السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سبيل الإجابة على سؤال الهوية (2-5) ... بقلم: محمد جمال الدين، لاهاي، هولندا
نشر في سودانيل يوم 21 - 08 - 2010


وجهة نظر في مساهمة د. الباقر العفيف
أليس من حقي أن أكون " أسود" ذو ثقافة بيضاء!؟. وهو سؤال برغم حدته جائز. والإجابة من عندي: نعم. وظني أن هذا حق مشروع. نعم من حقي!. وبلا شك. "شنو المانع القانوني" أن أكون أسود ذو ثقافة بيضاء؟. ويتضمن بالطبع حق الأبيض في أن يكون ذو ثقافة سوداء. ولما لا!؟. مش الناس أحرار.
واضح عندي أن المسألة الجوهرية تكون: دستورية وقانونية وليست "هوية"!. لأنك لا تستطيع ولا يجب ومن غير المنطقي أن تحدد لي "هويتي" الذاتية لكنك تستطيع بالطبع كسلطة قانونية كدولة (أو في فضاء آخر، مثقف "ثائر" أو من كنت) أن تقول أو تحدد لي حدود تصرفاتي تجاه الآخرين "عدالة" قانون دون أن تقول لي تخلى عن جسدك أو دينك أو ثقافتك أو ما تقول به من تاريخ لنفسك أو ما تدعيه من لون لبشرتك "هويتك الذاتية". هذا ليس من شأنك بل هو شأن الفرد وحده وبالأحرى هو شأن الآخر على إطلاقه. أنت لا يجب أن تقيم محاكم تفتيش!.
علينا أن نتحدث فقط عن العدالة والقانون. هو ذاك إعتقادي.
أليس من حق الباقر العفيف أن يقول ما قال؟.
طبعآ من حقه!. ذاك هو رأيه. إنها رؤيته الذاتية الخاصة للعيش المشترك. في أي دولة محترمة يكون للرأي حرمته. وللناس أن تقبل أو ترفض رؤية الباقر. فالمسألة مسألة حقوق في المقام الأول. غير أن ليس من حق الباقر إذا ما أمتلك القوة المادية أن يجبر الرباطاب على التخلي عن فكرتهم في النظر إلى أنفسهم كعرب والإندماج في أصلهم النوبي الذي تمخضت عنه الأبحاث الآركلوجية الجديدة التي قال بها. وهو أمر جائز. فمن غير المستبعد أن تكون قبائل الشايقية والجعليين والرباطاب برابرة، أي نوبيين شماليين كما ذكر الرحال غيليود الذي زار مملكة الفونج عام 1523 كما تفضل د. الباقر. لكنه بحال من الأحوال عندي أن ذاك الكشف الجديد إن صح عبر الفحص الجيني لن يجعل الجعليين أو الشايقية أو الرباطاب يتراجعون عن مزاعمهم بكونهم عرب.
وحتى لو حدثت معجزة وفعلوا فأنا لا أتوقع أن يقبلهم النوبيون الأصيلون كجزء منهم لا يتجزأ بل أتوقع أن يسمونهم "القوم المتنببة" على وزن العرب المستعربة ويبقون على الهامش متخلين عن مركزيتهم إختياريآ!. هذا لن يحدث عند أي إعمال للحسابات المنطقية. والسبب بسيط وهو أن إدعاء المجموعات المذكورة للعروبة لا بد أنه أنبنى على حسابات عملية ومصالح مادية ومعنوية ثم أصبح ذاك الإدعاء عبر القرون جزءآ أصيلآ من قيم وتاريخ وثقافة الجماعة يتحدد على أساسه إحساسهم بذاتهم الجمعية كما بنفس القدر تتحدد على أساسه تصورات الآخرين لهم. والأمر عندي أكثر تعقيدآ من هذا. فإبراهيم بن جعل الذي تتحدر منه هذه المجموعات الجعلية في الحقيقة أو الخيال هو ذاته ليس عربيآ أصيلآ وإنما من العرب المستعربة وليس العاربة.
