هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قمر الدولة الشيخ الصديق: آخر الهمباتة وشعرائهم المحترمين .. بقلم: اسعد العباسي
نشر في سودانيل يوم 15 - 09 - 2010

يعتبر قمر الدولة الشيخ الصديق من همباتة الجيل الأخير المحترم الذي حافظ على قيم الهمبتة الأصيلة ونُظُمِها المتَّبعة، ويعتبر في جيله من وارثيها الكبار، فضلاً عن ذلك فهو شاعر فحل امتلك العبارة القوية والأسلوب الجَزِل والتراكيب الشعرية التي لن تجدها إلا عند الأوائل من شعراء الهمباتة الأفذاذ، أمثال ودضحوية والضرير وود المقدم وغيرهم من الفطاحلة، وقبل أن يستغرقنا الحديث عن الهمبتة في حياة قمر الدولة، يجب أن نذكر أنه ينحدر من بيت صوفي كبير، فوالده الشيخ الصديق بن الشيخ السماني الذي يتصل نسبة بالقطب الشيخ أحمد الطيب البشير، مؤسس الطريقة السمانية في السودان، وليس سراً أن نقول أن والد شاعرنا كان من أفراد الهمباتة، وكان رفيقاً وصديقاً للطيب ود ضحوية ومن مجموعته، كما كان شاعراً لا يُشَقُّ له غبار، وقد ذكره ود ضحوية في أشعاره كثيراً ، كقوله يخاطبه :
الليله البَرِقْ مِن عَصْرُو عمَّ الفِجَّه
مافي مَضَاري غَير قِرَّه وصَقِيعَه ولِجَّه
فِي شَانَ الزَّنازِين وَالسِّجون والحِجَّه
ما بْنَخَلِّي يالصِّدِّيق مَرابيتْ قجَّه
وبنهاية العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن الماضي وُلِد قمر الدولة لأسرة تنتسب لقبيلة الجموعية بقرية طابت الشيخ السماني الواقعة على الضفة الشرقية من النيل الأزرق بولاية سنار، ولد قمر الدولة مصاباً بجرثومة الهمبتة متلقياً إرثها القديم المحترم، وفي دواخله انتقلت صوفية البيت السماني الكبير التي قادته مؤخراً كما قادت والده من قبل إلى طريق الإقلاع عن الهمبتة، ولم تكن ذكرياتها وسجلها الحافل في صفحات ماضيه يؤرقانه بعد ما استقر آمناً مأموناً بقريته الوديعة، فقد كان يستعيد تلك الذكريات في جلساته بتلذذ، وينطلق إلى قصصها وحكاويها في صدق فريد وشفافية متناهية، ويُذكر أن لديه رفقاء أعزاء وأصدقاء مخلصين التقاهم في درب الهمبتة الوعر "كالعجبة" و"التاي" و"العبيد الشاعر"، وكانوا من مجموعته، وحدث أن قاموا بنهب عدد كبير من الابل يمتلكها أحد أثرياء الأبالة ويدعي "باقِرمة"، وحال وجوده بالسجن آنذاك دون أن يرافقهم في المهمة الناجحة، فقام إلى مخاطبتهم برسالة شعرية وهو يٌُمنِّي نفسه بعمل مماثل آخر ضد باقِرمه الذي اُشتهر بالبخل والتقتير:-
قُول للعِجبَه والتَاي والعِبيد الشَّاعِرْ
هَنِيَّه عَليكُمْ السّفره ام سِلاحاً هادِرْ
اكّان المَوْلى هَوَّنْ بى ابْ ضُراعا ً قادِرْ
يوم بِنْزُرو باقِرمه أب قُرُوشاً حاضِرْ
وحكي عن أحد الأبالة المتغطرسين ويدعى ود بشير، وكان يكن كراهيةً شديدةً للهمباتة، وكان شديد الثراء يمتلك عدداً وافراً من الإبل وعربتين كبيرتين كتب على ظهر إحداهما بخط واضح "الفزع ...!" ولا يَخْفَى ما في ذلك من تحدٍّ للهمباتة، وكان ود بشير يرتاد المجالس ويمنح الوقود من عربته هدية للغواني ليتقرب اليهن زُلفى، حتى يستطيع أن يتتبع الهمباتة وأخبارهم حرصا على ثروته الحيوانية الضخمة والعمل على حمايتها من اعتداءاتهم، وفي ذات يوم بمدينة الدامر كان قمر الدولة وبعض رفقائه في مجلس غانية تدعي "بت قلبوس"، فسألها عن الجالسين معها، فقالت له وهي تخفي حقيقتهم:- " ناس صعيد" فقال لها بصوت عالٍ دون أن يقدر للموقف خطورته: "لماذا تجمعين معك امثال هؤلاء العرب الرعاع؟" ومضى إلى حال سبيله، فأحس عندها قمر الدولة بالاهانة، فسأل بت قبلوس عن حقيقة الرجل، فأسرت له بأنه يمتلك مجموعة كبيرة من الإبل توجد بوادٍ بعينه قرب نهر عطبرة، فعزم قمر الدولة على نهب كل ما تقع عليه عيناه من إبل الرجل، فامتطى صهوة جمله "أب خد" واتجه صوب الوادي الموصوف، ونجح في نهب عدد كبير من أجود الابل التي يمتلكها ود بشير، وقادها عبر الفيافي والوديان وتجاوز بها منطقة (المجيد) والأنهار حتى وصل بها إلى منطقة زبائنه الذين يعهدونه وباعها لهم.
