بعد أن بسطنا القول حول الاضطراب الانفعالي المتزايد في الخطاب الإعلامي لبعض قياديي الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) في الفترة الأخيرة، في إطار المشاكسة بينهما، حيث أشرنا في الجزء الأول من هذه العُجالة يوم السبت الماضي، إلى بعض هذه التصريحات الصحافية المثيرة للجدل، المتخذة من الترهيب من الانفصال أسلوباً، من خلال إيراد بعض النماذج منها، مثل تهديدات مارتن ماجوت ياك السكرتير القومي للتنظيمات الجماهيرية والفئوية في الحركة الشعبية بشأن الانفصال، حيث قال فيها "إن الانفصال قادم، ولن نعطي الشمال جالون بنزين واحد"، إضافة إلى تصريحات تهديدية ترهيبية مماثلة من بعض قياديي الحركة الشعبية، في إطار الترهيب من الوحدة والترغيب في الانفصال، وفي المقابل تهديدات الدكتور كمال محمد عبيد وزير الإعلام والاتصال الاتحادي والقيادي في المؤتمر الوطني الذي كان أكثر الأصوات حدةً وأعلاها نبرةً في الإفصاح عن سياسة الترهيب من الانفصال، حيث أكد في مؤتمر صحافي بالإذاعة السودانية يوم الجمعة 24 سبتمبر الماضي أن المواطنين الجنوبيين لن يكون لهم حق الإقامة في شمال السودان، إذا ما اختاروا الانفصال عند انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان"، مضيفاً "لن يكون الجنوبي في الشمال مواطناً حال وقوع الانفصال"، موضحاً كذلك لن يتمتع (الجنوبي) بحق المواطنة، والوظيفة، والامتيازات، ولا حق البيع والشراء في سوق الخرطوم"، مؤكداً أن الجنوبي "لن نعطيه حقنة في المستشفى"، وغير ذلك من تصريحات تهديدية ترهيبية مماثلة من بعض قياديي المؤتمر الوطني، مما أحدث اضطراباً في المفاهيم والمواقف من الوحدة والانفصال. وسنستعرض اليوم الجوانب التأصيلية حول قضايا المواطنة وإشكالاتها، وتأثيرات ذلك على الخطاب الإعلامي لحملات دعاة الوحدة ومطالبي الانفصال، خاصةً وأن الأيام تمضي سِراعاً، حيث تبقى خمسة وتسعين يوماً فقط من موعد انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان في التاسع من يناير 2011، ضمن متبقيات استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام. أحسب أنه من الضروري أن نشير في هذا الخصوص إلى أن عدداً من المفكرين والباحثين أكدوا أن مفهوم الوطنية والمواطنة من الاصطلاحات الحديثة، لأن المعنى الذي تستهدفه الوطنية قد تناولته من قبل بعض أفكار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين، حيث يقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع، مما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على معايير تحكمية، مثل الدين أو الجنس أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري، ويرتب التمتع بالمواطنة ومجموعة من الحقوق والواجبات، ترتكز على أربع قيم مجتمعية محورية، هي: أولاً: قيمة المساواة التي تنعكس في العديد من الحقوق الأساسية، مثل التعليم، والعمل، والجنسية، والتملك، والمعاملة المتساوية أمام القانون والقضاء. ثانياً: قيمة الحرية التي تنعكس في العديد من الحقوق الأساسية، مثل حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وحرية التنقل داخل الوطن، وحق التعبير والمناقشة بحرية مع الآخرين حول مشكلات المجتمع ومستقبله، وحرية التعبير السلمي عن التأييد أو الاحتجاج على قضية أو موقف أو سياسة ما، حتى لو كان هذا الاحتجاج موجهاً ضد الحكومة. ثالثاً: قيمة المشاركة التي تتضمن العديد من الحقوق