فمحمد النبي العربي العدناني هو حفيد إسماعيل بن إبراهيم كما تقول جل المصادر الممكنة وإسماعيل في حد ذاته هو إبن هاجر وهو طبعآ أبو العرب المستعربة وهو في نفس الوقت أخو إسحاق بن سارة وهو جد اليهود. بينما يكون عرب اليمن هم وحدهم العرب "العاربة". هم وحدهم العرب "الجد". ألا يعني هذا شيئآ ما!. ويقول بعض الناس مزاحآ أن بنجامين ناتنياهو أصله شايقي. غير أنه بحسب المصادر والوثائق الإسلامية والعربية فإن اليهود والعرب المستعربة شيئآ واحدآ وبالتالي فإن صح زعم بني جعل بإنتمائهم لإبراهيم بن جعل يكون ناتنياهو اليهودي ليس بعيدآ من الشوايقة من حيث الدم أو الخصال "تمشيآ مع القفشة الشعبية" وليس ذاك فحسب بل أيضآ المنطق!.
ونستطيع أن نتصور أن عرب مصر أصلهم فراعنة وعرب العراق أصلهم أشوريون وأكراد وسومريون وعرب ليبيا أصلهم ليبيون وعرب الجزائر وتونس والمغرب أصلهم برابرة وبالمثل تستطيع أن تقول عرب السودان أصلهم نوبيون. عرب سود، حمر أو بيض لا يهم. هم عرب وبغض النظر عن رأي العرب في الجزيرة العربية بهم ولا يهم رأي الآخرين من كانوا ولن تثنيهم عن تصوراتهم لذاتهم الأبحاث العلمية والآركولوجية التي تقول لهم أنتم لستم عربآ. هم عرب وكفى!. لقد قرروا لأنفسهم أن يكونوا عربآ منذ عدة قرون. فأصبحوا عرب. وأنتهى الأمر!.
وعند هذا المنحنى يطيب لي أن أروي قصة أحد قريباتي مع المطوع السعودي. حكاية صغيرة "حقيقية" في منتهى الشطط.
حدث أن خالتي أم سلمى "جعلية" سمراء داكنة ذهبت إلى الحج في نهاية تسعينات القرن الماضي حوالي عام 1989 فصادفها في أحد شوارع مدينة جدة مطوع سعودي ناصع البياض يلبس عقال ويحمل سوطآ بينما هي حاسرة الرأس فقال لها زاجرآ غطي راسك يا حرمة "يا إمرأة" ورفع سوطه ليضربها فردت عليه "أنا الرجال الجد أبان عمم الجعليين "العرب" الجد ما بغطي ليهم راسي خليك انت أب طريحة دا" (الطريحة إشارة للعقال) تهكمآ وكونه عندها ناقص الرجولة وربما العروبة عن الجعليين أهلها العرب الجد. مش لعب!. وتستطيع أن تقول بلغة أخرى العرب "النوبية" مش القحطانية "اليمانية" والسعودية أبان طرح ديل. عرب ممزوجة بدم الزنوج الحارة!. القصة ليست مزاح!. ففي مخيالها يكون مركز العرب "الجد" هو السودان. ولما لا!.
وجالت وصالت في أرض الحجاز. أرض جدودها الأوائل دون أن تغطي رأسها مثل ما فعلت من قبل جدتها هند بنت عتبة.
ورؤية خالتي وهي إمرأة بسيطة طاعنة في السن وغير متعلمة بالمعنى الأكاديمي للكلمة بما فيها من شطط وعنصرية وتمييز مرفوض لا تخلو من حكمة ما في دروب "الهوية" كما قد تؤشر إلى أن المركزية العرقية وتستطيع ان تقول أيضآ الحضارية أمر غير موضوعي في كل الأوقات وإنما يكفي أن يكون شعورآ ذاتيآ محضآ للفرد أو الجماعة المحددة، ليس إلا!.
عندي أن ورقة د. الباقر العفيف تتحدث عن ثلاثة مستويات رئيسية هي ذاتها المستويات الممكنة لهوية ما، كما سأوضح في مساهمتي المقبلة.

1- الهوية العرقية (ما أسميه أنا بالقيمية أو أحد الهويات القيمية) 2- الهوية الرؤيوية "الآيدولوجيا" و 3- الزمكانية "الوطن" الدولة.
