معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجديد والمغايرة عند محمد محمد علي: في الذكري الاربعين .. بقلم: د. حيدر ابراهيم علي
نشر في سودانيل يوم 19 - 10 - 2010

هناك بعض الشخصيات – رغم عظمتها وقد يكون بسبب عظمتها – يلازمها الاهمال والظلم والتجاهل المتعمد، من هذه الشخصيات الاستاذ محمد محمد علي (الشاعر كما اشتهر) ومن المفارقات انه توفي يوم 28 سبتمبر 1970 في نفس يوم وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وكأنه اختار يوم الهول يوم وداع. ومن المعيب ان يهمل كتاب عنوانه (رواد الفكر السوداني) اعداد:محجوب عمر باشري ،تزيد صفحاته عن الاربعمائة، اسم الاستاذ محمد محمد علي. وما زال الصمت المتآمر او الجاحد او اللامبالي يواجه ذلك المبدع المتميز.
لم يكن الدافع الحقيقي الذي استوقفني في ذكرى الشاعر،مخالفة سلوك الجحود والاهمال.ولكن من أهم الاسباب التي تلح علينا وتطلب استعادة مواقف مثل ذلك الرجل هو انحسار الرموز القادرة على مواجهة الفكر التقليدي المحافظ الذي يستشري بصورة سرطانية قاتلة رغم كل لا عقلانيته وبؤسه. ومع هيمنة الفكر المحافظ والتقليدي وازدياد قدرته على ارهاب كل المجددين او الخارجين عن حظيرته يصبح من الضروري تمجيد أي ومضة للتفكير العقلاني والعلمي في أي مجال من مجالات المعرفة. ليس في هذا أي مبالغة، فلقد فجعنا في السودان المتسامح باعدام أحد المفكرين السودانيين لخلاف في الرأي. وهذا عار سيلازمنا لعقود قادمة ، ويخرسنا دوما حين نتباهي بتسامح السودانيين.وكان في ذلك تدشين لعهد العصور المظلمة،الذي ما زال يخنق الفكر في بلادنا.
*************
الاستاذ محمد محمد علي عقل ثاقب يفلق الشعر، ووجدان شفيف وحساسية مرهفة وذوق راق. ورغم شح كمية ما كتب،فهو كاتب مقل، الا ان خواطره وافكاره المتناثرة، التي نشرت،اضاءت وبعمق عدداً من الموضوعات الفكرية والأدبية الحيوية المرتبطة بالواقع وقضايا المجتمع الهامة.فقد كانت كتبه تجميعا لمقالاته التي نشرت في الصحف،عدا رسالته الجامعبة عن الشعر السياسي. ويرجع البعض قلة منتوجه الي نمط حياته وقلقه. ويرى البعض في الاستاذ مثالا للامنتمي تلك الحقبة.ولكن – في رأيّ – أن مثل هذا اللانتماء الظاهري في ذلك الوقت والظرف ليس عيباً، فقد يكون محاولة لتجاوز تناقضات الحياة والفكر. فقد كان الاستاذ بذكائه وتوقد ذهنه وثقافته وسلوكه ، سابقاً لعصره ولذلك تنعدم امكانية تكيفه مع المألوف والمقبول والنمطي فيبحث عن وسائل التعايش السلمي الحياتي دون الخضوع لعقلية القطيع او الموت مع الجماعة – كما تقول الحكمة الشعبية. ومن الملاحظ ان العديد من مثقفي وأذكياء الجيل السابق قد لجأ الى الفن (بالذات الشعر والأدب) او الخمر في محاولة لخلق عالم ذهني/خيالي مواز وأكثر جمالاً واتساقاً من عالم واقعي ناقص وهنا مكمن الأزمة. فالأزمة هي فجوة بين الواقع والممكن. فكثيراً ما يكون الواقع متخلفاً وتعيساً ومحبطاً بينما تبدو امكانات الشخص أو الجماعة أكبر، ولكن بسبب عوامل ذاتية وموضوعية يغلب العجز في اطلاق القدرات الكامنة،وتتراجع الاستطاعة على ان يرفع الناس الواقع الى مستوى الحلم والممكن. ومع ذلك على المرء ان يعيش ويكافح الدهر والناس. وهنا يحاول المتميزون ان يملأوا شقوق الاحباط والتأزم لكي تتماسك الحياة. لا نتحدث هنا عن المنسحب او المنهزم، بل عن الذي يموت واقفاً وعينه الى السماء، يقارع نقائض وتناقضات الواقع. وقد زاد من أزمة مثقفي جيل الاستاذ فردية المعارك اما بسبب عدم وجو التنظيمات والتجمعات والمؤسسة او بسبب نفسية المبدع النافرة من الاحتواء والضبط وحشية تزمت وتحجر التنظيم او المؤسسة. فقد اتكأ الاستاذ او امثاله على نفسه فقط.وان كان كتاب الأخ النور حمد:مهارب المبدعين،يحتاج الي وقفة في فرصة قادمة.
منهج علم اجتماع الأدب
ضمن هذه الظروف جاء الاستاذ محمد محمد علي ،وهو في رأيي مشروع فيلسوف او مفكر مجدد. ولكن ظروف تطور السودان كجزء من الأمة العربية- الاسلامية في تلك الفترة – وما زالت – تجعل من الصعب ارتياد آفاق فكر متجدد يتمرد على اليقينيات والوثوقيات. ولذلك كان الشعر ايضاً ملاذ الكثيرين من الذين حاولوا التعبير عن افكار جديدة. ولكن الشعر قد يضيّع او يضعف قيمة وقوة الافكار لانه محكوم بشروط الشعر في اختيار الكلمات والقوافي والأوزان وقد يكون تجويد ذلك على حساب الفكرة ،والعكس ايضا فالشاعر المفكر أو الفيلسوف أقل شعرية. ومن ناحية أخرى ،في الشعر حماية لأنه يبدع ويفهم كنتاج عام خيالي مما يقلل احتمال صدام محتواه من الافكار مع الواقع. وقد كان الشعر والأدب عند جيل الاستاذ بالفعل (ذريعة للهروب من أجداب الحياة وفراغها ودمامتها) . والأهم انه تقية للتعبير عن الافكار الجديدة والخطرة. فقد كان النقد والاحتجاج بالأدب هو الخط غير المستقيم للوصول الى نقد المجتمع، لأن رفض التقليد والجمود في الشعر هو معادل وفض هذه القيم في الحياة والمجتمع.
