هناك استسهال في الحكم الرائج علي اداء احزابنا السياسية بالقصور وعدم النضج دون تحفظ هو في حد ذاته دليل علي القصور وعدم النضج لانه لايسأل نفسه السؤال البديهي : متي أتيحت لهذه الاحزاب فرصة حقيقية لتطوير ادائها ولم تحسن استثمارها لكي ندمغها بالقصور الكامل؟ عمر احزابنا لايجب ان يقاس بالفترة الزمنيه وانما بفترات النمو الطبيعي التي أُتيحت لها منذ الاستقلال. مانسميه بالفترات الديموقراطيه التي يُفترض انها فترات النمو الطبيعي ليست قصيرة فقط ( 12 عاما متقطعه من 52 عاما ) وانما لاتستحق هذه الصفة اصلا لان الديموقراطيه لاتعني انعدام الاجراءات والاجهزة الدكتاتورية وحسب وانما ايضا توفر استقرار سياسي نسبي يسمح للديموقراطيه بالترسخ في وعي الجمهور العام، وليس الاحزاب نفسها فقط، وكمؤسسات. صحيح ان للاحزاب نفسها دور ومسئولية في تحقيق هذين الشرطين ولكنها لكي تفي بدورها هذا تحتاج ابتداء الي فترة هدوء نسبي تعود خلالها الي العمل الحزبي بمعناه الحقيقي ( تطوير افكارها، التخطيط والبرمجه، الاتصال المفتوح بالقواعد الخ.. الخ..) الذي يمكنها من ذلك ويمكننا من اصدار حكم صائب عليها، بدلا من العمل الذي كُتِب علي احزابنا القيام به منذ كتمت الدكتاتورية الاولي انفاسنا عام 58 وهو حماية نفسها من الضغوط فهي اما لاهثة من الملاحقات الامنيه او ساكنة تحوطا من هذه الملاحقه او مزيج من الاثنين. ينطبق هذا بصورة خاصة علي الحزب الشيوعي لان انضباط تركيبته التنظيميه والطابع النوعي لكوادره يتيحان له قدرة اكبر علي الحركه تحت الضغوط مما يجعله هدفا لها اكثر من غيره من الاحزاب الاخري علي وجه العموم. علي ضوء هذه الحقيقه، او تصور كاتب المقال لها، تأتي هذه المجموعه من الافكار التي اثارها تقرير الحزب الشيوعي للمؤتمر الخامس. يخمن المقال بأن توفر ظروف تطور عادي كالموصوفة اعلاه للحزب الشيوعي كان سيمكنه من تشغيل خاصيته كمؤسس السياسة السودانية المفكِره، كما جاء في مقال سابق له في مايو الماضي، بطاقتها القصوي ليعيد استكشاف الوجه الاخر لثورة اكتوبر 1964. لايذكر صاحب المقال اذا سبق له التسجيل كتابيا لمقولة يرددها كثيرا بأنه اذا جاز نسبة انتفاضة اكتوبر الشعبيه الي حزب واحد فأن هذا الحزب لايمكن ان يكون الا الحزب الشيوعي. رغم اي تحفظات علي هذه المقوله استنادا الي مااعتُبر تراخيا في معارضته لدكتاتورية عبود في فترة معينه بدخوله انتخابات المجالس المركزيه، فأن دوره القيادي المتميز في التحضير لثورة اكتوبر تخطيطا وتعبئة وتضحيات تجلي في اكتساح نفوذه للساحة السياسية المدينية، ساحة القوي الحديثه، بعدها ثم دوائر الخريجين وصعوده الي قيادات النقابات في قطاعاتها المختلفه لدرجة أفزعت القوي التقليديه وتسببت في حظره قانونيا. والاهم من كل ذلك والوثيق الصله بالفكرة التي يطرحها هذا المقال، اصطباغ الساحة الفكرية بتنويعات الفكر الاشتراكي الذي تولي الحزب الشيوعي تاريخيا مهمة فض مغاليق العقل النخبوي السوداني تجاهه وتركيز مداميكه الاساسية فيه بعد ذلك. إن الاهمية التاريخية الكبري فعلا لثورة اكتوبر هي انها حررت الارادة السياسية السودانيه من قبضة نظام عسكري وبوسيلة شعبية مائة في المائه حتي ان الدور العسكري فيها ( محاصرة القصر من قبل بعض صغار ومتوسطي الرتب من الضباط ) كان امتدادا وليس نقيضا او بديلا لها كما حدث في انتفاضة 85 . بهذا المعني المحدد كانت اكتوبر ثورة ديموقراطيه ولكن وجهها الاخر الذي بقي محجوبا في غمرة الاعجاب الطاغي والاجماعي بها والاستمتاع بالحريات التي اتاحتها كان عكس ذلك، بالضبط لان اليسار الشيوعي وغير الشيوعي كان صانعها الاساسي. والمعني بذلك ان النقد اليساري الصائب للاحزاب الكبيرة انتخابيا وقتها بكونها مصدر الخطر الرئيسي علي نمو التجربه الديموقراطيه بحكم تقليديتها وتكوينها الطائفي والطبقي، كان يحمل في طياته خطراً اخر علي المدي الابعد في النظرية التي أنبثق منها هذا النقد. ماركسية الحزب الشيوعي حينئذ كانت تضع اكتوبر حلقة رئيسية ضمن ماتسميه مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطيه التي تقود الي مرحلة الاشتراكيه ولكل من هاتين المرحلتين تحالفاتها الطبقيه التي تنتهي الي صدارية دور الطبقة العامله. والترجمة الفصيحة الصريحه لهذه النظريه هي توزيع الحريات السياسيه حسب اهمية الطبقه المعينه في المرحلة المعينه والاحزاب السياسية التي تمثلها فهي ديموقراطيه مقيده وموجهه وبأختصار ليست ديموقراطيه. تثقيف النخب السودانيه بهذا النوع من التحليلات في ارتباطها ايضا بجوانب النظرية الماركسية – اللينينة الاخري بما فيها مقولة دكتاتورية البروليتاريا أضعف التأهيل الديموقراطي لعقلية هذه النخب الذي اكتسبته من نشاطها الفعال ضد الدكتاتورية الاولي ، لاسيما وان الاقسام اليسارية الاخري، بما فيها حزب البعث الذي ساهم كاتب هذا المقال في تأسيسه، كانت تروج لتحليلات مشابهه مزايده في رفضها للديموقراطيه بمعناها الحقيقي المفتوح الذي لايقبل قيودا من خارجها. لذلك لم يكن غريبا ان ينبثق النظام الدكتاتوري الثاني عام 69 من اوساط هذه القوي نفسها مجتذبا قيادات شيوعيه وان يجد الحزب الشيوعي صعوبة كبيره في تمييز نفسه عنه إذ يستحيل تطبيق مبدأ " تضامن ونقد " مع أي نظام غير ديموقراطي. كذلك لم يكن غريبا ان تستسلم العقلية النخبويه للشمولية الاسلامية، الاخطر من نظيرتها العلمانيه بمراحل بحكم القوة الاستثنائيه للتسييس الديني، بسهوله عندما حان زمانها بعد ان استكملت المايويه مهمة تهيئة الارضية لازدهارها. ( من كتاب : في الفكر السياسي، ديموقراطيه بلا استناره )