المستوى الأول للهوية عندي هو أس الهويات "الهوية القيمية" وهي هوية لا تقبل القسمة على إثنين، ليست محلآ للنقاش. بل غير مطلوب عندي. خطأ!. فمثلآ من غير المحتمل أن تقنع رجلآ أصيلآ من قبيلة الدينكا بأنه ليس دينكاوي لأن هناك بحثآ أركلوجيآ وجد أن قبيلة الدينكا أصلها في قبيلة الماساي في كينيا. أتصور أن كلما سيفعله ذاك الرجل هو أنه سيضحك ملأ شدقيه ويعتبرك مجرد رجل كثير المزاح. ولن يهمه ابدآ جميع أبحاث الكرة الأرضية التي تحدثه عن تلك الحقيقة. ولو حدثت معجزة وقنع ذاك الرجل بكونه ماساي فمن المحتمل أن لا يقبله الماساي (معضلة جديدة) ولو حدثت معجزة وقبلوه سيكون "دينكا ماساي" لن يكون أبدآ ماساي حقيقي في نظرهم.
فإذا ما تصورنا أن أحد الرجال من أولي الحكمة تصادف أن مر بثلاثة رجال يتشاجرون فوق قطعة أرض كل يود حيازتها بالكامل وهم دينكاوي وجعلى ومحسي. أعتقد أن ذاك الرجل سيكون كل إنتباهه مشدودآ إلى قطعة الأرض لا إلى خلفيات الرجال القبلية. سيفكر في حل. فكرة ما يستطيع أن يقبلها الرجال الثلاثة (يقتنعون بها) على أساسها ربما رضيوا بتقسيم قطعة الأرض بينهم بالتساوي أو تركوها بالكامل لأحدهم وزيادة على ذاك ربما تخلق تصور ما في الوعي الجمعي بالعيش السلمي المشترك عبر الفكرة المجردة بحكم الضرورة: رؤية كلية، على أساسها يستطيع الرجالة الثلاثة العيش في سلام وهم متجاورون دون أن يقتل أحدها الآخر أو يعتدي على ممتلكاته أو حقوقه المادية أو المعنوية أيآ كانت.
عند هذا التصور المبسط نلمح رؤية ذاتية للعيش المشترك ثم رؤية كلية للعيش المشترك. ودون أن تمس خلفيات الناس القيمية. دينكا جعليون ومحس يستطعون العيش في سلام. ثلاث هويات قيمية وثلاث هويات رؤيوية محتملة وهوية واحدة زمكانية. وعيش في سلام. لكن عندما تختل هذه المعادلة ويعتدي أحدهم على الآخر تسقط الرؤية الذاتية للعيش المشترك وتهتز الرؤية الكلية وعندها ربما طالب الدينكاوي بفرز عيشه عندما وجد أن الجعلى والمحسي إتفقا عليه وسلبا حقوقه. وهذا الإختلال يمكن أن يصدر من أيهما بتساوي نسبة الإحتمال المئوية. ما أود قوله أن المسأله ليست لها علاقة عضوية ومباشرة بالهوية القيمية "الخلفية العرقية والقبلية" ولا بالهوية في إطلاقها وإنما بالحقوق. لن يهمني من أنت وما هو عرقك أو قبيلتك ما دمت تحترم حقوقي في العيش المشترك.
وورقة الباقر عندي هي رؤية ذاتية للعيش المشترك أي آيدولوجيا. آيدولوجيا قاسية!. رؤية ذاتية تطالب البعض منا بالتخلي عن هويته القيمية لمصلحة العيش السلمي المشترك وهذا المطالب بالتخلي عن هويته القيمية هو "العربي" هذه المرة. عليه أن يقنع بكونه أفريقي وأسود ويراجع غسيل الدماغ الذي يعاني منه ويتخلي عن الثقافة البيضاء البغيضة التي عشعشت في رأسه كل هذه القرون بحسب كلام الباقر!. نستطيع أن نلمح بوضوح نبرة الإقصاء المضاد. فناء معنوي يعتمل الفناء المادي لآخر ما!. وذاك لسبب محدد طبعآ. سببان في الحقيقة كما لاحظت من قراءتي لورقة الباقر. الأول هو "الهوية!". إستعادة هويتنا الأفريقية "النوبية" الضائعة أو المستلبة مما يؤدي أو يسهم في السلام والتنمية والتقدم والإستقرار للسودان. والسبب الآخر هو أن هناك أدلة ظرفية وتاريخية وأركولوجية وشهود من الرحالة تقول بأن الجماعات العربية الرئيسية في السودان ليست عربية في الأصل و الحقيقة وإنما هم مجرد نوبيين "برابرة" إدعوا شيئآ عبر القرون ليس من حقهم وهو العروبة!. هناك زيف!.