جذب انتباهي في كتابات الاستاذ محمد محمد علي عدد من الآراء المجددة منها على سبيل المثال: محاولات تأطير وتجذير الأدب داخل المجتمع فالابداع ليس منبعه وادي عبقر بل أودية وطرق الناس الحقيقيين). كما أثار اهتمامي تفكير الاستاذ العلمي والعقلاني في أغلب تحليلاته واصراره على رفض الافكار التقليدية والمحافظة، كذلك علمانيته بالذات في تحديد الوظائف المختلفة والمتباينة للأدب والدين. وهذا رأي جرئ وشجاع قال في ذلك الوقت،ويخشي الكثيرون ترديده في الوقت الحاضر، الا من خلال الرموز وكثير من التبريرات والتأويل. فهو لم يخضع لقدرة التقليديين والمحافظين والسلفيين، على تدجين وتخويف او احتواء المثقف السوداني لمنعه من اقتحام المجهول والجديد واجتياز المحرمات الفكرية. فقد كان المثقف – وحتى الآن – فارساً متردداً لا يستطيع الاقدام ولا يطيق الانهزام. فهو يبدأ المعارك ولكن يتنازل عن كل قضاياه مبكراً ،عند أول اختبار . فالشيخوخة الفكرية والعقلية السودانية تكتمل غالباً في مقتبل العمر ويتوب المثقف عن كل نزق وطيش الشباب ويهديه الله بعد عمر طويل أفناه في قضية جوهرية. ثم يتراجع ويتنازل ليسئ الى نفسه وإلى قضيته وهي كثيراً ما تكون نبيلة وتستحق كل ما ندم عليه ولكن قليل من يحمل قضيته حتى النهاية. الاستاذ محمد محمد علي هو من القلة النادرة فقد ظل في خندقة حتى اليوم الأخير من حياته.
من الممكن اعتبار الاستاذ محمد محمد علي من المساهمين الحقيقيين في علم اجتماع المعرفة او علم اجتماع الأدب بالتخصيص. قد لا يكون قد اطلع على نظريات في هذا الميدان العلمي ولكن ممارسة الكتابة بمنهج تلك النظريات يجعلنا – دون شطط وتعسف – ندرج الاستاذ ضمن هذه الميدان بالذات فيما يتعلق بالأدب السوداني. فهذا العلم يبحث عن الشروط او الأسس الاجتماعية للمعرفة أي ليس الشروط والأسس الذهنية او النفسية او الفردية...الخ للمعرفة ،والأدب ضمنهاً. فالعلم يهتم بالتطور الاقتصادي الاجتماعي لمجتمع ما وانعكاس ذلك على انتاج المعرفة أي ارتباط الحياة الفكرية في فترة تاريخية معينة بالاوضاع والقوى الاجتماعية والسياسات القائمة(2). ولأن اهتمام الاستاذ ينصب على جانب من المعرفة او الابداع هو الأدب فالمطلوب هو التحقق من مدى تطابق كتابات الاستاذ مع المفهوم السائد لعلم اجتماع الأدب كميدان يتقاطع كثيراً مع علم اجتماع المعرفة. وسيكون المصدر الأساسي هو كتاب (الشعر السوداني في المعارك السياسية 1821-1824) وهي في الأصل رسالة ماجستير حازت على تقدير امتياز من جامعة القاهرة الأم.
من البداية يوحي عنوان الكتاب بمنهج وتوجه الاستاذ محمد محمد علي فقداختار اسم (الشعر السوداني في المعارك السياسية) وكان من الممكن ان يكون العنوان (الشعر السياسي في السودان) او (الشعراء السياسيون في السودان) او (شعراء السياسة) او (الشعر الوطني) او (شعراء الوطنية في السودان)... الخ. فالاختيار ليس صدفة فكل تلك تعطي معنى ما للثبات واللاحركة ولكن (المعارك) كلمة تنبض بالحركة والتناقض والصراع. لم يغب هذا عن ذهن الاستاذ اذ يقول: (المعارك جمع معركة والمعركة موضع القتال او الخصام، وهي صيغة تصلح للزمان والحدث كما تصلح للمكان شأن المصدر الميمي، والمناسب هنا الحدث. فيكون المعنى الشعر السوداني في الاحداث السياسية وهذا المعنى ليس مجازياً لأ، المادة (ع ر ك) تشمل أنواع القتال باليد او اللسان او بالكيد والتدبير)(3). ويطبق نفس الطريقة على الجزء الثاني من العنوان حين يعرّف المقصود بالسياسة والسياسي بعد ان يذكر التعريف المتداول للشعر السياسي بانه فن من القول يتصل بنظام الدولة الداخلي او بنفوذها الخارجي ومكانتها بين الدول. يضيف الى ذلك: (أرى من الخير ان نزيد في تعريف الشعر السياسي في وقتنا الحاضر فنقول (وحركات الشعوب ونزعات الشعراء) لأن العالم قد تغيرت صورته منذ ان بسطت الدول المستعمرة نفوذها على آسيا وأفريقيا بل وامريكا في يوم من الايام ففقدت شعوب كثيرة دولها، واستكانت حيناً من الدهر، ثم هبت تصارع لنيل حريتها واستقلالها، فهذه الصورة لا تشبه ما يجري داخل الدولة من نزاع حزبي او وفاق (...) وبعض الشعراء قد تطور وعيهم السياسي وانقسمت آفاقهم وارتبطوا بمذاهب واتجاهات جعلهم لا يقفون عند نطاق الدولة يدرون معه في الداخل والخارج، وبالاختصار فقد أصبحت لهم رسالة تتناول العالم كله بالغناء للسلام والاشتراكية ومحاربة الاستعمار في ثوبه القديم والجديد، وان لم يكن بين ذويهم والأمم التي نزل بها هذا الشر صلة وارتباط)(4).
هذا التعريف في حد ذاته كاف لبيان الأسس الاجتماعية والتاريخية للأدب (الشعر هنا) فالكاتب يمسك بجلاء بالوظيفة السياسية للأدب ورسالة الأدب التي تتجاوز الفن من أجل الفن. لذلك لم يقل الكاتب ان اختياره للموضوع ثم لأسباب جمالية فنية بحتة، فهو أراد ان يدرس (الشعر السوداني الذي يتصل بالسياسة من قرب او بعيد يؤثر فيها ويتأثر فيها) . (لاحظ الجملة الأخيرة علاقة جدلية أي تأثير وتأثر بين الشعر والسياسة) لأسباب عدة منها:
(1) تقليل بعض السودانيين بالذات في حالة الضعف السياسي الداخلي من شأن الطريقة التي حصلنا بها على الاستقلال لذلك يتباكون على الانجليز. يرى في ذلك اهداراً للدماء الزكية التي اراقها السودانيون، ويقول: (فأردت ان أنفي هذا الزعم الباطل بدراسة يعانق فيها الشعر التاريخ الصحيح ويدعمه ( نفس المصدر المذكور،ص3).
(2) وعي الكاتب للاشكال المختلفة للسياسة والتي هي فعل يومي ليس مجرد للانضواء للاحزاب والمناورات وعضوية الهيئات التمثيلية، فكثير من الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع لم يدركوا ابعاده فحصروه في الشعر السياسي المباشر، في حين ان الأمر ليس كذلك، فهناك اغراض كثيرة مظهرها اجتماعي ومخبرها سياسي). (س4).
(3) من رأي بعض الباحثين (يغمطوا شعراءنا الكبار حقهم ويجحد فضلهم ويحط من قيمة اشعارهم الفنية ويعزلهم عزلاً عن ظروف حياتهم وملابساتها، فاردت ان أرفع عنهم هذا الحيف وان أدفع عنهم هذا الظلم) (ص4).
