البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    افتتاح المعرض الصيني بالروصيرص    أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنوات النميري: الصياغة القلندرية للتاريخ 4-4 ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 20 - 10 - 2010


[email protected]
نص خارج السياق:
(سألني أحد المثقفين: ماذا تكتب هذه الأيام؟ قلت: أؤلف كتاباً عن النكتة. صمت قليلاً وتململ في مجلسه ثم قال: أنت أكبر من أن تكتب عن النكتة. ولم أجد في ذلك إطراءً، فهل أنا أكبر من الجاحظ؟! حالة كهذه عشتها في بداية نشاطي ككاتب. وقتها كتبت مقالة عن الجنس، فكان هم أحد الأصدقاء المثقفين أن يهون من قيمة ذلك العمل، ويبين ضرورة صب الجهود في التوعية السياسية. وكأني بهؤلاء الناس الطيبين يريدون القول: أهذا وقت الكتابة عن النكتة أو الجنس أو ألف ليلة وليلة، والأمة العربية في هذه الحالة التي هي عليها؟! لهؤلاء أقول: وماذا أفعل للأمة العربية إذا كانت أحوالها على هذا السوء منذ مئات السنين؟! وهل إنقاذ الأمة العربية متوقف على كتابتي أنا العبد الفقير الى الله بو علي ياسين؟!)
"من مقدمة كتاب (بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة) للكاتب السوري بوعلي ياسين".

*************
كنا قد كتبنا من قبل ونحن نعالج سِفر اللواء "م" محمود قلندر (سنوات النميري: توثيق وتحليل لأحداث ووقائع سنوات حكم 25 مايو في السودان)، أنه وبالرغم من أننا نقدر جهد المؤلف حق قدره، ونثمن عطاءه، إلا أننا نأخذ عليه بعض العلل التي تتصل بصناعة الكتابة والتوثيق، وقلنا إن شأن مثل هذه العلل أن تضعف موضوعياً من قيمة الكتاب. وكان من ضمن ما ذكرنا في معرض إبداء القلق من هذه الظاهرة: (إن المؤلف يتقاصر في أحيان كثيرة عن تجويد صناعته البحثية، بحيث يورد حيثياتٍ ضعيفة مترددة غير مكتملة التوثيق. مع أن المعلومات حول الوقائع المتصلة بها متوافرة في متناول اليد، ومتاحة لطالبيها بغير كبير عناء).
نقف - على سبيل المثال - عند استعراض المؤلف لتكوينات القوات المسلحة السودانية، ثم تشكيل مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء بعد انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م فتأخذ الحيرة بألبابنا من تواتر التجاوزات والأخطاء والهنات، التي يشق على المرء تقبلها، بالنظر الى صدورها عن لواء بالقوات المسلحة، تصدى لمهمة "توثيق" الوقائع والأحداث "وتحليلها" كما يرد في عنوان الكتاب.
يحدثنا المؤلف في الصفحتين 67 و68 عن تاريخ القوات المسلحة السودانية، فيذكر أن مصر الثورة سارت على خطى مصر الملكية في السعي لربط الجيشين السوداني والمصري. وبعد أن يقدم شرحاً كافياً لهذه السياسة المصرية، فإنه يذكر لنا أن مصر قامت - في إطار ذات السياسة - بدفع عدد من ضباط الجيش المصري ذوي الأصول السودانية للانخراط في الجيش السوداني. ويمضي صاحبنا - لا يلوي على شيء - فيزودنا ببعض الاسماء لشخصيات يفترض انها كانت من عناصر الجيش المصري التي دفعت بها الحكومة المصرية للالتحاق بالقوات المسلحة السودانية، بغية إحكام الرباط بين الجيشين والبلدين، وهي أسماء لمعت نجومها في سماء السودان بعد ذلك بحسب المؤلف. في طليعة الأسماء نجد اسم (الضابط المهندس عمر محمد سعيد). وفي مكان آخر من الكتاب يفيدنا المؤلف أن عمر محمد سعيد هذا تولَّى في سنوات مايو الاولى منصب وكيل وزارة الثقافة والإعلام. غير أنني أستطيع أن أجزم هنا، بغير كثير حذر، أن العميد (مهندس) عمر محمد سعيد لم يكن قط ضابطاً في القوات المسلحة المصرية، ولا علاقة له بمصر وجيشها من قريب أو بعيد، وبالتالي فإنه لا مجال على وجه الاطلاق لأن تكون الحكومة المصرية - الخديوية أو الناصرية - قد بعثت به للالتحاق بالقوات المسلحة السودانية. المرحوم عمر محمد سعيد، وقد غادرنا الى دار البقاء قبل سنوات، ولد وترعرع في السودان، ودرس في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، ثم التحق فور تخرجه بسلاح المهندسين بالقوات المسلحة السودانية. وبعد انقلاب مايو أصبح قائداً لكتائب الحرس الوطني، وهي كتائب مسلحة شعبية تشابه فكرتها قوات الدفاع الشعبي، ثم تولى وكالة وزارة الإعلام في بداية السبعينات. ولا أعرف من الذي وضع في رأس اللواء قلندر ان العميد عمر كان من ضباط الجيش المصري وان مصر بعثت به للالتحاق بجيش السودان!