وعن هذه الحادثة يقول قمر الدولة وهو يخاطب أب خد شريكه في العملية:
يا أبْ خَدْ وَدْ بشير نضِّفْلُو ماتَرْتَالُو
قَنْجِرْ بيهُو لي البَلَدَ البِبَشْتِنْ حَالُو
بَعَدْ خَتْمَ المَجَيَدْ وسوى البحور في بالو
عَمَلايَ البُتاعْ مِشرِّفِينْ لي مالو
وكان ولع قمر الدولة بالهمبتة زائداً، بَيْدَ أنه مارسها وفقاً لأصولها ونظمها وأخلاقياتها وقيمها التي كادت تزوي مع الزمان، ووضع نفسه في أُتونِ صراعاتها المعروفة مع السلطة والبلايسة والأبالة، وتواترت أشعاره كثيراً في شأن هذه الصراعات، ومن ذلك مربعه الشعري الشهير الذي أنشأه عندما كان معتقلاً اعتقالاً تحفظياً بسجن رفاعة مع عدد كبير من الهمباتة ومن يمارسون أعمال السالف، وكان يأمل أن يقوم رئيس الجمهورية عمر البشير بإطلاق سراحهم، حيث أنه لم تكن هنالك تُهَم محددة في مواجهتهم، فوجه معاني مربعه للابالة في لهجة حادة وقال:
قاعدِين فوقْ رُفاعه مِحَسِّبينْ أَيَّامْ
نَذَرْنا المولى والصَّادْقاب وَرَا وْقِدَّامْ
كان وَدَّ البَشِير صَبَّحْ عَفُونَا العَامْ
الأباله بِنسِيلُمْ خَرَابْ صَدَّامْ
وقمر الدولة يعلم جيداً أن الأبالة خصم شرس، غير أنه يعتدي دائما على إبلهم وفقاً للمبادئ التي ينطلق منها، ووفقاًَ للمفهوم الراسخ في ذهنه، وهو أن شجعان الهمباتة سلطهم الله على الأبالة الذين لا يزكون أموالهم، وهو معنى ضمَّنه مربعاً شعرياً فيه يرد على تهديداتهم، يقول:
أَهَلَ اُم قُجَّه بسألو مِنَّنا وبتحكُّو
كلْ واحِد فَراسْتُو قَدِيمه مَقْطُوعْ شَكُّو
حَالْفِينْ قالوا إن شَافونا مابتفكُّو
نِحْنَا مَسَلَّطِين مِن الله للما بِزَكُّو
واتخذ قمر الدولة ورفقاؤه في فترة معينة مناطق أعالي النيل ومناطق التماس الغربية الجنوبية مناخاً لممارسةِ أعمالِ الهمبتة، وَقَدْ أنشَأَ مُرَبَّعات شعريةٍ كثيرةٍ تحدث فيها عن تلك الفترة كقوله:
حِليل أُم تِقدَه والبَكَره ام وسِم رَطَّانه
إدريس قولو سايْقِين أم قُرون فَتْرانَه
كان حَصَلَ القَدَرْ بيْ هَيْنَه مَابْنِدَّانى
إلا المولى يِشْطُب خَزْنَتْاَ ونيشانا
ويقول أيضاً:
مُتعمِّمين بالآخره ما بِدَّبُّو
شاقِّنُّو الصَّعيد ليْ حدُّو ما بتنبُّّو
على بَلَدَ البيعبُد في الصَّنم زَيْ رَبُّو
خابتين رِزْقُو بيْ الظَرْفْ البِعَوِّقْ حَبُّو
وعن انتصاراتهم وغنائمهم التي انتزعوها ببأسهم الشديد وأسلحتهم النارية في تلك المناحي يقول قمر الدولة:
إندَرَجُو الصَنَادِيدْ الكِلْمَتُنْ مَلْيَانَه
قَطَعوا الحَدْ وغَززوا في العَبيد بيْ سَخَانَه
بالجِيم المَنَضَّفْ وسِيدُو مَا بِدانى
سَايْقين كاره هازِّين فِي الرَشِيد وبهانه
وكانت الهمبتة كثيراً ما تبتسم لقمر الدولة وتقذف السعادة بين جوانحه، وكان يتحيَّن الأوقات المناسبة لأعمال الهمبتة التي تزدهر أيَّامَ الخريف وزمان الأمطار، وهي أيام تسعده بالكسب وإثبات الذات، يقول:
سمحة الشّدّة فُوقْ ضَهَر السَّمِين مُو البَاطِلْ
وشينِه القعده والضَّحَوِي البِيِرْزُمْ هَاطِلْ
البكره السِّيدا عَاجْباهُو ومَسِيلا كناتِل
دي بِنْسُوقَا وكان لَمَّ الفَزَعْ بِنْكَاتِلْ
ويقول:
المال المَدبَّتْ وبِلْعَبَ أبْ جَاعُورَه
ما بِنْسيبو يا حسين بي قصر بيْ طُوله
على سِتَّ البنات البي الجَّمال مَذْكُورَه
دَايْرِين المَجَالْ والسَّكْره عِنْ مَقْبُوله
على أن أيامه السعيدة لا تستمر دائماً وينبت تواصلها عندما يقع في براثن السلطة، ويكون السجن مصيره المحتوم، وقد ذكر قمر الدولة أنه تذوق حلاوة الهمبتة مثلما تذوق مرارتها، فيقول:
ماني صُعلوك بِيُوت قاعِد قميصي بجرُّو
يا ولد النَقَيب ضَايِق حلوه ومُرُّو
على بسط البيضحك في الظَّلامات فرُّو
كم خابِتْ جِمال ما قَيتْ قَبُل ما انصرُّو
وفي سجنه يتذكر المحبوبة فيبثها شكواه، متمنياً أن يتبدل الحال ليخرج إلى الحرية، فيعاود عمله في الهمبتة من أجل المكاسب الكبيرة التي تتيح له الإغداق عليها، يقول:
يا ماشي البَلَد أَغْرِي الصَّفِيَّه سلامي
قُول ليهُم مَتَقَّلْ بي حَدِيداً شَامِي
كان المَوْلى هَوَّن وحَرَكِنْ أقدامي
بي ضُراع نَقيب الصي بِجيك سوامي
وقمر الدولة بما له من نفس قوية وشَجاعةٍ كبيرة لم يكن يأبه بالسجن ولا بأساليب المهانةِ فيه، ويؤمن بأنَّهُ ذاتَ يومٍ سَيَكونُ خارِجَ أَسواره إن لم يوافه الأجل، يقول:-
السِّجِنْ والزَّنازِين أنا مِنَّهِنْ مَبسوطْ
بَعَدْ ما عِصِينا ما بهدِّدْنا ضَرْبَ السّوطْ
عِقْدَ الجَوَاهرْ الفَاصلِنو بالياقوتْ
نَمْشِي مِشَنِقِينْ غير يومْنا ما بِنْمُوتْ
وكسر قمر الدولة أغلاله الحديدية واسترد حريته، لتبدأ مرحلة مختلفة في حياته، فقد قرر أن يسافر إلى المملكة العربية السعودية ليبحث فيها عن عمل. وقد أوردنا أحداثاً وقعت له هناك من خلال قصة "ثورة المهاجرة الشعرية- قصة الوعد السراب" في الباب الأول من هذا الكتاب، إلا أن ما يعنينا هنا كيف كانت تبدو أحاسيس هذا الشاعر وهو في غربته، وقد فقد البوداي وابتعد عن الأهل والولد والأصدقاء ورفقاء الدرب؟ وهو سؤالٌ اكتشفنا الإجابة عليه من خلال المربعات الشعرية التي كان يرسلها من غربته، فمنها ما يشي بأشواقه للأهل والبلد، يقول:
برقاً بِلَوِّحْ ذَكرنا في السعوديّه
حِليل كامْراب ووَدَّ الزّين والمَهريّه
حِليل البِكِرْمُوا الضّيفْ وبِكَفُّوا الميّه
حِليل البى قفاهُنْ ناس عِبيد والسَّيَّه
وكم كانت تؤرقه ذكرى أصدقائه رفقاء دربه من الهمباتة، يقول:
إتذكَّرْتَ رَبعاي القِبيل خاترينْ
حِليل المِن ضُكُرْهُنْ ناس كُتال ظاهرينْ
حِليل الفوق عبوده بِقَرْقِرو الفوردينْ
حليل الشّوفتُن ليْ ويلهم كاسبِينْ