يدخل الكثير من الباحثين في مأزق (الحياد العلمي) حين يتناولون قضاياهم الاجتماعية ببرود وخواء. والسؤال هل يتعارض الحياد العلمي مع الالتزام والفهم الجديد المنتمي؟ الاستاذ محمد محمد علي واضح وقاطع وحازم كطريقته دوماً:
(تحريت في الدراسة بقدر المستطاع ان أكون موضوعياً، أعطي كل ذي حق حقه وان خالف مذهبه مذهبي، ولكني لم استطع بحال من الأحوال ان أتوانى في كشف القناع عن وجه الاستعمار البريطاني، لا لكراهية للاستعمار وحدها، ولا لما ألحقه بنا من أذى وعنت وارهاق، بل لجلاء الحقيقة التي تعامي عنها بعض السياسيين وبعض المؤرخين وشرذمة ضئيلة من الشعراء، فنسبوا للاستعمار البريطاني في بلادنا فضلاً يستحق عليه الثناء!!) (ص5) ويضيف الباحث بعض التوضيح الذي يربط بدقة بين العلمية والالتزام: (ولم يمنعني حبي وتقديري لرجال كبار تغيرت مواقفهم تغيراً جوهرياً او تغيراً ما فيما بعد ان أسجل مواقفهم في هذه الفترة، ولم يمنعني تمسكي بالحيدة ان اهتز بمواقف الابطال من أمثال محمد احمد المهدي وعلي عبداللطيف وعبيد حاج الامين وعبدالفضيل الماظ ورفاقه، كنت على مذاهبهم او على غيره). (ص5).
يرى الباحث أن الشعر الأثير عند أهل السودان هو الشعر المتصل بالسياسة (وكانوا إلى عهد قريب لا يستمعون الى غيره من ألوان الشعر الا بشئ من التسامح وسعة الصدر، لأنهم يريدون منه أن يستجث عزائمهم، ويسجل أمجادهم، ويباهي بشهدائهم، ويتغنى بتاريخهم، ويلعن أعداءهم، ويدمغ الخونة بميسم لا يمحوه الدهر) (ص11-12) فالشعر عند السودانيين يجد قيمته وانتشاره والقبول حين يرتبط بالناس وهمومهم.
أما المحور الأساسي في كتابات الاستاذ الذي يؤكد الأسس الاجتماعية للأدب فهو التناول التاريخي واعتبار التاريخ هو الأرضيةالتي يرتكز عليها الأدب. لذلك احتل التاريخ جزءً كبيراً وهاماً من كتاب (الشعر السوداني في المعارك السياسية) وما يلفت النظر ليس فقط حجم التاريخ في الكتاب ولكن طريقة التفسير والفهم للتاريخ إذ يصحح كثيراً من التحليلات الخاطئة. بدأ الباحث بمدخل تاريخي شامل يمتد مما اسماه التجمع العربي في السودان أي دخول العرب السودان ثم يصف الباحث تحت عنوان (ملامح من سنار) البناء الاجتماعي-الاقتصادي للمجتمع السناري ويتطرق لمصادر الرزق (أي الانتاج) الرعي والزراعة والتجارة وثروة سنار والفقر والمجاعات والحروب ونفوذ المشائخ. ثم كيف اضعف ذلك قدرة الناس على العمل المثمر وبالذات الثقافة في هذا الموضع؟ (ص29) ويتوقف الباحث عند انتشار الخرافات والتفكير العلمي وغلبة التصوف ويقول: (في هذا الجو الغريب أصبح المنطق لا قيمة له فمرد كل شئ الى الغيب، وهؤلاء الأولياء هم مفاتيح الغيب، بل هم الذين يصنعون مصائر الناس في حضراتهم) (ص33) ويناقش آراء الدكتور محمد عوض حول انتشار الصوفية ويأخذ عليه انه لم يفسر أسباب غلبة التصوف في السودان بل فسر أسباب انتشار الطرق الصوفية (ص35 وما بعدها). وهذا اختلاف واضح في الطريقة والنتيجة الأول يفسر كيف؟ ولكن المهم لماذا انتشرت الصوفية؟ الأول وصفي والثاني تحليلي.
رغم ان استاذنا ليس مؤرخاَ، ولكنه يمتلك فهماً متقدماً للتاريخ. فالتاريخ ليس مجرد تراكم أحداث او وصف شخصيات وحروب وغزوات ونزاعات بل التاريخ هوالحركة الجماعية للناس في الزمان. ومن هذا المنظور يتخذه اطاراً لفهم الثقافة والافكار من خلال وعي النسبية بمعنى ان الفكر او الابداع يجب ان يفهم ضمن ظروفه ولا يحكم عليه بمعايير حقب تاريخية أخرى – فلكل فكر او ثقافة سياق تاريخي – اجتماعي محدد. نجد التأكيد على النسبية التاريخية – الاجتماعية في مواضع كثيرة من كتابات الباحث وهذا موقف عميق مقارنة بالفهم اللاتاريخي (ahistorical) للافكار الذي يراها مطلقة خارجة عن الزمان والمكان ويظن أصحاب هذا النهج ان نتائجهم وأدوات تحليلهم صالحة مطلقاً لكل زمان ومكان ولا تخضع لتقلبات الزمن وتغيرات الحياة. وهذه بعض الأمثلة من كتابات الاستاذ محمد محمد علي التي تصر على نسبية الوقائع. ففي تعرضه لحروب المهدية لم يدن هذه الحروب، اذ يقول ً: (فالمهدية لا تخضع لافكار عصرنا، فهي لا تهادن الا من اعتنق الاسلام وانخرط في سلكها، وبهذا الفهم وحده نستطيع ان نفسر أسباب هذه الحرب وأعراض الخليفة عن طلب الصلح والتعاون الذي تقدم به امبراطور الحبشة واحراق الكنائس الذي كتب به حمدان الى الخليفة وكأنه عمل جليل) (المصدر السابق، ص217). وهو هنا يعتمد على النسبية مرتين. أولاً: اختلاف العصر، ثانياً: محاكمة المهدية حسب منطقها الداخلي في النظر للأمور.
أما النسبية الاجتماعية فيعبر عنها في رده على الدكتور محمد النويهي في مقالة بعنوان (حول الفضيلة في البداوة والحضارة) فقد توصل الدكتور النويهي في معرض دفاعه عن الاخلاق في المجتمع المتحضر الى ان للمدينة فضائل لا توجد لدى البدو، وأنه ليست هناك صلة بين حياة أهل البادية والتمسك بالفضيلة الجنسية وكاد يقول بوجود فوضى جنسية عند كثير من العشائر البدائية. ورغم تقدير الاستاذ محمد محمد علي لهدف النبيل للمقالة وهو الرد على المتشككين في قيم المدينة الخلقية الا انه انتقد طريقة الوصول الى هذا الاستنتاج، اذ يقول: (والخطأ في هذا البرهان ان الدكتور أراد ان يجعل من نظام العلاقات الجنسية عند الأمم المتحضرة مقياساً للفضيلة، غاضاً النظر عن النظم الاجتماعية الأخرى التي عرفها العالم في أطوارها المختلفة، والتي ما تزال لها رواسب في القبائل البدائية. فلم يستطع التطور ان يقضي عليها، لأن ظروف هذه القبائل قد نأت بها عن التيارات الحضارية الكبرى، فاحتفظت بطائفة كبيرة من تقاليدها ونظمها القديمة. والدكتور يعلم ان نظم العلاقة بين الرجل والمرأة قد أخذت اشكالاً متعددة في المجتمعات الانسانية، وما نظامنا الخاص الا واحد من عشرات النظم) (5) هذا نص يفسده الشرح او التعليق.