وفي تحريه عن الشخصيات التي لعبت أدواراً محورية في تدبير وتنفيذ انقلاب مايو تعرض قلندر لشخصية مسؤول شرطة مدينة الخرطوم آنذاك العقيد علي صديق، وأشار الى دوره في حماية الانقلاب وتأمينه، عن طريق السيطرة على المعلومات المترددة من خلال أجهزة الأمن الداخلي والمباحث عن تحركات الجيش المرتقبة ساعة التنفيذ. ولا غبار على هذه المعلومة. الغبار كله، يأتينا عندما نقرأ في الصفحة (105) محاولة من المؤلف لتوثيق حقيقة ما اذا كان علي صديق هذا قد أصبح عضواً في مجلس قيادة الثورة أم لا. وينتهي هذا الجهد بأن يحيلنا قلندر الى كتاب آخر لمحجوب عمر باشري بعنوان "معالم الحركة الوطنية" (1996م) يؤكد أن العقيد علي صديق (تم تعيينه في أول الأمر عضواً بمجلس قيادة الثورة)، غير أن المؤلف لدهشتنا يضيف العبارة التالية: (وهو ما لا نملك له تأكيدا). الدهشة التي تستغرقنا هنا مصدرها أن هناك مجلساً واحدا لقيادة الثورة عرفته مايو، وقد جرى تشكيله، من بين أفراد تنظيم الضباط الأحرار، قبيل سويعات من تنفيذ الانقلاب، وجرى إعلانه - نشراً وإذاعة – في بيان عسكري صبيحة الخامس والعشرين من مايو 1969م. ونحن هنا لا نتحدث عن وقائع جرت في القرن الرابع عشر الميلادي، وإنما عن تاريخ معاش وحي لم ترث أوراقه بعد. بل ان مجلس قيادة الثورة المشار اليه ما يزال أغلب أعضائه على قيد الحياة، يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق! ولا جدال في ان العقيد علي صديق لم يكن عضواً في مجلس قيادة الثورة، لا في بدايات أمره ولا في نهاياته. ولكن السؤال الاهم والأكثر إلحاحاً هنا: ما الذي حال - يا ترى - بين اللواء قلندر وبين تحري المعلومة في مظانها وتوثيقها من رؤوس مصادرها، وهؤلاء جميعاً مثله، ضباط سابقون في القوات المسلحة، طالما انه أخذ على عاتقه مهمة تدوين التاريخ وتوثيقه؟! ثم ما حاجته للمصادر الثانوية الضعيفة، مثل كتاب باشري بمعلوماته المغلوطة، والمصادر الأولية متاحة ومتوافرة أمام ناظريه، والبشر الذين صنعوا الأحداث نفسها أحياء يتنفسون على مرمى حجر منه؟!