وتصادف أن تكون تلك الجماعات أو بعضها أو صفوة منها تشكل المركز السياسي والهويوي لسودان اليوم. في الحقيقة لعدة قرون. ذاك بحسب قراءتي لدكتور الباقر.
هل هذه الأسباب معقولة؟. الإجابة العاجلة من عندي: لا. ولا بلا شك!.
واضح انني أود أن اقول شيئآ مختلفآ عمما يقوله د. الباقر أي أنني على رؤية مختلفة ولو أنني أتفق في الكثير مع الورقة محل النظر هنا. وإتفاقي يقوم على أن هناك أزمة دولة في السودان وأزمة مجتمع وهناك إضطهاد لجماعات بعينها عبر تاريخ طويل وتصادف أن تكون هذه الجماعات في الغالب الأعم من غير "العرب" وربما من غير "المسلمين" وكي أتسق مع رؤية د. الباقر أستطيع أن أقول أن تلك الجماعات المضطهدة، مهضومة الحقوق بشكل واسع تكون من غير المدعين بإصول عربية.
فأنا أتفق مع ورقة الباقر بشكل كلي في أن هناك مشكلة ولو أنني أختلف معه في بعض تفاصيل توصيفه لتلك المشكلة. هناك مشكلة كبيرة مزمنة في السودان معروفة للقاصي والداني. ولا بد للناس في مثل هذه الحالة أن تفكر في الحلول. ود. الباقر أجتهد وقدم رؤيته في ورقته المعنية للحل ورأي أن جذر المشكلة يكمن في "الهوية". أنا هنا عندي وجهة نظر مختلفة تتمحور حول سؤال الحل بشكل مجمل لا المشكلة وهي سبب كل هذه الكتابة وتتلخص في أنني أعتبر موضوع الهوية ليس جزءآ من الحل لأن الهوية لا تصنع عبر الرؤى والأفكار المجردة وأي حديث عن الهوية في إطلاقها بإعتباره الحل لا بد أن يعتمل الإقصاء والإقصاء المضاد وهذا بالضبط ما فعله الباقر.
ولنا أن نلاحظ أن ورقة د. الباقر المعنية تتحدث فقط عن إدعاء الجماعات الجعلية في السودان للعروبة من قبيل الجعليين والشايقية والرباطاب دون أن تتطرق للجماعات المصنفة عربية جهينية من قبيل البقارة في غرب السودان والشكرية في شرقه! وهي القبائل التي تنتسب في الحقيقة أو التصور إلى جهينة من حمير الذي ينتهي نسبه إلي قحطان جد العرب العاربة في جنوب الجزيرة العربية ( اليمن) مش المستعربة كمان!.
كما نستطيع أن نلاحظ أن الورقة محل النظر تتحدث بتركيز شديد عن جنس آري "سوداني" هم النوبيون دون خلق الله في السودان "هناك شوفينية ما". وهذا هو دليلي "مقطع من الورقة المعنية":
(السودان الشمالي الحالي هو موطن الثقافة النوبية التي ازدهرت لعدة آلاف من السنين قبل مولد المسيح، وهو موطن الممالك النوبية العظمى. وتقف الأهرامات حتى الآن في أرض النوبة، شاهدة علي عظمة الأمة النوبية. وفي القرن الثامن قبل الميلاد قامت المملكة النوبية باحتلال كل أرض مصر وفرضت سلطانها علي وادي النيل . وكانت مملكة النوبة لاعباً أساسيا في المسرح العالمي في العالم القديم، و أقامت الصلات مع عدة حضارات. وكما أوضح لويدس بنغاي "للسودان الشمالي حضارة قديمة مزدهرة، سابقة لحضارة مصر الفرعونية ولمجيء الإسلام. وكانت النوبة ذات علاقة مع كل حضارة ظهرت في مصر .. الإغريق .. الرومان .. العرب .. الأتراك والبريطانيين" .).