ولم يكن قمر الدولة راضياً عن عمله المرهق في السعودية، فقد كان عليه بحكم عمله كراع للإبل أن يشرف وأن يعمل على غذائها في نهاراتٍ قائظة وفي ليالٍ بهيمة، مما جعله دائم الحنين إلى بلاده وقراها وأهلها، ويتصل حنينه بجمله الذي تركه خلفه. يقول:
دِيما مَكَمّل الحَرْ والنَّهارْ فوق راسي
باخدَ اللّيل وبَقْسِم في الشُوار بي لباسي
حليل كامراب وأبْ قَنْفَه البهيج مُوحاشي
إتذكَّرتَها القَرِي وسوباجو وناسي
غير أن نفسه كانت تهجس له بالصبر، فقد اغترب من أجل المال ليوفر لأبنائه العيش الكريم، فتمنى أن يحصل على ما يتمناه من المال ليعود به لأبنائه في أسرع وقت ممكن، فالحياة هنا لا تروق له لا في غذائها ولا في سكناها، وفي إشارة أدبية بليغة يقول لو تم له ما يريد سيعود لأبنائه وأذناه تحملان ذقنه المرسلة، وحقاً هي صورة شعرية غير مسبوقة تدل على خيال هذا الشاعر الخصب، ونستشف منها عزمه المكنون على التوبة، يقول:
أَكْلَ الفُول والجِبنه وقُعاد الخيمه
ما حقَّتنا ان شاء الله الكريم يغنينا
كان المَوْلى هوَّن وفي الرُّجال لمّينا
نَمْشي أولادنا ونشيل الدِّقِن باضنينا
واهتم قمر الدولة في حياته اهتماماً كبيراً بالإبل، سواء في الفترة التي احترف فيها الهمبتة، أو عندما عمل بالمملكة العربية السعودية، أو عندما عاد منها حيث عمل على تصدير جمال السباق إلى الدول العربية، وقد أكسبه هذا النشاط اهتماماً بالغاً وحباً كبيراً لسباق الجمال، قال وهو يصف سرعة أحد جماله التي كان يدفع بها الى مضامير السباق:
وَسمَك العرج الوَرَقْ القَلمتو نَضِيفَه
ورميةْ ضَنَبَكْ النّحَلَ الحَرَسْلُو خَرِيفه
رشْحَةْ دومك الجَبَنَه المِحاربه اللِّيفه
عندو سرعة الباص الشُّحُنْتو خَفِيفَه
ويقول في شأن السباق لجمله وهو يحثه على الإسراع ليتفوق على جمل المدعو حميد الذي كان يتصدر السباق، ويذكره بآبائه وجدوده الذين تميزوا بالسرعة حتى لا تكون نهاية السباق هزيمة لا يرضاها وتبقي شؤماً عليه. يقول:
قِدَامَكْ حِمَيدْ بيْ جَنا أبْ قَدُومْ
كَتَّا قايدو ساكِتْ لا سَرِجْ لا هدومْ
أكَّان ما تجيب رَحيل جدك المعلومْ
الجايبِنُّو في المَيس كُلُّو فارط وشومْ
وفي وصف قوي وطريف يقول عن جمل سباقه:
أشقى وبجري قاعد ماهو اللتيبْ ومكرّتْ
أَفْشَقْ شارِد الكيعان ولعَّاب حَرَّتْ
شبه البِمطِر البَرْق أبْ سَحابةً جَرَّتْ
فاجِر بَوشْ ضحيهو لِقالُو سيف وزَغْرَدْ
ولقمر الدولة مربعات شعرية في وصف الجمال، بها من القوة والجزالة ما يذكرنا بأشعار الفطاحلة من شعراء الدوبيت، انظر إلى قوله:
أمسى قَفاك بي درب الدَلَمْ واتحرَّتْ
هافا ضَميرو مِنْ جَبْدَ القُشاط واتخرَّتْ
المَخْلُوفه جَضّتْ من جَريكَ وْصرّتْ
يا ضِدَّ العَتَامير السِمُومِن حَرّتْ
وقوله:
وَدْ جَمَلَ المَهورَه اللّيهو القَبيله مْتالبَهْ
أُمُّو مداقمه من مفرودا للناس غالبَهْ
يا ضدَّ اللَّهوبات والسَّمايْمَ القَالبَه