بيد أن ظاهرة التسيب وعدم الانضباط والخفة المفرطة في تحقيق الوقائع وإيراد المعلومات تأخذ مداها في الصفحتين (112 و113) عندما يشرع المؤلف في تنويرنا عن أول مجلس للوزراء جرى تشكيله وإعلانه صبيحة الانقلاب. كتب صاحبنا: (جرى تشكيل مجلس الوزراء من واحد وعشرين وزيراً.. ولترطيب الذاكرة الوطنية في هذا الصدد نسجل أسماء وزراء أول حكومة لمايو وهم...). ثم تفضل مشكوراً فسجل أسماء الوزراء الواحد وعشرون، أو هكذا خُيِّل لي في البداية، ألم يقل لنا ان عدد الوزراء واحد وعشرون؟! المشكلة انني عندما أحصيت الوزراء الذين أوردهم صاحبنا وجدت انه كتب ستة عشر اسماً فقط، ثم قلب الصفحة ومضى في طريقه لا يلوي على شيء. يا سبحان الله. ما الذي حدث إذن للوزراء الخمسة الباقين؟! نرجو ألا يكون قد جرى لهم مكروه، لا قدر الله! والحقيقة ان مجلس الوزراء الذي تم إعلانه صبيحة الانقلاب اشتمل فعلاً على واحد وعشرين وزيراً، وقد سقط خمسة وزراء سهواً من قائمة قلندر. وجل من لا يسهو!
وفي الصفحة (269) كتب المؤلف: (حين كونت مايو حكومتها الأولى كان عدد العسكريين لا يتعدى اثنين احتلا الوزارات ذات الطابع العسكري، الدفاع عمر الحاج موسى، والداخلية فاروق حمد الله). والمعلومة مغلوطة تماماً، فليس صحيحاً أن عمر الحاج موسى تولى وزارة الدفاع في حكومة مايو الاولى. وزير الدفاع في الحكومة الاولى كان هو جعفر محمد نميري شخصياً، وليس عمر الحاج موسى. والحق أن وجود نميري كوزير للدفاع كان من المظاهر الشاذة في تلك الحكومة، لأنه كان بتلك الصفة مرؤوساً لرئيس الوزراء بابكر عوض الله، بينما كان الأخير مرؤوساً له في مجلس قيادة الثورة الذي يرأسه نميري ويأخذ فيه بابكر صفة عضو!
كما نلاحظ على المؤلف انه يستسهل كثيراً في ذكر الأسماء فلا يدقق. تجده - على سبيل المثال - يكتب قائمة بأسماء اللامعين من قيادات القوات المسلحة فيذكر اسم: الفريق عز الدين علي عامر. والاخير طبيب وقيادي شيوعي لا علاقة له بالقوات المسلحة، وإنما المقصود هو الفريق عز الدين علي مالك. تماما مثلما أن صاحبنا لا يدقق في المعلومات المتعلقة بتاريخ الجهاز التنفيذي وشاغليه فيكتب مثلاً: (منصور خالد الذي خلف محي الدين صابر في وزارة التربية والتعليم). وليس صحيحاً أن منصور خلف محي الدين على تلك الوزارة، وإنما جاءها في مرحلة لاحقة متأخرة. والذي خلف محي الدين على وزارة التربية والتعليم هو الدكتور محمد خير عثمان.
ولا يجد صاحبنا حرجاً في أن يكتب من الذاكرة بغير تثبّت، ثم يضع بعض العبارات بين قوسين منسوبة لأصحابها المفترضين. من ذلك أنه نسب الى الراحل الرائد هاشم العطا عبارة معينة على أساس انها جاءت في بيان انقلابه، الذي أذاعه عصر التاسع عشر من يوليو 1971م، حول تخبط نظام مايو وتأرجح مواقفه، إذ فتح صاحبنا قوسين وكتب بعد لفظة "وقال"، يعني القائل هو الرائد هاشم العطا وهو يتلو بيانه، العبارة التالية: "يوماً في اليمين، ويوماً في اليسار، ويوماً لا يمين ولا يسار". وهناك عبارة مقاربة لهذه وتحمل ذات المعنى الى حد كبير، وردت بالفعل في نص بيان الانقلاب (الذي صاغه الأستاذ التجاني الطيب)، ولكنها وردت بصياغة مختلفة، وهي بالقطع ليست العبارة التي اقتلعها قلندر من بين تلافيف ذاكرته ثم سطرها ووضعها بين قوسين. وتلك "خفة" في الكتابة، وبلية في صناعة التوثيق، يصعب غض البصر عنها.