ويتضح أكثر ما أدعيه من شوفينية في المقطع أعلاه بالإحالة إلي السياق العام للورقة كونها تقول بأن أصل السودان الشمالي "نوبي" وعلى وجه الإطلاق وهي بلا شك شوفينية مضادة لشوفينية بغيضة سائدة تحدث عنها الكاتب كثيرآ غير أن الخطأ لا يبرر الخطأ. طبعآ مع كل الفخر والإعزاز بالحضارة النوبية في زمانها ومكانها غير أن ذلك لا يعطي أحدآ الحق في إلغاء مكونات الحاضر بحجة عظمة الماضي. ولا أحد يقبل بأن هناك عرق خير من آخر أو قبيلة خير من أخرى لمجرد إنجاز حضاري مهيب!. أليس هذا يعتمل قدرآ من التمييز يتعارض مع مواثيق جنيفا لحقوق الإنسان على سبيل المثال. وهو ذاته الشيء المرفوض عند الباقر من الجانب الآخر أعني ما فعله ويفعله العروبيون كونهم ساقوا ويسوقون الناس في الرسمي وبجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة نحو هوية عرقية ودينية وتاريخية محددة هي هويتهم هم وحدهم كثروا أو قلوا. وهو ما أدي بالبلاد إلى التدهور الإقتصادي والإجتماعي وإلى التفتت المحتمل. تلك تجربة وجب الإستفادة منها.
من "نحن"؟. هذا سؤال غير ذي جدوى وغير مهم البتة، السؤال المهم كيف نعيش في سلام؟. والإجابة على هذا السؤال تحتمل أن نكون "نحن" بلا تاريخ وبلا حضارة وبلا هوية وبعد نستطيع أن نصنع دولة عظيمة.
عندي أن المشكلة قانونية ودستورية. قضية عيش مشترك. مشكلة حقوق لن يحلها الإحساس ب "الهوية" الواحدة من قبيل قناعتنا جميعآ بكوننا أفارقة سود أو سمر أو نوبيين أو سودانيين أو عرب مسلمين وقل ما تشاء. وضربت المثال بالصومال بحيث لم تجديها هويتها الواحدة من أن تكون مثال الدنيا كلها في سوء المآل ومعروف أن الصوماليين مئة بالمئة عرقية واحدة "أفارقة" لا إدعاء لهم غير ذلك (لا جماعة ذات بال تقول بأنها عرب في الصومال أو هنود على سبيل المثال) والناس مئة بالمئة مسلمين ويتحدثون لغة واحدة وتجمعهم أشكال لا حدود لها من أواصر التاريخ الواحد ومرموزاته كجماعة عريضة من الناس تعيش فوق قطعة أرض وعندهم حضارة "بنت" حضارة عظيمة تضاهي حضارة النوبة والفراعنة. غير أن كل ذلك لم يجدي فتيلآ!. ومثال آخر أثيوبيا هي أشبه بحال الصومال من حيث الدين إذ معظم الشعب الاثيوبي مسيحي وكل الشعب الأثيوبي أفريقي لا يقول بغير ذلك (لا يوجد شخص واحد يقول بإدعاء عربي) ولكن حال أثيوبيا ليس بأفضل من حال السودان كثيرآ. والأمثلة لا حصر لها وخذ أمثلة رواندا وبروندي وأسطع مثال ربما تفوق على جميع الأمثلة السابقة هو "الكنغو" وبؤس أهلها من حرب إلى حرب. في الإتجاه الآخر نجد دول تنعم بتنوع عرقي وديني وتاريخي كبير ويبدو أن لا هوية واحدة مشتركة تجمع سكانها لكنها تنعم بإستقرار كبير وسلام وتنمية وديمقراطية مثل الهند وماليزيا وجنوب أفريقيا وكندا.
فالمسألة عندي كما أسلفت دستورية وقانونية، مسألة حقوق وعيش سلمي مشترك لا غير ذلك . وتلك معضلة يستطيع الناس أن يجدوا لها حلآ دون التضحية بهويات بعضهم البعض أو الغوص الرومانسي في التاريخ البعيد وهو أمر إن حدث أي أن الناس لو وجدوا حلآ للهوية لن تكون هي الحل التلقائي لمشكلة الدستور والقانون "العقد الإجتماعي". تلك هي قضية أخرى وتلك هي القضية الأساسية لا الهوية.