الأساسية، مثل الحق في تنظيم حملات الضغط السلمي على الحكومة أو بعض المسؤولين لتغيير سياستها أو برامجها أو بعض قراراتها، وممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي المنظم، مثل التظاهر والإضراب كما ينظمها القانون، وحق التصويت في الانتخابات العامة بكافة أشكالها، وتأسيس أو الاشتراك في الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو أي تنظيمات أخرى تعمل لخدمة المجتمع أو لخدمة بعض أفراده، والترشح في الانتخابات العامة بكافة أشكالها. رابعاً: المسؤولية الاجتماعية التي تتضمن العديد من الواجبات، مثل واجب دفع الضرائب، وتأدية الخدمة العسكرية للوطن، واحترام القانون، واحترام حرية وخصوصية الآخرين. والمعروف أن الاهتمام بمصطلح المواطنة قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية، ولفظ "مواطن" تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789. وتأصيلاً لمفهوم المواطنة إسلامياً، مقاربةً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة التي وضع معالمها رسولنا الكريم في المدينةالمنورة، من حيث تحديد المسؤوليات الحقوقية والواجبات الوطنية لمواطن المدينة، في إطار حكم الإسلام ومرجعيته، من خلال دستور المدينة (صحيفة المدينة) التي تعد مرجعية دستورية لمواطني المدينةالمنورة آنذاك. وكانت بنود صحيفة المدينة (47 بنداً) تعرض مبادئ مهمة لفكرة المواطنة، حيث نصت صراحةً على تأسيس مفهوم المواطنة في الإسلام، واحترام حقوقه وواجباته لكل مواطن في المدينةالمنورة مسلماً كان أو غير مسلم، إضافة إلى تحديد الحدود الجغرافية التي يُحاسب فيها أي إنسان مسلماً كان أو غير مسلمٍ ارتكب جُرماً داخل حدود دولة المدينة. بينما تتراوح أطروحات الفلاسفة الغربيين لمفهوم المواطنة بين رؤى تختصر العلاقة بين الفرد ودولته إلى أدنى درجة ممكنة، وبين أخرى ترى أن الفرد لا يعني شيئاً أمام دولته، ففي الأولى لم توجد الدولة إلا من أجل الفرد، وفي الأخرى لم يوجد الفرد إلا لخدمة دولته. ويعتمد منظرو فلسفة المذهب الفردي أمثال جون لوك وجان جاك روسو على أساس الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته العامة، باعتبارهما حقوقاً طبيعية لكل فرد، وليست مكتسبة، ومهمة الدولة احترام وضمان تلك الحقوق. كما حددت دائرة المعارف البريطانية مفهوم المواطنة بأنها علاقة بين فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة من واجبات وحقوق مع ما يصاحبها من مسؤوليات، مثل حقه الانتخابي، وتولي المناصب العامة. أخلص إلى أننا بسطنا القول هنا حول مفهوم المواطنة وإشكالاتها، لأن هذا الأمر أصبح القضية الشاغلة لدعاة الوحدة، ومطالبي الانفصال في حملاتهما لمواجهة موعد انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين في التاسع من يناير المقبل، حيث أن مفاوضات ترتيبات ما بعد الاستفتاء تتطرق إليه من جوانبه المختلفة، فالرأي الغالب عند غالبية قياديي الحركة الشعبية ينحو منحى التأكيد على ضرورة الحفاظ على العلاقة مع الشمال في حال انفصال الجنوب، من خلال تطبيق اتفاق الحريات الأربع بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) التي تقوم على حرية مواطني البلدين في: (1) حرية العمل. (2) حرية التنقل. (3) حرية الإقامة. (4) حرية التملك. بينما اتسم الخطاب الإعلامي لبعض قياديي المؤتمر الوطني بقدرٍ من ترهيب الجنوبيين سواء في الشمال أو