ومما نأخذه على المؤلف ولعه الشديد بالاستفاضة والتوسع - تحت مظلة التحليل - في سرد روايات لا يسندها الواقع ولا تحمل معنىً حقيقياً، بل اننا لا نجد حرجاً في أن نقول إن بعضها يقترب من أسوار الوهم والخيال. مثل ذلك القالب التحليلي "الروائي" عن ملابسات إعفاء الفريق أول عبد الماجد حامد خليل من منصبه كنائب أول لرئيس الجمهورية، فبعد مقدمة درامية طويلة عن صراعات ومؤامرات بين أجنحة متعددة داخل القصر الجمهوري. كتب: (أما الجيش فلم يكن طرفاً في ذلك الصراع في تلك الأيام، فعبد الماجد صرعته جماعة القصر الاولى في تعاون وثيق مع جناح آخر من أجنحة الصراع في تحالف مرحلي بين تلك الجماعتين). وهو كلامٌ أقرأه، ويقرأه كثيرون غيري، فيحتارون في فك طلاسمه. الذي يعرفه الجميع أن النائب الاول الفريق عبد الماجد فقد منصبه بعد اجتماع القيادة العامة الشهير في 21 و22 يناير 1983م، الذي واجه فيه كبار الضباط - تحت حماية عبد الماجد نفسه - الرئيس نميري بمخاوفهم وانزعاجهم من تدهور الأحوال العامة في البلاد واستشراء الفساد. وقد أصدر الرئيس نميري، كنوع من الإجراء الوقائي والحماية الذاتية، وتحت تأثير القلق والاضطراب والخوف الشديد الذي انتابه بسبب مواجهة الضباط له ومطالبتهم له باتخاذ إجراءات ضد الفساد والمفسدين، لا سيما وأن تلك كانت أول سابقة من نوعها يواجه فيها قيادات القوات المسلحة رئيس الدولة، أصدر قراراً بإعفاء الفريق أول عبد الماجد وغالبية الضباط المشاركين في الاجتماع وعددهم يفوق العشرين. لا علاقة لهذا الأمر إذن بأية أجنحة أو تيارات أو صراعات داخل القصر أو خارجه، أو أية نظرية من نظريات المؤامرة. وإنما هو فقط خوف النميري على نفسه وسلطته، والرعب الذي انتابه من إمكانية تطوير الضباط لموقفهم بالاستيلاء على السلطة وإنفاذ التغيير المطلوب بالقوة.
وقد نبدو ونحن نورد بعض ما أوردناه هنا من عللٍ قادحة وكأننا نشدد النكير على المؤلف ونلزمه بمعايير شديدة الارتفاع في كتابة التاريخ. ولكن ذلك إن صحّ فإنما مرده هو أننا نحمل المؤلف نفسه على محمل رفيع، ولا نقبل منه ما قد يجوز أن نقبله على مضض - أو على الأقل نغض الطرف عنه - عندما يأتينا من لدن المتطفلين على شغل الكتابة ومهام التوثيق.
غير أن هناك الكثير بطبيعة الحال الذي يثير الاهتمام، ويضيف الى حصائل المعلومات، ويشبع الفضول في كتاب اللواء قلندر. كنت شخصياً أتساءل دوماً عن بعض المصطلحات التي جرت في التاريخ السياسي السوداني مجرى الحقائق الثابتة، مع أن الغموض، في حقيقة الأمر، يكتنفها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. ومن ذلك - مثالاً - تعبير "غزو المرتزقة" أو "المرتزقة الأجانب" عند الحديث عن محاولة الجبهة الوطنية الاستيلاء على السلطة في يوليو 1976م. لماذا وصف الغزاة الذين أتوا من معسكرات الجبهة الوطنية في ليبيا واثيوبيا بأنهم مرتزقة أجانب مع إنهم سودانيون وملامحهم سودانية بحتة؟! وقد وجدت الإجابة عند قلندر، الذي أفادنا بأن التقارير الأولية المتعجلة التي كانت تصدر من عناصر الاستخبارات والأمن، عند بداية تصدي الأجهزة والقوات النظامية الحكومية للغزو، أشارت الى وجود "عنصر ليبي" ضمن الغزاة. وذلك بناء على معلومات استخبارية أكدت أن هناك شخصية ليبية شوهدت وهي تقود فريقاً من المقاتلين بالقرب من مبنى دار الهاتف. وكانت تلك التقارير الأمنية هي النواة التي انطلق منها غول مصطلح "المرتزقة". وبحسب قلندر فإن التحقيقات المعمقة والمتأنية، بعد انجلاء الموقف، كشفت أن الشخصية الليبية المرصودة لم تكن غير الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، المستشار الرئاسي الحالي، وقائد جماعة الإسلامويين التي قامت يومذاك باحتلال دار الهاتف بالخرطوم. وكان الاعتقاد قد ساد بين عناصر المخابرات لبعض الوقت أنه ليبي الجنسية، وذلك بسبب اللون الأبيض والملامح العربية.
