يدخل السودان مرحلة مفصلية من مراحل تاريخه الحديث في يناير القادم عندما يذهب المواطن في جنوب السودان لمراكز الاقتراع لممارسة حقه في تقرير المصير كما كفلته له الفقرة 5 (2) من بروتوكول مشاكوس. وفي ظل التعقيدات التي تعيشها الساحة السياسية في بلادنا فإن المواطن الجنوبي وهو يلقي ببطاقته في صندوق الاقتراع لا يقرر مصيره فقط ، بل إنه يقرر كذلك مصير الوطن ككل. غير أن هذا المقال ليس عن احتمالات الوضع الذي يمكن أن تؤول له الأمور على ضوء الخيار الذي سيستقر عليه رأي أهل جنوب السودان ، ولكنه محاولة لقراءة أسباب وتداعيات الحرب الإرترية الإثيوبية التي استمرت منذ عام 1998 وحتى يومنا هذا مخلفة الكثير من المآسي والدمار ، علنا نستخلص من تلك الحرب بعض العبر خاصة وأن الظروف التي تواجهها لا تقل تعقيداً عما واجهته إرتريا وإثيوبيا في أعقاب إعلان استقلال إرتريا في عام 1993. بالرغم من وجود بعض الاختلافات القانونية فيما يتعلق بمسألة استقلال إرتريا وممارسة شعب جنوب السودان حقه في تقرير المصير إلا أن النتائج السياسية للحدثين لا تختلف كثيراً. بدأت الحرب الإرترية الإثيوبية كما هو معروف بسبب نزاع حدودي حول قرية صغيرة يرى الكثيرون في إثيوبيا وإرتريا أنه ليس لها أي قيمة استراتيجية من الناحيتين السياسية والاقتصادية ، كما أن السبب المباشر وراء الحرب كان حدثاً من الأحداث التي يمكن تجاوزها بسهولة خاصة في ظل العلاقات الطيبة التي كانت القائمة حينذاك بين حكومتي البلدين. غير أن هذه الحرب التي لم يكن يريدها أحد خلفت وراءها من المآسي ما لا يمكن تصوره. كان من نتائج الحرب المأساوية وفاة أكثر من مائة ألف من شباب البلدين ، وتشريد مئات الآلاف من المواطنين سواءً كان ذلك نتيجة لقرار الحكومة الإثيوبية بطرد العائلات الإرترية التي ظلت تقيم في البلاد لأكثر من نصف قرن ، أو بسبب تطورات الحرب نفسها والتي قادت لنزوح أعداد هائلة من المواطنين الإرتريين الذين هجروا قراهم بسبب القتال واتجهوا نحو المعسكرات التي أقيمت على عجل وهي تفتقر لأبسط مقومات الحياة. لم تكن الحرب الإرترية الإثيوبية في نظر الكثير من المراقبين إلا نتيجة حتمية لتراكم بعض المشاكل البسيطة بين البلدين والتي تجاهلت القيادات التعامل معها في وقتها. ولم تكن الأحداث التي وقعت في قرية "بادمي" الحدودية الصغيرة والتي كانت سببا مباشراً في اندلاع الحرب إلا قمة جبل الجليد كما يشير القول السائر. ولعل أول مظاهر الخلاف بين الحكومتين كانت بسبب المشاكل الاقتصادية بالرغم من أنهما بدأتا عهدهما بتوقيع خمسة وعشرين بروتوكولاً لتنظيم العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بينهما. وقد اشتملت البروتوكولات المذكورة العديد من الاتفاقيات الخاصة بالتنسيق بين البلدين في عدد من المجالات من بينها: - السياسة المالية وخاصة أسعار الصرف واسعار الفائدة. - التحكم في الكتلة النقدية بحيث تتوافق مع سياسة محاربة التضخم في البلدين. - السياسة النقدية وخاصة فيما يتصل بتوفير السيولة للمستوردين ، ومدخلات النقد الأجنبي في الاقتصاد ، وإدارة الدين الخارجي. - السياسات المتعلقة بالضرائب والجمارك بصورة تدريجية. - سياسات الاستثمار ومعاملة المستثمرين من البلدين على قدم المساواة. من الواضح أن الحكومتين وفي نشوة انتصارهما على نظام منقستو كانتا تسعيان لسد كل المنافذ التي يمكن أن تأتي عن طريقها المشاكل ، غير أن هذا الحذر لم يجد كثيراً وبدأت الخلافات بين البلدين في عام 1996 عندما فرضت إثيوبيا بعض القيود على الواردات من إرتريا في محاولة لحماية منتجاتها المحلية. وقد خلصت اللجنة المشتركة التي درست الموضوع إلى بعض النتائج الهامة التي أوضحت أن التعاون بين البلدين