الجنوب من تداعيات الانفصال، إذ أنه سيفقدهم الامتيازات المرتبطة بحق المواطنة السودانية إذا قرروا الانفصال، بل أن خسرانهم سيكون خسراناً مبيناً، إذ عليهم توفيق أوضاعهم على عجلٍ كأجانب، ما بعد الاستفتاء في التاسع من يناير المقبل، إذا صوتوا لصالح الانفصال. وفي لغة تهديدية ترهيبية واضحة، كانت أكثر تصعيداً في هذا الصدد، جاءت دعوة الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية وأمين أمانة العلاقات الخارجية في المؤتمر الوطني، للشباب والطلاب للاستعداد للحرب، وحمل السلاح لحماية الوطن من التحديات التي تواجهه حال حدوث الانفصال. ووسط هذه الأساليب الترهيبية المتعلقة بالانفصال من بعض قياديي المؤتمر الوطني، تذكيراً للجنوبيين في الشمال والجنوب معاً، وإن جاءت في أسلوب ترهيب من مغبة تداعيات الانفصال، إذا اختار الجنوبيون هذا الخيار في التاسع من يناير المقبل. في مواجهة ذلك نجد بعض قياديي الحركة الشعبية يتحججون في الرد على هذا التهديد بالدستور، بحجية أنه يمنح حق ازدواجية الجنسية، ولكنهم نسوا أو تناسوا أنهم أصبحوا مواطني دولة أجنبية بعد الانفصال، فالدستور يجيز الازدواجية للسوداني، ولكنه ينظم منح الجنسية للأجنبي، وأنه من الميسور للمؤتمر الوطني أن يُسن قوانين منظمة لمنح الجنسية السودانية لغير السودانيين، من خلال أغلبيته الميكانيكية في المجلس الوطني (البرلمان)، وليس التاريخ ببعيد، فمارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي من خلال البرلمان أصدرت قانوناً تم بموجبه إلغاء حق المواطنة والجنسية بحكم الميلاد في بريطانيا تلقائياً، ووضعت شرائط للحصول على حق المواطنة والجنسية البريطانية. وها نحن نتابع الجدل الدائر حالياً في البرلمان الفرنسي المتعلق بإعادة النظر في تحديد الهوية الوطنية الفرنسية، من حيث سن قانون يُمكن وزير الداخلية الفرنسي من سحب الجنسية الفرنسية من "الفرنسيين الجدد" الذين يعتدون على أحد رموز الأمن والدولة. ولكن أحسب أنه من الضروري أن نغلب خيار خطاب الترغيب في الوحدة بدلاً من خطاب الترهيب من الانفصال الذي اكتسب زخماً كبيراً طوال الأيام القليلة الماضية، ولنتخذ من حديث الرئيس عمر البشير الذي تعهد فيه بضمان حماية الجنوبيين في الشمال، إذا حدث الانفصال، ودعا في الوقت نفسه حكومة جنوب السودان إلى الالتزام بالدستور وإتاحة الفرصة للجميع لممارسة حرياتهم في فترة الاستفتاء، وتهيئة مناخ ملائم لإجراء الاستفتاء بحرية ونزاهة وشفافية، واحترام خيار المواطن الجنوبي، مدخلاً مهماً لأن تسود أساليب الترغيب في الخطاب الإعلامي لدعاة الوحدة سواء من قياديي المؤتمر الوطني أو منابر الرأي والفكر الوحدوية، خاصةً وأن صحيفة "الانتباهة" بدءاً من أمس (الأربعاء) ستواصل جهدها في الدعوة لانفصال الجنوب عن الشمال بعد الإيقاف الأمني الذي شجبناه في وسائل إعلامية مختلفة داخل السودان وخارجه، في إطار مبادئ حرية التعبير وحرية النشر، مع اختلافنا معها رأياً ورؤىً . وندعو هنا الرئيس عمر البشير إلى فك أسر صحيفة "رأي الشعب" على غرار "الانتباهة"، ونعلم أنها ستكون كسباً حقيقياً لدعاة الوحدة في هذا المنعطف التاريخي لبلادنا. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". وقول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: ولرب نازلةٍ يضيق لها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج Imam Imam [[email protected]]