وكنت قد وقفت كثيراً أمام بعض كتابات الأكاديميين والمؤرخين الغربيين ممن تعرضوا لسيرة الراحل الدكتور جعفر محمد علي بخيت ومواقفه المؤثرة وإنجازاته اللامعة خلال سنوات مايو. ومما درج هؤلاء على ترويجه بصورة متكررة وثابتة أن الراحل الكبير بنى أُطروحة علمية كاملة نال بها درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات البريطانية حول نظام الإدارة الأهلية في السودان، وقد زكت الأطروحة ذلك النظام، ودافعت عنه دفاعاً مجيداً، وأكدت أهميته في سياق الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في السودان. وفي المقابل فإن الدكتور جعفر بخيت عندما أصبح وزيراً قيادياً وصانعاً للسياسات والبرامج في حكومة مايو فإنه انقلب بموقفه ذاك رأساً على عقب، فأيّد ثم أشرف على تصفية الإدارة الأهلية والقضاء عليها، وأقام على أشلائها نظام الحكم الشعبي المحلي. ولم أكن قد وقفت قط على دفاع الدكتور بخيت عن نفسه في مواجهة تلك الأقاويل الواسعة الترديد. وفي كتاب اللواء قلندر ترد الإشارة الى ان الرجل تمت مواجهته فعلاً بتهمة التناقض تلك، إذ توجه اليه المؤلف وعدد من زملائه بالسؤال التالي: (إنك يا دكتور كنت مدافعاً صلباً عن الإدارة الأهلية في قاعات كلية الاقتصاد وأنت تحاضر، فكيف لك الآن أن تجتهد لتقتلعه من جذوره وأنت في الوزارة؟) وكان رد الدكتور جعفر بخيت، كما سجله قلندر: (قلت لكم في المحاضرات ان النظام السياسي القائم على الموازنات، كالنظام الحزبي، لا يملك إلا أن يكون سبيله الى ثبات المؤسسات بالحفاظ على التقليدي القديم. أما اذا جاءت ثورة وأمسك نظام ثوري بمفاتيح الحكم، فإن ذلك الحكم وحده القادر على اقتلاع المؤسسات القديمة واستبدالها. الأنظمة الثورية هي فرصة الشعوب للتغيير وها قد جاءت الفرصة لشعب السودان). وليس المقام هنا مقام مناقشة رد الدكتور على منتقديه. ولكنني شعرت بالغبطة لمجرد الحصول على رده المفصل بعد كل هذه السنوات، بصرف النظر عن موقفي أنا من ذلك الرد.
من بين الجوانب التي توقفت عندها متأملاً تلك الصفحات في نهاية الكتاب وقد اشتملت على حوار دار بين المؤلف والراحل الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، أحد مدبري الانقلاب وعضو مجلس قيادة الثورة. وقد وجدت لافتاً للنظر أن الرائد زين العابدين يحمّل المثقفين السودانيين جانباً كبيراً من المسئولية عما جرى للسودان خلال سنوات حكم النظام المايوي. وسأنقل لك – أعزك الله - فيما يلي جزءاً مطولاً بعض الشيء من ذلك الحوار لنقف على رأي ذلك العسكري المايوي القيادي حول مثقفي السودان، وهو رأي يستحق الوقوف عنده فعلاً. يقول الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، وفق ما أورد قلندر: (حينما قمنا بالثورة عام 69 كنا شباناً صغاراً قليلي التجربة والمعرفة السياسية، فجمعنا الينا عدداً من المثقفين والخبراء والسياسيين ذوي التجربة، قاصدين أن يكونوا هم القادة ونحن الحماة، وكانت الكوكبة المختارة تضم صفوة الناس من العلماء ممن كنا نكن لهم التقدير والإجلال. كنا في بعض الاحيان نكاد ان نقف احتراماً وتقديراً لتلك الشخصيات، تماماً كما درجنا أن نفعل في القوات المسلحة مع من هم أكبر رتبة وموقعاً. ولكننا فوجئنا ببعض من كنا نقدرهم ونجلهم تقديراً للعلم والمعرفة. إذا ببعض هؤلاء يقفون لنا قبل أن نقف لهم. واذا بهم يتسارعون الخطى لكي يفسحوا لنا المجال قبل ان نفسحه لهم. واذا بهم يكيلون لنا من المدح والثناء على قدراتنا ما كنا نعرف انه ليس صحيحاً وانه ليس فينا). وكتب قلندر هنا ينقل عن الرائد زين العابدين: (وذكر زين في هذا المقام أحمد سليمان. قال إنه كان اكثر الناس مدحاً وأكثرهم مبالغة في الثناء على القادة والقيادة. قال زين: كان بعض اولئك يطنب في المدح والثناء بما يطرب له أي بشر، خاصة وان كل إنسان مجبول على حب المدح والثناء). وليس من أغراضي هنا ان أتناول بالتعليق هذه التصريحات المدهشة المنسوبة لأحد القادة التاريخيين لانقلاب مايو، وإنما نقلت ما نقلت لك، أيها الأعز الاكرم، لتقف مثلي على ما وقفت عليه، وتتأمل ما شاء الله لك أن تتأمل.