دمُّو بِشيشو أزرقْ مِن سبيب الطالبهْ
وهو يبدع عندما يتحدث عن الجمل أو إليه في إطار ثلاثية الدوبيت الخالدة، يقول:
يَهَدِر عَقَبْ اللّيل كُلُّو فوق أخفافو
واقِفْ ما بَرَكْ طارِي النَّجِيع ونَشَافُو
البِطْرِبْنِي أنا وجملي النبح سَرَّافو
أتَّابل على المَريود ضَمانه أو صافو
ويقول:
يا أبو كريت ضُراعك فِنَّ ليَّ خَبيبو
أضربَ القِبله والدَّرِب البِلَوِّم سِيبو
عَلَيْ بَسط النَّزَلْ فوقْ للفَنِيده وَضِيبو
عَرْكوس بَكَره مِن عِدَّ القَرَضْ بنجيبو
وقمر الدولة شاعر مجيد ومكثر في آن واحد، تفرقت أشعاره في أقانيم عديدة كأشعار الهمبتة والحماسة ووصف الجمال والحنين كما رأينا، وله أشعار دالة على صوفيته وأخرى دالة على تمسكه بالقيم وقيم الهمبتة على وجه الخصوص، كما له درر جميلة في الغزل والنسيب، والناظر لأشعاره ذات الأغراض المتعددة يظن أنها جزر متفرقة، ولكنه سرعان ما يدرك أن أرخبيلاً واحداً مزبد الأطراف يضمها.
وفي أشعار غزله وجدنا أنه كالفراشة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة أو كالطير من فنن يحل في فنن، اذ تتحدث غزلياته عن محبوبات كثر، فمرة تتحدث عن "عزيزة" وعن "صفية" وتارة عن "بت نصره" وعن "السكتولا" وطوراً عن "فريدة" وعن "اليمن" وغير ذلك من الاسماء العديدة التي زخرت بها مربعاته الغزلية " كالتاية " وبخيته" و"الرشيد" و"بهانة" و"الجنَّة" و"شَمَّة" و"مقبولة" و"نور" و"اليقين" و"عازَّة"، ولا بد لنا أن نعزو هذا السلوك الشعري الغزلي إلى حياة الهمبتة التي عاشها قمر الدولة، وهي حياة لا تعرف الاستقرار بقدر ما تبحث عن الانطلاق في سماوات الحرية الرحبة، والتطلع إلى السعادة بين أكناف الغواني وستات الأنادي وشيخات المجالس، يقول في مربع غزلي بديع دون أن يسمي -كغير عادته- مقصودته:
برق القِبله رَفَّ وكَبَّ فَوقْ سَافِلنا
ذكرني البِتِّلْ إيدو وبِخَربو فِكِرنا
شَبَاب كَرْكوج والزولْ القَبُل كاتِلنا
سمحه قَنَايْتُو مِن غير الدَّلال والحِنَّه
ويقول عن اليمن بت شمَّة في إطار من النسيب غير المسبوق في معناه وأسلوبه:
كان شُفْتَ اليَمَنْ بت شمَّهْ
الجَاكْ قال لَيْ نَشّابات عُيونا مُسِمَّه
تِريِّعَ الفَارِس الطَّرَّقْ بَعَدْ ما سمَّى
أَصلا تصدُفْ اللَّجَل المَحَدَّدْ وتَمَّه
وقال عن بت نصرة الجميلة:
بِت نَصره الجّميله وحَالتِكْ عَاجْباني
مِهيره مَعَبَّده ماخده البِرِنْجي وتَانِي
كان المَوْلى هَوَّن والكَريم جَلسَه خَلاَّني
ناخُد فِي كَرْكوج معايَ أَخواني
وإلى زهرة أخرى ينتقل قمر الدولة فيتحدث عن فريدة قائلاً:
الدَّايْرَ الجَّمَال يِقْطَع بَحَرْ ليْ فَريده
راسية أَديبه قَدَّاله وقَلِبنا بِريدَا
حافْظَاهو المَجَال بي رِقَّه ما هَا بَلِيدَه
كاتلَه جَمَاعَهْ مَادَامَ القِويشْ فوق إيدَه