رغم ان الاحتمال كبير ان الكاتب لم يقرأ دوركايم والنظريات الاجتماعية الا انه يستعمل أهم مبدأ يقوم عليه علم الاجتماع وهو ان الظاهرة الاجتماعية لا تفسر الا بظاهرة اجتماعية مثلها او من الواقع نفسه. وفي نفس النقاش السابق يقول الاستاذ: (والتعليل الصحيح لهذه الظاهرة في رأيي يجب ان يلتمس في طبيعة الحياة التي يحياها هؤلاء القوم في البادية والقرى) (المصدر السابق، ص35) او في موضع آخر: (ليس معنى هذا أننا نقرهم على سلوكهم ونرضى عن نظمهم الاجتماعية التي تخالف الدين الذي نعتقده، والعرف الأخلاقي الذي ندين به، ولكن معناه ان المنهج العلمي يحتم علينا ان نبحث عن الدوافع التي دفعتهم الى هذا السلوك المخالف لتقاليدنا ونظمنا. يجب ان نسأل انفسنا قبل ان نحكم، هذا السؤال: ما الدافع لهؤلاء القوم أهو الانحلال الخلقي وضعف الوازع النفسي أم هو الخضوع لنظام اجتماعي مخصوص، لم يكن للفرد او الجماعة مناص مناتباعه) (المصدر السابق، ص33). يظهر السؤال طريقتين للاجابة اما التفسير الاخلاقي والنفسي للظاهرة او التفسير الاجتماعي للظاهرة. ولا يترك الاستاذ الاجابة مفتوحة ولكن يؤكد التفسير الاجتماعي قائلاً: (ان الفضيلة عند الشعوب التي تسودها نظم اجتماعية خاصة، يجب ان تلتمس في مدن خضوعها لنظمها وتقاليدنا، حتى لا نخرج بنتائج ترضي البحث العلمي) (ص34) و(اما الحكم على هذه الشعوب بمقاييس مستمدة من نظم أخرى، فانه يهدر القيم النفسية للفضيلة، ويحصرها في رسوم واشكال قد لا يكون لهؤلاء القوم علم بها، او ان تأثرهم بنظم القرية أقوى) (ص34).
مع ان كتابة التاريخ ليست مقصده المباشر الا انه عرض التاريخ بعقل نقدي متفتح. من الأمثلة تحليله للحقبة التركية في السودان فقد بين أهدافه من إعادة النظر في الحكم التركي وأول هدف هو توضيح الدور الحقيقي لمصر او بالأصح الشعب المصري الذي لم يكن راضياً عن حكامه من الاتراك المتمصرين او الباشوات الاقطاعيين السائرين خلف سياسة الاستعمار (6) وان السودانيين يعلمون ان الشعب المصري لا دخل له في هذا فهو مثلهم مضطهد. والنقطة الثانية الهامة ففي تأكيد الدور الاستعماري للحكم التركي العثماني بغض النظر عن العقيدة الواحدة. ففي الوقت الحاضر تحاول بعض التيارات لأسباب سياسية بحتة نفي صفة الاستعمار والاحتلال عن تركيا العثمانية لانها دولة مسلمة ويعتبرون احتلال السودان وكأنه ترتيب داخلي لشئون الخلافة الاسلامية. هذا تحليل متهافت تحكمه مصالح سياسية آنية وبعيدة عن العلمية ويخلو من الشعور الوطني. فكيف نفسر ثورة المهدي المصلح الاسلامي والوطني ضد الظلم التركي ومحاربة الاتراك؟ ثم كيف تدعو تركيا ممثلة في محمد علي باشا لفتح بلاد هي أصلاً مسلمة وتفرض عليها تلك الضرائب الباهظة وبأساليب وحشية تهين كرامة الانسان مهما كان دينه؟ ثم كيف نفسر وجود الاداريين المسيحيين أمثال غردون وسلاطين وحسي وبيكر وغيرهم على رأس إدارة السودان خلال الحكم التركي؟ ويدمغ الاستاذ محمد محمد علي الحكم التركي بقوله ان (المهدي رفض الحضارة التركية رفضاً باتاً ودعا الى القضاء على مظاهرها) (المصدر السابق، ص123) وهذا ينفي وجود أساس عقدي مشترك.
من المواقف الفكرية المتقدمة في فهم التاريخ محاولة تجاوز المغالطات التي تروج لها ايضاً بعض الجماعات السياسية تحت غطاء فكري وديني وهي خلق تعارض بين القومية العربية والاسلامية. ويقدم تحليلاً دقيقاً رغم اختزاله لنشأة وتطور القومية ويبدأ بنقطة حاسمة: (فليس من الصدق في شئ القول بأن الاسلام لم يجد العرب شيئاً مذكوراً، وأنه هو الذي خلق القومية العربية خلقاً وأنشأها انشاءً، مما درج عليه بعض المؤرخين الذين يظنون ان عظمة الاسلام لا تظهر الا بانتقاص العرب وتحقير شأنهم. بل الفهم السليم لطبيعة الثورات وأسباب الانقلابات تحت علينا ان نقول: ان الاسلام لم ينتخب العرب لحمل رسالته لو لم تتوفر فيهم صفات وخصائص تجعلهم أهلاً لهذا الانتخاب) (كتاب محاولات في النقد، ص38) ويحاول ان يجد الاسباب التاريخية لقيام شبهة التناقض بين القومية العربية والاسلام فيقول: (ولو لم يحيى بني أمية في دولتهم العصبية القبلية، ويوقظوا العنصرية التي حاربها الاسلام، لتجنيب القومية العربية كثيراً من العثرات وسارت قدماً متعاونة مع القوميات الأخرى. لكنهم بعثوا بتعصبهم الأعمى للعرب واضطهادهم للشعوب المسلمة من غير العرب من كانوا يسمون بالموالي، بعثوا عنصرية هذه الشعوب. (المصدر السابق، ص39) ويمجد الكاتب انتصار القومية العربية على عسف الاتراك وعلى الاستعمار الأوروبي، وهنا يحاول الاستعمار تصديع وحدة العرب ويستعمل كل الطرق للنيل من العرب. ويضع الكاتب أصابعه على ملاحظة ما زالت شغلنا اذ يقول: (وبلغ السخف ببعضهم حداً جعلهم يهرفون بشئ يسمونه القومية الاسلامية!، كأن الاسلام يعارض القومية العربية او غيرها من القوميات!. كل ذلك إمعاناً منهم في تضليل العرب وخاصة من ينادون بمذهب اسلامي خاص. ولكن القومية العربية أصلب عوداً وأكثر وعياً وأشد تمسكاً مما يظنون فقدعرف العرب من خلال خبرتهم الطويلة وتجاربهم، نوايا الاستعمار وأهدافه، فأصبحوا يرونها وراء كل حركة من حركاتهم) (المصدر السابق، ص40).