لم يكن يسير على النحو المطلوب. فقد أشار التقرير النهائي للجنة إلى العديد من المشاكل في مجالات تحصيل الجمارك ، ومحاربة التهريب ، وكثرة الرسوم المحلية ، وقوانين إصدار الرخص التجارية مما وقف عائقاً أمام انسياب التجارة الحرة بين البلدين. غير أن طرح العملة الوطنية الإرترية للتداول في عام 1997 كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، حيث قامت إثيوبيا وكرد فعل من جانبها بتطبيق نظام خطاب الاعتماد. كانت العملة الإثيوبية هي المتداولة في البلدين حتى ذلك الوقت. رأى الإرتريون في رد الفعل الإثيوبي نكوصاً عن اتفاقيات التعاون الاقتصادي بين البلدين ، كما رأوا فيه – وربما كان ذلك هو الأهم – أن الحكومة الإثيوبية لم تكن أصلاً على قناعة باستقلال إرتريا لذلك فقد جاء رد فعلها عنيفاً عندما مارست إرتريا حقاً من حقوقها السيادية الأساسية. وبذلك اكتسب الخلاف الاقتصادي أبعاداً سياسية عميقة الأثر ارتبطت في النهاية بتدهور الأوضاع بين البلدين بالصورة التي قادت في اعتقادنا للحرب. من جانبها لم تعدم إثيوبيا بالطبع الحجج التي دعتها لاتخاذ هذا الموقف فتحدث بعض المعلقين السياسيين عن سعي الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا نحو السيطرة على الاقتصاد الإثيوبي وأشاروا إلى أن الحكومة الإرترية كانت تعمل ضمن خطة محكمة بإعادة استثمار فائضها التجاري في الاقتصاد الإثيوبي. بل ذهب بعض المحللين المعرضين للحكومة في أديس أبابا للقول بأن الحرب لا تعدو أن تكون صراعا استراتيجيا بين النظام في أسمرا وأقلية التقراي للسيطرة على مستقبل إثيوبيا السياسي ومواردها الاقتصادية. تبادل الجانبان الأتهامات فتحدثت الحكومة الإثيوبية عن فرض اتفاقيات غير متكافئة ، وانتهاك إرتريا لهذه الاتفاقيات ، وإعادة تصدير المنتجات الإثيوبية التي تم شراؤها بالعملة المحلية ، وعرض معدلات صرف أعلى للعملة الأجنبية في السوق الإرترية ، وشراء الدولار من السوق الأسود في إثيوبيا ، والاستثمار في القطاعات الاستراتيجية بهدف السيطرة على الاقتصاد الإثيوبي. ومن جانبها أوردت الحكومة الإرترية عددا من الاتهامات ضد جارتها الجنوبية من بينها اتخاذ سياسات مضرة بالاقتصاد الإرتري عندما كانت العملة موحدة بين البلدين ، واتباع سياسات لحماية المنتجات الإثيوبية مما أضر بالسوق الإرترية ، وشراء السلع التي تقوم إرتريا باستيرادها من الخارج بالعملة المحلية ، وحرمان الارتريين والإثيوبيين من أصول إرترية من الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية. ولعل المشكلة الأكبر بين الجارتين تمحورت حول حاجة إثيوبيا الملحة لمنفذ على البحر ، وهي مشكلة يجب أن تدق عندنا عددا من نواقيس الخطر حيث أن دولة الجنوب في حالة إعلان انفصالها ستكون دولة مغلقة تحتاج منفذاً نحو البحر. ومع إن الدولتين توصلتا لترتيبات خاصة بشأن استعمال إثيوبيا لميناء عصب بعد استقلال إرتريا إلا أن كل هذه الترتيبات ذهبت أدراج الرياح مع هبوب أول عواصف الخلافات بين البلدين مما جعل إثيوبيا تبحث عن بدائل أخرى في السودان وجيبوتي. يظل السؤال مطروحاً لماذا فشلت الحكومتان الإرترية والإثيوبية في إقامة التعاون بينهما على أسس متينة بالرغم من العلاقات النضالية التي كانت قائمة بين حركتي التحرير في الفترة الأخيرة من حكم الديرق في إثيوبيا ، وبالرغم من الخلفية الثقافية المشتركة للنخبة الحاكمة حالياً في البلدين. ولماذا بلغت الأمور بينهما حد الحرب الطاحنة التي أتت على الأخضر واليابس وقادت للعديد من المآسي الانسانية. لا شك أن الكثير من الأسباب تتعلق بالقيادات التي تسيطر على الأمور في البلدين وبطبيعة النظامين الحاكمين فيهما. فبالرغم من العلاقات الحميمة التي