وربما كان من المناسب وأنا أقترب من نهاية هذه الحلقات أن أنقل اليك أيضاً خبر ما جاء في رسالة الرئيس السابق الراحل جعفر نميري للمؤلف. وكان اللواء قلندر قد سلم نسخة من أصول الكتاب الى الرئيس الراحل قبل الطبع، حتى يقرأه ويفيد المؤلف بالرأي ثم بالتصحيح لما عسى أن يكون قد وقع فيه من أخطاء. وقد رد الرئيس السابق برسالة نشرها المؤلف بكاملها في خاتمة الكتاب. ويتضح من رد الرئيس السابق انه لم يكن راضياً عن المؤلف وكتابه اذ وصف الكتاب بأنه (يحلق في بساتين هواء)، ووصف الكاتب بأنه يسعى الى الشهرة. ومما جاء في الجزء الاخير من الرسالة: (الأخ الفاضل - إن استهلالي في كتاب "النهج الإسلامي لماذا؟" يكفيني ويدفع عني الكثير الذي تفكر فيه. أنتم اصحاب الأقلام تهدفون الى الشهرة حتى ولو على حساب غيركم. ولا أريد ان اقول انكم باجتهادكم كتابة هذا السفر قد انحرفتم ولكنكم لا تسيرون على الطريق القويم). وقد جاء توقيع الرئيس الراحل في ذيل الرسالة على النحو التالي: (أخوكم المشير جعفر محمد نميري، وليس النميري). وقد خطر لي أن المؤلف قد وفق توفيقاً كبيراً بنشره رسالة الرئيس كاملة في نهاية كتابه، خاصةً وانها في عمومها تتميز بالاضطراب الشديد، وتعكس الحالة العقلية والنفسية التي انتهى اليها الرئيس الراحل بعد خلعه ومفارقته لسدة السلطة.
كتب الله لأخينا سعادة اللواء "م" محمود قلندر أجر العمل الصالح، وأثابه على جهده في الرصد والتدوين والتوثيق لتلك المرحلة الهامة من تاريخ السودان المعاصر، أجزل المثوبة. كونه أمسك بزمام المبادرة، واجتهد في تدوين هذا السفر القيم، الذي برغم العلاّت والهنّات يبقى إضافة متميزة للمكتبة السياسية السودانية، من حيث انه يلقي بأضواء كثيفة على حقبة عزيزة من تاريخ وطننا، وهي حقبة ما زالت جوانب كثيرة من وقائعها وحادثاتها تخفى على الناس. وستظل الابواب مشرعة تنتظر ولوج المئات من الشخصيات السودانية الشاهدة على عصرها، والصانعة لوقائعه وأحداثه، والمشاركة بأقدار متفاوتة في صياغة ذلك التاريخ، أن تحذو حذو اللواء الدكتور محمود قلندر فتقدم للناس كل ما عندها، أو بعضه، أو ما تيسر. والعهد عندي، إن هم فعلوا، أن أتناول ما يكتبون – في زاويتي هذه - بذات روح المحبة والود الخالص، والرغبة الأصيلة في إشاعة الوعي وتعظيم بؤر التنوير في حياتنا العامة.
عن صحيفة "الاحداث" – 20 اكتوبر 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.