تجديد النقد
كان من المفترض ان يكون العنوان المتواضع لكتابه "محاولات فى النقد" هو "تجديد النقد" فالكتاب فى الواقع يحتوى على الكثير من الافكار التجديدية التى كانت تحتاج الى كثير من المتابعة والنقاش. ويقول المؤلف فى المقدمة بطريقته الساخرة المحببة أنه لم ينشر تلك المقالات لتدر عليه كسباً مالياً، لا زهداً في الكسب ولكن لعلمه بان صناعة الكتب لا تعود على اصحابها بعائدة في هذا البلد! ولم ينشرها لأن بعض الاصدقاء ألح عليه في نشرها كما يقول المؤلفون! ولا لأنه يعتقد انها ستعلم القارئ مالم يعلم. ويقول: (وانما عنيت بنشرها لأني رأيتها تتضمن افكاراً وخواطر لم تنل ما كنت أرجوه لها من المناقشة والتمحيص، وظننت ان في نشرها في كتاب يلبث في يد القارئ وفي اعادة مناقشتها المتأنية فائدتين: فائدة للحركة الأدبية في محيطنا الأدبي وخاصة حركة النقد. وفائدة أخرى تعود على انا بتصحيح أفكاري وتنقية معتقداتي الأدبية من شوائب الخطأ) (المقدمة، ص3) ولكن للأسف لم يلق الكتاب ما يستحقه ولفه النسيان والاهمال لأن صاحبه وتحرقه كلمة الحق.
نلاحظ من البداية ثقة الكاتب في نفسه وموهبته فلم ترهبه الاسماء الكبيرة والالقاب فهو يقارع طه حسين والنويهي وعبدالمجيد عابدين ومحمد ابراهيم الشوش وعبده بدوي وينقد شعر شوقي والتجاني يوسف بشير رغم الاجماع والتعصب. المحك الوحيد لدى الاستاذ هو الصدق والحقيقة والابداع،وما عدا ذلك فكل الذي فوق التراب تراب. فالباحث في الأساس ضد النقد التقليدي والشكلي فهو يقول بصراحة انه لا يقبل النقد الفقهي للأدب: (وقارئ الشعر اليوم يأمل ان يجد في نقد ناقد مثل الدكتور طه حسين شيئاً غير هذا النقد الفقهي المبالغ فيه، يرجو ان يحدثه عن الجو العام الذي يشغل حواسه ويفعم نفسهم من الافكار والمشاعر والصور حين قراءته للديوان أو فراغه منه. يريد القارئ اليوم ان يعلم فلسفة الشاعر، ان كان لهذا الشاعر المثقف فلسفة معينة، يريد جواباً عن اسئلة كثيرة جداً: هل كشف الشاعر من أسرار الحياة ما يزيدنا بصراً بها والفة؟ هل هذا الديوان يقوي عزيمة قارئه ويحثه على المضي في الحياة مبتهجاً آملاً أو أنه يفت في عضده ويوهن من عزمه ويبذر في نفسه بذور اليأس والقنوط؟ (محاولات في النقد، ص14-15) آراء الاستاذ هنا هي امتداد لمساهمته في علم اجتماع الأدب، فهو يهتم بمضمون الشعر واضعاً نصب أعينه الملتقى كجزء من عملية الخلق والتذوق في الأدب. ويرفض النقد الفقهي لاهتمامه بالقشور وأعراضه عن اللباب والجوهر مثل التركيز على الكلمات الغريبة والحوشية والجزالة. ويرى ان النقد الفقهي لا يضيف شيئاً للمتلقي لأنه يعيد اجترار الحديث عن مصطلحات بلاغية ميتة يمكن لأي تلميذ ان يجدها في الكتب المدرسية.
ورغم ان الاستاذ يعول كثيراً على مضمون الشعر وفلسفة الشاعر والقيم التي يبثها الشعر، فالمضمون الجيد لا يغني عن فنية وجمالية الشكل. ويقول في هذا الصدد عن قصيدة للشاعر ادريس جماع: (وقصيدته التي صوّر فيها مواقف من التاريخ الاسلامي، ولكنه لم ينهج فيها النهج الوعظي كما كان يفعل اكثر الشعراء، فقد جنح الى التصوير، وقد يخصه الاسترسال في التصوير وكراهيته للظلم والتجني عن غرضه في بعض الاحيا، وينسيه انه في موقف الممجد وهو موقف يقتضي انتقاء الصور المشرقة وتجنب ذكر مواطن الضعف (المصدر السابق، ص25).
كأني بالاستاذ يشارك في تساؤلات الفلاسفة والنقاد عقب الحرب العالمية الثانية ومنهم سارتر: ماهو الأدب؟ ولمن نكتب؟ وفي نقاش ممتع مع الاستاذ عبدالرحيم الأمين يختلف معه تماماً في أن الأدب شئ ذاتي شخصي يكمل حياة صاحبه ويعمقها. ويضع الاستاذ ما يشبه الخطوط الأساسية لنظرية الأدب، اذ يقول: (فأنا اعتبر الأدب نشاطاً اجتماعياً لا نشاطاً فردياً، شأنه في ذلك شأن جميع الفنون الجميلة). ومعلوم ان هدف الفنون جميعها ايقاظ الشعور بالجمال وتهذيب الانسانية، وبذلك – مع مراعاة العوامل الأخرى – ترقى الأمم وتطور الذوق، وتحبب الناس في الحياة الكريمة الجميلة وتجعلها هدفاً تسعى اليه المجتمعات. ولو لم يكون هذا هو الهدف الرئيسي للفنون، لأصبحت شيئاً تافهاً، لا يصلح الا لازجاء أوقات الفراغ، واللعب غير المثمر. وقد لا يقصد الناس هذا الغرض قصداً، ولكنه مع ذلك يكون غاية للفن الأصيل. لأن طبيعة الفن المنبعث من أعماق المجتمع تجعله معبراً عن آلامه، ومترجماً عن أشواقه، وممجداً لمثله العليا التي يسعى اليها، ويتحرق شوقاً للوصول اليها. (نفس المصدر، ص65).
يرفض المؤلف النظرة الصفوية المتعالية للجمهور وان الفن للخاصة والصفوة او أصحاب الذوق القادرين على فهم وتذوق الفن. وفي معرض رده على الاستاذ عبدالرحيم الأمين الذي يقول عن الأدب الحق بانه نتاج ممتاز لفئة قليلة ممتازة من المجتمع وتستهلكه فئة قليلة من الهواة، يرفض الكاتب باستنكار مثل هذا التقسيم ويرد قائلاً: (فأنا اعتقد انه من الممكن الارتفاع بذوق الجمهور، ومن الممكن تربية القراء تربية فنية ممتازة ليتذوقوا حسب ميولهم واستعدادهم الأدب الممتاز، الذي يريد الاستاذ ان يحتكره لمن يسميهم الهواة.) (نفس المصدر، ص64). ويعلن ثقته في قدرة الناس العاديين على التعلم والاكتساب وبالتالي التطور والتقدم ويرفض هذه الطبقية العقلية والفنية ويرى أنها مسألة امكانات وتكافؤ فرص في الوصول الى تلك الفنون وليست صفة فطرية الدنية لا تتغير. يقول الاستاذ: (ثم ان مسألة تذوق الأدب الجيد مسألة نسبية، تختلف مستوياتها بين الأدباء اختلافاً شاسعاً. فليس من الحق في شئ ان نقول ان هؤلاء الهواة المستهلكين يفهمون المعري مثلاً ويتذوقونه بنسبة واحدة. ومن هنا نشأت الخصومات الأدبية، وثار الجدل حول تفضيل مذهب من المذاهب، او أديب من الأدباء. ومعنى هذا ان الناس من غير الهواة، قد يكون لهم نصيب من فهم الأدب الجيد، ومن الجائز ان ينمو هذا النصيب ويزداد بالعناية والتعهد، بحكم أنهم بشر وأنهم قابلون للتربية) (المصدر السابق، ص65).