كانت تقوم بين جبهتي التحرير خلال فترة النضال ، وبالرغم من الخلفية المشتركة إلا أن الأمور لم تكن تسير دائما على مايرام حتى عندما كان العدو المشترك واضح المعالم. وتعود معظم الخلافات خلال فترة النضال بسبب الرؤية الفكرية حيال كيفية إدارة الحرب ضد العدو المشترك ، والتقييم الفلسفي لمواقف الأصدقاء ، والاستراتيجة النضالية المناسبة. غير أن هناك أسبابا تتصل بطبيعة العلاقة غير المتوازنة بين الجبهتين فقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا هي الأرسخ قدما في مجال النضال ضد الحكومات الإثيوبية المتعاقبة ، والأقدر على استقطاب الدعم الدولي لقضاياها النضالية. كان هذا سبباً كما هو متوقع بأن يحس قادة الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بأنهم أوصياء على أشقائهم في الجبهة الشعبية لتحرير التقراي. وقد تعقدت الأوضاع بعد استقلال إرتريا وتحرير إثيوبيا عندما اختلفت موازين القوى ولم يكن بالإمكان استمرار العلاقة التي كانت سائدة خلال حرب التحرير. بدأت نذر الحرب الحدودية بين البلدين في يوليو 1997 عندما قامت القوات الإثيوبية بغزو قرية "عدي مروق" في القطاع الأوسط من الحدود ، غير أن الجانبين تمكنا من تجاوز الازمة وقتها عبر رسائل متبادلة بين الرئيسين أفورقي وزيناوي وتكوين لجنة مصغرة لمعالجة الموضوع. وفي محاولة لحفظ هذه المسألة في أضيق إطار على حد قول الرئيس أسياس أفورقي لصحيفة "إرتريا الحديثة" ، فإن المعلومات عن الحادثة لم تكن متاحة حتى بالنسبة لبعض الوزراء في الحكومة الإرترية. غير أن هذا الأسلوب في المعالجة لم يضع حداًُ للتوتر في العلاقات بين البلدين ، بل استمر السرطان يستشري في جسد العلاقة بين الدولتين بالرغم من الوشائج القوية التي كانت تربط بين النظامين. ذهب عدد من المراقبين إلى أن المشاكل التي كان بالإمكان حلها في حينها تطورت بصورة كبيرة قادت في النهاية للحرب الحدودية في البلدين ، وقد أورد هؤلاء عدداً من الأسباب لذلك لعل أهمها: 1 - التكتم الشديد الذي تعامل به النظامان مع المشاكل التي أطلت برأسها. 2 - طبيعة النظامين التي تركز عملية اتخاذ القرار في يد فئة قليلة من الأشخاص إن لم يكن في يد شخص واحد فقط ، وثقة الرئيسين أفورقي وزيناوي بأن الروابط الشخصية بينهما بإمكانها تجاوز أي عقبات في طريق العلاقات بين البلدين. 3 - انعدام المرجعيات الشعبية التي كان بإمكانها أن تقوم مسار الحكومات في حالة انحرافها عن جادة الصواب ، وعدم اهتمام الرئيسين بإقامة المؤسسات والآليات التي يمكنها رعاية هذه العلاقات وتجاوز مواقع الزلل فيها 4 – تغليب النظامين المكاسب الآنية على العمل الجاد من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية. 5 - غفلة أو تغافل المجتمع الدولي وبصفة خاصة القوى الفاعلة فيه عن تفاعل الخلافات بين البلدين ، وعدم التعامل معها بصورة جدية إلا بعد فوات الأوان. مما لا شك فيه أنه ما من أحد في الشمال أو الجنوب يرغب في أن تتكرر مأساة الحرب الإرترية الإثيوبية في السودان ، غير أن مجرد النوايا الطيبة لا تكفي لضمان تفادي مثل هذا الاحتمال خاصة وأن العديد من نقاط الخلاف العالقة لا زالت تحتاج للحل. وإن كان الشريكان قد تأخرا كثيراً في بذل الجهد المطلوب لجعل الوحدة جاذبة ، فإن التلاوم وحده لن يجنب البلاد المزالق المحتملة في حالة انفصال الجنوب سلساَ كان ذلك أو غير سلس. ولحسن الحظ فإن الجميع يدرك خطورة الموقف كما أن الجميع يرفض العودة لمربع الحرب مرة أخرى ، لذلك فإن الوقت للتحرك في الاتجاه الصحيح هو الآن ولا بد أن تكون تحركاتنا محكمة بحيث لا نترك أي شئ للصدف حتى لا تأخذنا تطورات الأحداث على حين غرة. Mahjoub Basha [[email protected]]