قبل الاطاحة بالحكومة الديمقراطية بالخرطوم كانت قوات الشعب المسلحة السودانية في الجنوب في حالة يرثى لها، من تدهور في الخدمات وشح في المواد الغذائية ناهيك عن الامدادات العسكرية التي اصبحت شبه مستحيلة، وخاصة بمدينة بور المحاصرة في حينئذ، حيث وصل الصراع إلى ذروته داخل البرلمان بين الاحزاب التقليدية المتصارعة على تقسيم الحقائب الوزارية و المناصب الدستورية من جهة، ومن حزب الامة ذو الاغلبية التي تتطالب بتعويضات ممتلكات آل المهدي التي صادرتها حكومة نميري ايام المعارضة من الجهة الأخرى. واثناء مداولات البرلمان قام عضو من الحزب الاتحادي الديمقراطي اذ قال في مستهل حديثه قائلا: يا جماعة نحن في شنو والبلد رايحة في ستين داهية... الاتصال بين القيادة العامة بالخرطوم ومدينة بور قد انقطعت منذ الامس، وقواتنا اصبحت مثل الكدايس والفئران، وانتم منهمكون في مناقشة اشياء تافهة". وفي خضم هذه المهاترات، الكتلة الافريقية داخل البرلمان بقيادة الاب غبوش هددت بسحب جميع اعضاءها من البرلمان عقب تبادلهم الاتهامات مع حزب الامة بانهم طابور خامس-اي متواطئين مع الحركة الشعبية لتحرير السودان- على حد قولهم. اذ ينادي الراحل عمر نور الدائم العضو يوانس يور اكول، وهو شقيق الدكتور لام اكول جهارآ نهارا داخل المجلس بالمتمرد خاصة أن النقاش كان حامي الوطيس.
وفي يوم من تلك الايام بمدينة ملكال هبطت احدي الطائرات العسكريه لنقل الجرحى والمرضى من افراد القوات المسلحة السودانية الى الخرطوم الا ان طاقم الطائرة وقادة الجيش بالمطار بدلا من نقل الجرحى والمرضى قاموا بشحن الطائرة بالبضائع وممتلكات الشعب اخشاب المهوقني والتيك التي نهبت من المدن والقرى المجاورة لمناطق العمليات المختلفة بولاية اعالي النيل.
وتركوا مرضاهم وجرحاهم على قارعة الطريق وفي ارض المطار. وكانت حالتهم سيئة للغاية. وفي هذه المعمعة كان هناك ضابط يراقب الموكب عن كثب، فعندما استعد الطيار للتحرك مودعآ الحضور، وفي لقطة سينمائية كما يحدث في الأفلام الأميركية، وثب الضابط الثائر امامهم كالنمر المفترس مكشرآ عن سلاحه نحو الطيار الذي يقود الطائرة القادمة من الخرطوم، مهددآ بفتح النار عليه اذا حاول المغادرة بدون هؤلاء المرضى والجرحى، الا ان الطيار عدل عن موقفه واخذ الجرحي، وغادر بهم الى الخرطوم باسرع ما امكنه. كان هناك حشد من الجمهور بارض المطار شهودآ لما جرى، وفي تلك اللحظة حمل الجمهور الضابط الثائر على اكتافهم وهم يهتفون جون رامبو ... جون رامبو البطل... هل تعرفون من هو ؟ هو العقيد يوسف عبد الفتاح. لم يمض وقت على ثورته هذه حتى قامت ثورة الشؤم في الثلاثين من يونيو 1989م والتي اطاحت بالنظام الديمقراطي بالبلاد اثر انقلاب ابيض، عندما خرج العسكر من سكناتهم بمساعدة وتخطيط الداعية الاسلامي الشيخ حسن الترابي في الوقت كانت هناك مباحثات جارية بين د. قرنق وزعيم الختمية المرغني باديس ابابا واصبح وقف اطلاق النار على مرمى حجر. اشتهر العقيد يوسف ببطولته المزيفة بملكال ثم تمت استدعاءه الى الخرطوم للاستجواب وقد تزامنت مع ايام الانقلاب بعدها شغل منصب محافظ معتمدية الخرطوم وفي جعبته رصيد حادثة مطار ملكال الشهيرة، كان العقيد لا ينام الا بعد ان يخل شوارع العاصمة من مارة. ولا يهدى له بالا الا بعد توزيع الخبز للشعب من المخابز العامة. بعد مضى ايام من توليه هذا المنصب، وشى اليه احد بوشاية مفادها ان هناك نسوة يبعن الخمور البلدية داخل السوق وضواحيها، ازعجه هذا الخبر، ولكن اراد ان يتبينه بنفسه . بعد صلاة العشاء ذهب الى (داون تاون) بمحطة ابوجنزير بالقرب من الجامع الكبير، جلس للعقيد القرفصاء امام احدي النساء، ثم قال لها : اعطني البتاع... ده كلمة السر ...". وعلى الفور قدمت له نصف كباية العرقي المصنوعة من بلح الشام... تناوله العقيد وقبل ان تصل الى فمه ثم عاد بها الى الارض، وسآل المراة: ده شنو يا امراة ؟ فاجابت ببراءة شديدة قائلة: ... ما ده البتاع. ... هل عرفتي انا منو ؟ وقبل ان ترده المراة، اردف قائلا:انا يوسف عبدالفتاح. ضحكت المراة وبسخرية شديدة قالت: اجي يا يمه ... بس شميته وقلت انت يوسف عبدالفتاح ... واذا كنت ضقت حتقول لي انت عمر البشير؟!.
وفي تلك اللحظة انقض رجالات الامن عليها وادخلوها السجن وهي لا تدري ما سيجري لصغارها وهم في انتظارها لتعود لهم بعد عمل مضني طوال النهار، الا ان احلامهم تلك الليلة كان كابوسآ مرعبا. وكان هذه بداية دخول الحريم الى السجون بالالاف ولاول مرة في تاريخ السودان الحديث. خلاصة القول هو ان بعد مجىء ما يسمى ب(ثورة الإنقاذ الوطنى) تبدلت الأحوال في السودان وخاصة بعد تبنيها توجهات اسلاموية في الحكم، اذ كانت تحمل الجبهة الإسلامية بذرة فناءها عند حشرها لموضوع الإسلام كشىء متعارض مع وحدة البلاد، والنتيجة الآن هي بكاء وعويل (نافع ومندور) على وطن أضاعوه بإيديهم وليس بفعل إله السموات والأرض الذي كان رحيما على الجنوبيين بعد ظلم ذوي القربي لهم الذي كان أشد مضاضة عليهم من الحسام المهند. وقد تلاشت خطاباتهم المضللة في العقود الاخيرة واصبحت لا تغطي حتي عورة من اتوا بها، حتي ضاق المشروع الحضاري حتي على شيخ حسن ترزي المشروع الحضاري. وفشل اصحاب المشروع الحضاري فشلا زريعآ في تحويله الى سياسات عصرية تتواكب مع التطور والعولمة. ولا عزاء لأصحاب الجلباب القصير و(المسواك) الطويل، ولا دائم إلا وجه الله.
فالبطل الثائر اصبح في نهاية المطاف شيخا حائرا، بعد اصابته بعدوى الاسلاميين المتشددين في السودان.
الكاتب صحافي سوداني يكتب بالعديد من الصحف السودانية العربية والانجليزية بالانترنت يقيم بولاية اريذونا بالولايات المتحدةالامريكية، يمكن الاتصال به عن طريق البريد اللكتروني التالية [email protected]. or [email protected]..