قد تكون الفكرة السابقة مدخلاً جيداً لعرض موقف الاستاذ محمد محمد علي من العامية. فاللغة عنده أداة وليست مطلوبة في ذاتها لأن للغة وظيفة تعبيرية واتصالية. وهو – كما اسلفنا – نقيض للشكلانية وتزمت وحذلقة بعض الأدباء في التعامل مع اللغة. لا يتوانى الاستاذ في ادراج العامية والشعر الشعبي ضمن اهتماماته وعمله النقدي بينما يركز باحث آخر تعرض لموضوع مماثل على ابعاد أي كلمة عامية عن محراب الشعر (قارن مع كتاب د. صلاح الدين المليك: شعراء الوطنية في السودان، الخرطوم، 1975، على سبيل المثال ص: 242 و255 و260 و276). ويقول في مقدمة كتابه (الشعر السوداني): (وكنت في اثناء هذه الدراسة املأ الفجوات التي يفتحها صمت الشعر الفصيح بشئ من الشعر الشعبي. لأنني كنت حريصاً على ان أرصد كفاح الشعب السوداني، ونضاله المرير في سبيل حريته وكرامته، ودفع الظلم والظالمين، فلو اكتفيت بالفصيح وحده لاختفت جوانب كثيرة من هذا النضال، ولاظلمت آفاق من التاريخ) (ص5). هذا هو المهم عند باحث همه الأدب الملتزم واجتماعية الأدب، وقد كتب قصيدته (ابن السراري) في جو الاحاجي الشعبية والاسطورية، فالاستاذ يتشنج في تعامله مع العامية وأدب الشعب لانه محدد ملتزم.
وقد تقود هذه النقطة بدورها الى قضية أساسية في كتابات الاستاذ محمد محمد علي وهي (قومية الأدب السوداني) او (القومية في الأدب السوداني) واحتلت هذه المسألة حيزاً كبيراً من كتاب (محاولات في النقد) ومن كتابات الاستاذ في الصحف اليومية وفي مساجلاته مع الدكتور محمد النويهي. وهذا الاهتمام بدهي ومفهوم لباحث تقوم منهجية عمله على اجتماعية الأدب، فسبب اثارة هذه القضية هو نسبية الافكار. فهو يرى ان وجود أدب قومي او محلي ضرورة حتمية في أي مجتمع لأن (العوامل المختلفة لابد ان تختلف نتائجها مهما يكن بينها من تشابه في الظاهرة، ومهما تكن قوة الظروف التي تعمل للتقارب وإزالة الفروق) (ص51-52).
ويرد الاستاذ على رأي يقول بعدم وجود أدب سوداني محلي يختلف عن المادة العربية التقليدية التي تنتج في أغلب البلاد العربية والاسلامية. ويعتقد الباحث ان قبول مثل هذا الرأي يستوجب تجاهل كل الحقائق التي اثبتتها الدراسات الاجتماعية والنفسية والأدبية: (والا فكيف نستطيع ان نفهم ان شعوباً مختلفة في طبيعة بلادها، وتجاربها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وان كانت تتواشج بعض التواشج، وتربطها عوامل تاريخية، يكون تكوينها النفسي واحداً، وتبعاً لذلك يكون أدبها متحداً في الموضوع والفكرة والعاطفة والخيال، ولا يكون لاختلاف الظروف مظهر الا في السمات الشكلية!) (ص52). ويؤكد الباحث بهذا النفي خصوصية أدب كل مجتمع مع احتمال وجود العام والمشترك إذ يقول في موضوع آخر: (انه بالرغم من اتفاق الآداب العربية في بناء القصيدة، وفي طريقة التناول، وطريقة التصوير في الغالب، تختلف اختلافات جوهرية، في الباعث والموضوع ونوع الشعور ومادة التصوير، الى غير ذلك مما يتصل بالتكوين النفسي للمنشئ، والتكوين النفسي والاجتماعية لقومه) (نفس المصدر، ص56).
يمكن القول ان هذه القضية استراتيجية في فكر الاستاذ محمد محمد علي لذلك كان حاداً في هجومه على النويهي الذي قلل من أهمية القومية في الأدب السوداني. ويرى الاستاذ ان النويهي يفتقد المنهج والدراية بالأدب السوداني وبعد نقاش طويل يختم الاستاذ حواره مع النويهي بقوله: (ونحن ان كنا نحزن لشئ، ونأسى على شئ، فهو هنا الجهد الشاق والضنى والرهق الذي يعانيه الدكتور في مقالاته الطويلة، وهي ليست في شئ. ليس لها موضوع ثابت، وليس لها منهج سليم، انما هي مجرد عناء ورهق. وكنا نود أن لو صرف الدكتور هذا الجهد الشاق فيما يفيد ويمتع، كأن يقرأ الأدب السوداني ما دام متعلقاً به قراءة شاملة دقيقة، تمكنه من تفهم معانيه وأغراضه، ثم يأخذ في دراسته على منهج سليم وطريقة مستقيمة، فيأخذ الشعراء مثلاً شاعراً شاعراً يتقصى آثارهم وظروف حياتهم (...) كل ذلك بعد ان يفهم البيئة السودانية فهماً جيداً فيعاشر سواد الناس ويقف على تقاليدهم وعاداتهم وأخلاقهم ونوع معيشتهم ومعتقداتهم وأذواقهم ويعرف ما يعتزون به من الماضي والحاضر) (ص180).
ونلاحظ تركيز الاستاذ على ان المنهج السليم الدقيق سيوصل بلا شك الى الاعتراف بقومية الأدب السوداني لأنه سيضع في الاعتبار الظروف الخاصة والمتميزة للمجتمع. ويقول: (ان مهمة الناقد ليس الكشف عن الحقيقة وحدها، وما يريد ان يتعلمه منه القراء ليست الحقيقة النهائية وحدها، فطريقة البحث قد تكون أهم من النتيجة التي يوصلنا اليها البحث. والناقد الحصيف هو الذي يملك طريقة علمية، يستطيع ان يستعملها في الأدب، ويستطيع ان يستعملها في السياسة والاجتماع، وفي فهم الناس، ونقد الاخبار والاشاعات) (ص182). ويفيد نقاش الاستاذ السابق من زاوية أخرى في ضرورة ادخال الطرق العلمية في الأدب مثله ومثل المعارف الأخرى وعدم الاقتصار على الحدس او الالهام او الذوق في تحليل الأدب.
