في الثاني والعشرين من أكتوبر الجاري 2010م، يمر عامٌ على رحيل المغفور لها بإذن الله تعالى الدكتورة سعاد أبو كشوة. الأستاذة بجامعة الخرطوم معهد الدراسات الإنمائية. وهي شخصيةٌ يعرف فضلها الألوف من تلاميذها وتلميذاتها في الجامعة, وزملاؤها الذين رافقوها في الحقول المتعددة والمتنوعة التي كانت الفقيدة تسهم فيها بفكرها وتجربتها وجهدها, سواءٌ أكان ذلك داخل السودان أو خارجه. لقد كانت الفقيدة شعلةً من النشاط الذي لا يخبو أواره, حتى لا تكاد تجد لديها وقت فراغ, فكأنما كانت تسابق الساعات والأيام لتعطي أكثر ما استطاعت لوطنها وأهلها قبل أن يأخذها الأجل المحتوم. في وقتٍ بلغت فيه من العلم والخبرة والقدرة على العطاء ما السودان في أمس الحاجة إليه من أمثالها من الرواد الأفذاذ. وكم ترزأ الأوطان في أنجب أبنائها من العلماء الذين تأخذهم يد المنون، فتذهب بكل ما اكتسبوا من علمٍ وتجربةٍ وصفات. فلا سبيل إلى توريث ذلك أو ادخاره أو الاحتفاظ بشيءٍ منه لمقبل الأيام. وهذا ما يجعل الفاجعة فيهم أوجع وأكبر. كانت الفقيدة تعمل بالتدريس في الجامعة. وتشارك في السمنارات العالمية المتخصصة. وتنافح عن حقوق المرأة مستهديةً بالشريعة, لا محاكاةً للمرأة الغربية. وتضع علمها وخبرتها في خدمة سياسات التنمية من خلال أعلى المؤسسات التشريعية والسياسية في الدولة. وتساهم في العمل الطوعي بالمشاركة في مجالس منظمات المجتمع المدني, ومنها المنظمة السودانية لرعاية الطالب المنتج التي قدمت لها الفقيدة كل علمٍ وخبرةٍ وعرق. وأول عهدي بمعرفة الفقيدة، أيام كنت طالباً بجامعة الخرطوم. وناشطاً في إتحاد الطلاب دورة سنة 1995م. وهو الاتحاد الذي بادر بفكرة نداء الجامعة ومشروع الطالب المنتج وغيرهما من الأفكار المبتكرة التي لم يسبق إليها. وكانت الفقيدة من أوائل الشخصيات التي قصدها الإتحاد لإخراج فكرة نداء الجامعة الرامي لإشراك كل السودانيين لترقية وتطوير الجامعة. فانخرطت كعهدها دائماً بهمةٍ ونشاط في إحدى اللجان العليا المخططة للبرنامج. وكنت ضمن اللجنة التنفيذية الطلابية التي تنسق بين تلك اللجان. وفي يومٍ ما اتصلت بالفقيدة الدكتورة سعاد هاتفياً ودار بيننا الحوار التالي : - آلو دكتورة سعاد ... معاك ناس نداء الجامعة. - مرحباً معاي منو ؟ - محمد خميس. فقالت بهدوء وتلقائية - يا جماعة ما ممكن يوم يتصل الخنجر. ويوم وليد فايت. ويوم محمد خميس !؟ عليكم الله حددوا زول واحد. فأسقط في يدي وقتها, وعلمت أنني أتعامل مع شخصٍ يتميز بالدقة والاهتمام بالناس الذين يتعامل معهم أياً كانوا ولو طلاباً يافعين. لقد دهشت حقاً من الذاكرة القوية التي تتمتع بها الفقيدة، فتتذكر من يتصل بها ولو لم يكن شخصاً مرموقاً. ويقيني أنها استحضرت تلك الأسماء من الذاكرة. فتعليقها كان مباشراً وعفواً. وقد تعلمت من تلك الواقعة درساً مهماً ومفيداً جداً في العلاقات العامة, وهو الاهتمام بمعرفة اسم الشخص الذي تتعامل معه ولو كان سكرتيراً أو موظفاً في مؤسسةٍ ما. وسمةٌ أخرى لمستها في الفقيدة وهو تواضعها الشديد, وحرصها علي إظهار الحقيقة مهما كانت. فقد كانت تلقب بالدكتورة من الذين يتعاملون معها. وهكذا عرفها العامة. ولكن كثيراً ما سمعتها تذكر من يلقبها بذلك, أنها لم تنجز رسالة الدكتوراة بعد. لقد كانت أكبر من درجة الدكتوراة بنشاطها وعطائها. وكفى بها شرفاً أن يعتقد الناس أنها تحملها وهي لم تفعل بعد. ولو أرادت لفعلت، وما ذاك بزائدها شرفاً. ولعلها زهدت فيها لما رأتها موضةً يتهافت عليها بكل السبل الفاشلون وفاقدو المواهب. فيحرصون أن يسبق أسماءهم لقب الدكتور, لعله يرفعهم من وهدتهم, ولكن هيهات. ويذكرني حال الفقيدة بحال جبار الأدب الأستاذ عباس محمود العقاد, العصامي الذي بلغ ما بلغ بدون مدرسٍ أو تعليمٍ نظاميٍ. إذ يروى عنه أن أشار إليه بعض أصحابه أن يقدم أحد كتبه الكثيرة لإحدى الجامعات لنيل درجة الدكتوراة, فقال العقاد : ( ولكن من هو الدكتور الذي سيناقشني؟ ). إنه ليس الكبر, ولكنه الاعتداد بالعلم الكثير الذي يحمله. رحم الله الأستاذة الدكتورة سعاد أبو كشوة رحمة واسعة وأدخلها فسيح الجنات مع النبيين والصديقين والشهداء.