وفي فنن آخر يحط قمر الدولة فيقول عن عزيزة:-
عَزِيزه العَزَلَتْ جَمَلِي الجَرِيدْتُو نَجِيضَ
عَزيزه التَّمَّتْ الكيف والحُظُوظ بىْ إيده
عَزِيزه السَّاكنه كَرْكوج وقَلْبِي بريده
عَزِيزه المَنْقَه فُوقْ فَرَّاعا فَدْ وَيحيده
ولقمر الدولة كثير من المربعات الغزلية عن غانية تدعي "السكتولا" وكثيراً ما شبهها بمهرة دنقلا، ومن العجيب أنه عندما تحدث عنها في أحد مربعاته تلك أعلن فيه عن حبه للمدعوَّة "الجنة"، غير أنه وفي إطار تعبير لطيف في نهاية المربع قرر أنه مغرم أكثر بالسكتولا. يقول وهو يحكي عن تباريح الزمن وطول السفر ويبث شكواه لصديقه ودجولا:-
خَانَتْنَا الظُّروف والخَتْرَه طالت طَولا
هفَّتْ لَيَّ وطِريتا اللّيله يَا وَدْ جولا
عُقُب الجنَّه فكَّت في القَلِب صاموله
لكن الوِرَشْ والعَمره عِن سَكَتَولا ..!
وكثيراً ما يخالل قمر الدولة في اشعاره ما بين الغزل والحماسة كقوله:
يا حسين يبقى البَنَاتْ شِنْ سَوَّنْ
يِخُتَّنْ في الوَدِعْ جُوَّه الكُبادْ بِتْكَوَّنْ
ونحنا أرْواحْنا قابضات الغِفارْ بتهوَّنْ
سَكَلْ كُرْباجْنا فوق اللّيْ الدَّنادِرْ نَوَّنْ
وبقدر ما يكشف لنا شعر قمر الدولة عن نفس لاهية وحياة لا تعرف الاستقرار، يكشف لنا أيضاً عن تمسكه بالقيم والنأي عن الغدر والخيانة، وهذه معانٍ يكشف عنها مربعه التالي:
ما صَعْلُوك بِيُوت النَّاسْ بِتَكْرَهْ جَيْتِي
ما بَدَّبَّى للسَّاحَه وبَخُونا وَليتي
أسألوا مِنِّي النَّاسَ البِعَرْفُوا مَزِيتي
بازِلْ قِرْشي للأخوان جميله حقيقتي
كما تكشف أشعاره عن صوفيته القائمة في كيانه، فكثيراً ما ترد أسماء الأولياء الصالحين وصفاتهم في أشعاره، وكثيراً ما يعبر عن أشواقه إليهم، وفي تقديرنا أن ما تلقَّاه شاعرنا من تربية صوفيةكانت السبب -كما أسلفنا- في استقراره واعتزاله لأعمال الهمبتة، ولا شك أننا نحس بذلك من خلال مربعه التالي:
إِتْلَوَّمْتَ يا قلبي وحَاشاكا اللّومْ
قِدَّامَك رجالاً بِكشِفوا المكتومْ
الرِّزِق المَحَدَّدْ للعَبِدْ مَقْسومْ
لا بِنْجيبوا بى سيف لا كِلاش لا قومْ.!
وعن أشواقه لأهله أصحاب التصوف يقول وهو يخاطب جمله "ابوكريت" طالباً منه أن يقله إلى عمِّه الزاهد الورع الشيخ زين العابدين الشيخ الرفيع ود الشيخ البشير فيقول:
أبوكريت أَرَحْ خَتِّرْنا ليْ عَابدِينْ
نَزُور وَدَّ القَلْبَهِنْ للخَصِمْ سِكِّينْ
زَمَنَ الجُّوع جِدُودو مِسَكِّتِين وَاحْدِينْ
طَوَّلْنا وخَلاصْ ليْ شُوفْتُو مُشْتاقِينْ
وشاعرنا قمر الدولة الذي حذا حذو الأوائل من الهمباتة، يظل رمزاً للجيل الأخير الذي احترم نظم ومبادئ وتقاليد الهمبتة، وهو بلا شك حلقة شعرية قويَّة ربطت جيله بالأجيال الشعرية السابقة والسامقة، وكان آخر الهمباتة وشعرائهم
اسعد العباسي [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.