لم يكن حديث الاستاذ محمد محمد علي عن المنهج السليم مجرد دعوة، ولكنه موقف وممارسة ونجد أحسن تطبيق له في دراسته عن الشاعر التجاني يوسف بشير. كما يظهر تفرد الاستاذ في هذه الدراسة اذ رغم الاعجاب والهالة التي تحيط بالتجاني لم يتوان في ان ينقد الشاعر في شجاعة وموضوعية غير متأثر بالآراء السابقة السائدة، متسلحاً فقط بمنهج علمي. ولا يدافع الباحث عن الغموض في شعر التجاني ولا يخشى من ان يتهم بعدم القدرة على فهم ذلك الشعر. فهو لا يرى في غموض شعر التجاني دليلاً على عمق وتشعب الافكار ولا على حسن الصنعة وتوليد اللغة وخلق الصور وان (للغموض أسباباً لا تمت الى العبقرية بصلة). ويعتقد ان التجاني قد صدق في قوله:
هو فني إذا اكتهلت وما زال في ريق الحداثة فني
ويعلق الاستاذ على ذلك قائلاً: (لكنني اعتقد ان فنه سيكون غير فنه اذا اكتهل. ستتغير نظرته للاشياء والآراء وستتغير نظرة الناس اليه، فتحمله على مراجعة فنه، لأنه سيطرح عن نفسه غرور الحداثة واستعلاءها، ويتحلى بتواضع الكهل وقدرته على الابانة والافصاح عما يدور برأسه من خواطر، وما يخالج نفسه من شعور) (كتاب محاولات في النقد، ص71).
ويعرض الباحث الكثير من النماذج لغموض شعر التجاني ويتوقف عد ايراد المعميات – كما يقول – لأن القارئ يستطيع ان يعثر على الكثير، ولكن المهم هو التأكيد على عدم وجود صلة بين العبقرية والغموض كما (انه ليس علينا ان نتخيل ان وراء هذا الابهام معان واسراراً لم نرزق القدرة على فهمها وتذوقها) (المصدر السابق، ص78) وأخيراً يرجع الباحث غموض شعر التجاني الى سببين رئيسيين: أولهما ان أداته في الاداء لم تنضج فهي ما زالت في ريق الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة الى السبب الأول، هو ان التجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه ولم يكن لها صدى في حياته) (المصدر السابق، ص84).
لا يسمح المجال بالاسهاب في تعداد افكار الاستاذ فذاك أمر أكبر من تحقيقه في صحيفة يومية، لهذا السبب نذكر في عجالة بعض مواقفه المتفردة راجين الاسهاب فيها لاحقا،وان يجد القارئ الكريم ايضا فرصة لمتابعتها في مظانها من أجل فهم أفضل لهذا المبدع العظيم. فهو يقول عن نفسه: (أنني من اشد الناس مقتاً للتقليد والمقلدين) (ص189) لذلك افرد مثالين للنظر في قواعد اللغة تحت عنوان: (هذا النحو لا حاجة لنا به) و(هذه البلاغة لا حاجة لنا بها). وهو يرى ان كتب النحو المطبوعة والمخطوطة تسد حاجة مدينة كبيرة من الوقود شهوراً (ص97) ومع ذلك لم تخدم تطور اللغة والفن في شئ لأنه لم يعد ينظر اليها كوسيلة الى غاية. كما ان البلاغة قد وضعت في قوالب ومصطلحات تضبط بالرسوم والحدود (ص103) ولم تعد تحمل الا قيمتها التاريخية. وكل هذا ليس فناً لأن الفن في حقيقته مغامرة تحطم القوالب. وتهزأ بالمألوف. ولو فقدت الفنون عنصر المغامرة واستكانت لارادة عباد القواعد لجمدت سفي صوتها الأولى، ولاصبح تاريخ الآداب ضرباً من التكرار الممل، وبلا لجمود الاحساس الانساني وتحجره (ص107) ويذكر في موقع آخر (... والجمال أرحب افقاً واكثر حرية من هذا الأفق المحدود والمضطر، الضيق الذي تحاول البلاغة ان تحصره فيه. الجمال تمرد ورثوه والقواعد استكانة وهمود، والجمال تحليق والقواعد اسفاف (ص108) ويبرز اتساق الباحث فكرياً فتظهر النسبية مرة أخرى عند الحديث عن البلاغة فهي يرى ان لكل عصر بلاغته (ص109) بل يذهب أبعد من ذلك ويقول: (ان لكل شاعر فحل وكاتب أصيل بلاغته الخاصة المستمدة من طبعه وخروفه وهذا معنى قولهم – الاسلوب هو الرجل – والاسلوب في حقيقته مجموعة من الخواص النفسية تنعكس على الجمل والتراكيب) (ص110).
ومن مواقفه الشجاعة التي ينتصر فيها للفن والشعر مهما كانت العواقب،هذه المداخلة.ففي تعليق علي كتاب محمد النويهي عن "ابي نواس"يقول:-"اراد الدكتور ان يفهمنا ان دعوى ابي نواس شرف الخمر وكرامتها تبدو غريبة عند معظم المسلمين،لأن الاسلام حرم الخمر ووصفها بأنها رجس من عمل الشيطان.وأنا لا أرى ذلك،فالخمر بالرغم من تحريم الاسلام لها ظلت في نظر المسلمين أرقي من سائر الأشربة،ويكفى دليلا عليذلك قول حسان بن ثابت يوم فتح مكة:
اذا ما الاشربات ذكرن يوما فهن لخالص الراح الفداء
والقرآن الكريم نفسه أشاد بخمر الجنة اشادة لم تظفر بها انهار العسل المصفي واللبن.فالمسلمون يعرفون انها متميزة عن سائر الاشربات،وان كانت محرمة لأسباب توجب تحريمها في الدنيا."(ص9)
الأدب والدين
كانت معارك الاستاذ لا تتوقف ويحارب في العديد من الجبهات لانه لا يتجنب التحديات .وهو جاهز لأي معترك،ليس بسبب العدوانية ولكنه باحث عن الحقيقة. ولهذا تطرق الاستاذ الى هذا الموضوع الشائك والحساس في حوار مع الاستاذ محمود محمد طه. وليس هذا هو أول نقاش مع الاستاذ محمود اذ سبق ان وجه له مقالة بعنوان (تكرموا بانزال الفلسفة من السماء الى الارض) وجاء الرد: (أو ما علمت ان الارض قد التحقت باسباب السماء) (كتاب: رسائل ومقالات. الخرطوم 1973، ص4-9). لم يواصل الاستاذان نقاش هذا الموضوع لانه يبدو ان الانطلاقة كانت من خطين متوازيين وهذا ما عبر عنه الاستاذ محمود محمد طه: (... عنوان بارع يدل من الوهلة، على ما ينتظر القارئ من نظرة عملية وواقعية... ولست أريد ان اطيل وقوفي هنا ولكني لا أحب ان ازايل مقامي هذا قبل ان اؤكد لك ان الارض في تفكيري قد التحقت باسباب السماء.. فلست أرى ارضاً ولا سماء، وانما وحدة اتسقت فيها العوالم من الدراري الى الذراري، في غير تفاوت نوع) (ص4).
