقل من مهام إلى أخرى ومن رسالة إلى أخرى، ثم كما يوجب القانون أحيل على التقاعد، لكن لم يتقاعد لديه أي حس دبلوماسي. وما زال السفير جلال ذلك السفير السوداني المميز ذو الذهن المتقد والقدرة المميزة على فهم زوايا السياسة اللبنانية وتعقيداتها. مثل السفير جلال لا يتقاعدون، والسفير جمال من هذه الطينة. تذهب الوظيفة ويبقى الحسّ الدبلوماسي . سن الستين لن تكون لديه سوى رحلة من رحلاته العديدة في هذا العالم وجسر عبور إلى حياة متجددة ، أثق أنها ستكون منتجة ومشرقة. سيسلم السفير جمال الشعلة إلى من سيخلفه بثقة أنه أدى دوره على أكمل وجه وزرع بذاراً صالحة في حقل العلاقات الثنائية بين البلدين تعد بثمار جيدة. وإنني على يقين أن من سيخلفه سيكون أهل لحمل هذه الرسالة. على عتبة نيسان (أبريل) أتمنى لك يا سعادة السفير جمال دوام الصحة وشباب الروح وعمراً مديداً زاهياً بورود نيسان. ريما نوفل بيروت