بل عندي رأي أشد قسوة عند هذه النقطة وهو أن أي حديث عن هوية واحدة كحل هو دعوة صريحة للحرب أو وقود إضافي للحروب القائمة. كيف؟. لأنك عندها وفي ظل التنوع العرقي والديني والثقافي والإجتماعي في السودان تطالب الناس ب compromises تمس جوهر وجودهم في الحياة كجماعة الشيء الذي قد لا يطيقونه وهو ما حدث في جنوب السودان كمثال للسياسة التي أتبعتها الصفوة السياسية في الشمال عبر الحقب الماضية وهو الشيء الذي تحدث عنه الباقر بإستفاضة. وجاء جون قارنق محاربآ تلك السياسة لكنه دون أن يقول أن للسودان هوية واحدة وإنما قال سودان جديد ينبني على أسس جديدة. عقد إجتماعي جديد. دستور يحترم حقوق الجميع في أن يكونوا ما يشائون. أفريقي، عربي، مسلم، مسيحي، وثني، نوبي، جعلي، فوراوي هدندوي بدون لا يهم كلو تمام. ذاك هو الفهم عندي. أي دستور يحترم هويات الجميع وحقوقهم المادية والمعنوية. ذاك هو الحل وحده لا غيره وسيبقى على الدوام هو الحل طال الزمن أم قصر.
هل أقول أنا أن مسألة الهوية غير مهمة من حيث المبدأ؟. طبعآ لا!. "الهوية" مهمة جدآ للفرد وللجماعة. ولو أن تلك الأهمية يحددها الفرد بنفسه لنفسه!. بل أنا أقول كلامآ مختلفآ جدآ عن د. الباقر من حيث أنني أعتبر الهوية مجرد "حق" شرعي مثلها ومثل " الرغيف" بينما يعتبرها د. الباقر كمثال "دين" كإعتقاد تتأسس على أساسه الحقوق ولهذا رأى الباقر أن: (ان السبب الرئيسي للفشل في تحقيق السلام يعود الى سؤال الهوية ؟ فالهوية جذر كل ازمات السودان) كما يقول.
والأمر عندي ليس كذلك. المشكلة في "الحقوق" إنتهاك الحقوق. فالإنسان من حقه أن يجد طعامه وملبسه ومسكنه وعلاجه وتعليمه. وتلك هي الضرورات الحتمية. ثم من حقه أن يعتقد فيما يشاء ويعبد ما شاء ويفكر بما شاء ويلبس ما شاء ويتحدث بما شاء ويعمل ما أراد وفق القانون وبما لا يتعارض مع حريات الآخرين. ويتجمع ويتفرق ويتظاهر ويكتب ويغني ويرقص كما شاء. ودا حد معقول من الحقوق. ففي هولندا على سبيل المثال زيادة على ذلك فمن حق الإنسان أن يبتاع الحشيش "بنقو" من البقالة ومن حق الرجل أن يتزوج الرجل الآخر كما هو حق المرأة وأكثر من ذلك من حق الإنسان أن ينهي حياته في أي لحظة شعر فيها بأنه يتألم أكثر من اللازم وكل ذلك وفق القانون. إنها مسألة حقوق.
وعندي أن الهوية حق مثلها ومثل بقية الحقوق. حق أساسي. لكنها ليست أكثر من ذلك. من حق كل إنسان أن يمتلك هويته ويفعل بها ما شاء، يخلعها ، يبدلها ، يلغيها نهائيآ يبقى بدون هوية ذاك شأن الفرد وحده ليس شأني أنا ولا الباقر ولا الآخرين وبالطبع ليس من شأن الدولة في شيء.
وبهذا المعنى فإن "الهوية" التي يريدها الباقر حلآ للأزمة آراها أنا تقوم في مقام المقدس المتعالي والمنزه مما يجعلها رؤية جامدة تتعارض مع حقوق الآخرين في إمتلاك هوياتهم التي قد يختارونها لأنفسهم أو وجدوا آبائهم عليها. هوية الباقر التي يريدها لنا كحل للأزمة هي ذاتها المشكلة لا الحل!. وتلك هي النقطة موضع النظر في ورقة د. الباقر القيمة من حيث كونها تتقدم بنا خطوة لنرى المشكلة من زوايا مختلفة وجديدة.
وبهذا القدر أنهي تعليقي على رؤية د. الباقر "أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء". متمنيآ أن أكون قد قلت شيئآ مفيدآ فيما يتعلق بشأن "الهوية". وربما أناقش بعدها أراء أخرى في ذات السياق وفي أثنائه سأقول بتعريفي الخاص للهوية ومكانها من المجتمع والدولة كما مكانها من الأزمة!.
يتواصل... 3-5


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.