يوضح الاستاذ محمد محمد علي في موضوعه عن (الأدب والدين) أنه لا يريد أن يعقد مقارنة بين الأدب والدين للوصول الى أيهما اكثر فائدة ؟ لان مثل هذا العمل لا يخدم أي غرض (فللدين رسالته وللأدب رسالته، والمجتمع الانساني محتاج الى كلتا الرسالتين، وليست احداهما بمغنية عن الأخرى فتيلاً) (محاولات في النقد، ص115). ومن الجانب الآخر يلخص رأي الاستاذ محمود محمد طه الذي يقول بان الأدب وسيلة ناقصة ومعيبة للبحث عن الحقيقة والحقيقة هي معرفة ذات الله. لذلك، فالأدب لا يستحق ان نشتغل به وننفق حياتنا في تحصيله وتنميته، والاجدر ان نشتغل بالدين).
يرى الكاتب ان هذا الرأي غريب وشاذ ولكنه وجد منذ القدم اذ حقر بعض الفلاسفة الأدب. ولكن الاستاذ وضع محكاً لتقدير النشاط الانساني لا يخضع لرغبات المجتمع واهواء الناس المتباينة، فالهدف لكل نشاط انساني هو معرفة ذات الله. ويقول الشاعر:-" وموطن الخطأ في هذا الرأي،أنه من يفرض على الأدب غاية ليست غايته، ويحصره في نطاق لا يستوعب حقيقته، ثم يرسله مع الدين في مضمار واحد يستبقان الى تلك الغاية.وعلي هذا فسيكون الأدب من غير شك وسيلة مقصرة معيبة،لانه لا يغني هنا غناء الدين." (المصدر السابق، ص116). ويلجأ الكاتب الى وسيلة منطقية في تقييم رأي الاستاذ محمود، فكما يقول انه اذا اردت معرفة صحة رأي من الآراء فافرض تعميمه. لذلك يطلب منا ان نتصور ان الناس جميعاً استجابوا الى دعوته فأعرضوا عن العلم والآداب والفنون، وعكفوا على انفسهم يتأملون تأملات صوفية ليصلوا الى معرفة ذات الله! ولذلك يرى الباحث انه ليس هناك ما يبرر حصر أهداف الأدب في غرض واحد، يلم به الأدب في بعض الاحيان كما نرى في أدب المتصوفة، ثم يعرج عن التعريف الذي أورده الاستاذ محمود للأدب (فاما الأدب فهو التعبير عن التجارب الشخصية في اسلوب رشيق) ويرد الباحث بانه تعريف مقبول ولكنه لا يؤيد فكرة الاستاذ بل ينقضها نقضاً لأنه من الجائز ان يكون الالحاد وتمجيد الاوثان من هذه التجارب الشخصية، ومع ذلك فهي تجارب مقبولة في الأدب الذي عبرت بصورة تلبي شروط الأدب الجيد لأنها تبصرنا بحقائق اجتماعية ونفسية وتطير بنا الى قمم شاهقة من الجمال! وهذا يعني ان طبيعة الأدب مختلفة عن طبيعة الدين حتى في نظر الاستاذ محمود (حسب تعريفه (ص116).
يستعمل الاستاذ محمد محمد علي منهجه في التفكير ببراعة وذكاء، ويحترم نسبية الحقيقة تماماً، اذ يقول: (والاستاذ يعلم ان الدراسة القيمة المنتجة، هي ان ندرس الشئ ونحكم عليه في حدود طبيعته، اما ان نفرض عليه طبيعة شئ آخر، ثم نأخذ في المفاضلة بينهما فأمر لا خير فيه. وللاستاذ ان يشتغل بالدين وان ينصرف عن الأدب. ولغيره ان يعجب بالأدب ويعكف عليه، فالمسألة مسألة ميل واستعداد قبل ان تكون مسألة رأي وفلسفة. فليس كل من أراد الأدب استجاب له، وسلس له قياده، وليس كل من زاول دراسة الدين وتفهمه، وصل الى هذه الغايات التي يريد الاستاذ الفاضل ان يمنحها حياته ويدعو اليها الناس) (ص116-117) وبسبب هذا التخصص او القدرات فالباحث يرى ان تاريخ الأدب يثبت ان المتصوفة والشعراء الدينيين عاشوا عالة على الشعراء. ويطلب منا ان نرجع الى ما قاله كبار المتصوفة في العشق والهيام والوحد والغناء والاتحاد... الخ. فلن نعثر على أي جديد أضافوه الى ما قاله ابو نواس واضرابه ومجنون ليلى وأمثاله. وحتى في شعر الزهد والندم ومخافة الله ووصف غرور الدنيا نجد ان شعراء المجون كانوا أخصب الهاماً من شعراء المتصوفة (ص117) ويرى الباحث أخيراً ان مثل هذه الدعوة تخلو من السماحة او التسامح الديني في التعامل مع الأدب لأن النبي الكريم كان يهتز لشعر نصفه غزل ويثيب عليه – لذلك فتلك دعوة للانصراف عن النشاط البشري المثمر الى التأملات الصوفية المريضة. (ص120-121).
يخلص الكاتب الى القول بأن الأدب والدين حاجة من حاجات المجتمع ولكل منهما طبيعته وأغراضه. ويبدو ان هذه الاتجاهات – التي تدمج كل النشاط الفني في نشاط واحد – قد ظهرت في الفكر الاسلامي منذ فترة طويلة، يقول أدونيس عن الشعر وينسحب على الأدب عامة: (.. الأمر الثالث هو نشوء نظرتين في فهم الشعر وكتابته: نظرة تستند الى الاسلام كرؤيا وكممارسة، ونظرة تستند الى الشعر ذاته، من حيث انه تجربة متميزة او فعالية انسانية تتصل بأخص خصائصه الانسانية. واستندت النظرة الأولى الى التقليد، اما الثانية فاستندت الى الابداع) (7).
يعتبر نقاش الاستاذين محمود محمد طه ومحمد محمد علي،من أرقي الحوارات السودانية.ولكن تم غمره،افهم أن يقوم بذلك السلفيون ولكن ماذا دهي الاخوة الجمهريون وهم المجادلون المحاورون؟هناك اشكالية وصلت الجمهوريين الحساسية تجاه النقد.كما دأب بعض الجمهوريين بتحديد قيمة "المثقف" بمقدار قبوله أو رفضه لافكار الاستاذ محمود.ارجو ان تكون الذكرى الاربعين فرصة لتجديد ذلك الحوار وفي الأمر تكريم للرجلين العظيمين.
المراجع:-
. محمد المكي ابراهيم: الفكر السوداني أصوله وتطوره، ص69.
2 . كارل مانهايم – الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة عبدالجليل الطاهر 1968، ص390 وما بعدها.
3- محمد محمد علي:الشعر السوداني في المعارك السياسية ،1821-1924.القاهرة،مكتبة الكليات الازهرية،1969،ص7.
4.نفس المصدر السابق،ص3.
5.محمد محمد علي:محاولات في النقد.الخرطوم،دار البلد للطباعة والنشر،1998،ص32.
6.الشعر السوداني ...مصدر سابق،ص67.
7. (ادونيس: الثابت والمتجول، ج3، صدمة الحداثة، بيروت،دار العودة، 1979، ص236
*
سبق نشر اجزاء من هذا الموضوع.
Hayder Ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.