قبل فترة ليست بالبعيدة حجزت مقعدي ضمن ركاب رحلة بالحافلات "الباصات السياحية" المتجهة شمالاً.تحركت الرحلة من المكان المقرر بعد الموعد المضروب بنحو ساعة ونصف،ومما تبدى لنا أنهم كانوا يتحركون حثيثاً من أجل ملء المقاعد الشاغرة والتي تعد على أصابع اليدين.فتجدهم في حراك عشوائي مستمر موظف المكتب و"القمسنجية"والسائق ومعاونيه "المساعدية"،وكانوا يعنفون كل من تسول له نفسه السؤال عن أسباب التأخير،ومن الغريب أنهم وضمن انفعالاتهم المتصاعدة كالركاب تماماً كانوا يلقون باللائمة على الشوم والبوم الماثل في هذه الرحلة ونحس هذا اليوم الذي لم يتنفس صبحه بعد،مكثرين من ترديد قولتهم "ربنا يستر ويوصلنا بالسلامة"، وهذه كان لها مفعول السحر إذ أخرصت كل الركاب مخافة أن يتهموا بأنهم سبب الطيرة! امتلأت الحافلة عن آخرها وفاضت أمتعتهم لتتكدس في "الممر" الضيق الذي يفصل بين مقاعد المسافرين مما أعاق حركة الركاب التي أصبحت تحتاج لمهارات مقاربة لفرق "الإكروبات".ومغ انطلاق الرحلة شرع المساعد في تقديم قطع الحلوى للركاب كاستهلالية للضيافة السياحية، ولم يتكرموا بغيرها طوال الساعات الأربع التي أعقبت انطلاق الرحلة اللهم إلا الماء المحمول إلينا من النهر مباشرة وبلونه الترابي الذي يشتهر به في مثل هذا الفصل من العام والمعروف اصطلاحاً ب"الدميرة".وبعد مغادرتنا لحدود الخرطوم بدأت الحافلة تتتوقف كثيراً عند نقاط المرور السريع مجازاً وفي كل مرة يصعد إلينا نفر من المسافرين الجدد وبنصف القيمة "وهي حصة تذهب عرفاً لطاقم الرحلة" ..تجاوز ركاب الحافلة الخمسين راكباً، لدرجة أن البعض احتج لعدم تمكنه من متابعة فيلم "الكارتيه" الذي جاد به علينا المعاون لانكسار خط النظر من جراء الحمولة البشرية الواقفة وسط الحافلة.وكان المساعد دائماً ما يغير أسطوانات التشغيل "DVD" حسب مزاجه الشخصي وكأنه في قعر بيته..فتارة يتحفنا ببنت القلعة ذائعة الصيت، وتارة بأغنيات مأخوذة من برنامج مشهورفي قناة النيل بالطبع دون الالتفات لحقوق الملكية الأصلية ولا المجاورة وهذا متوقع من هذا الصنف من البشر ممن تفننوا في هدر حقوق المسافرين "من حر مالهم" على متن حافلتهم! وقبل والوصول إلى عاصمة الحديد والنار بنصف ساعة تقريباً أكرمونا بوجبة لايعرف أحدنا كنهها إلى يومنا هذا نفس الشيء يقال عن المشروب المصاحب والذي قوبل بالرضى والاستحسان كونه قدم مثلجاً. أثناء محاورتي لمن يجلس إلى جواري خلصنا إلى أن الحافلة مختطفة من قبل هؤلاء،ومن الشواهد التي قدمنا تأكيداً على زعمنا أن الراكب عليه أن يتلقى كل شيء يقدم له بالرضى والتسليم التامين،ابتداءاً من الطعام والشراب وانتهاءاً بما يشاهد أو يسمع! وكلما شعر المساعد بزمجرة وعبارت تمرد واعتراض خف لقمعها وسارع بفتح خزائن الأمتعة "الأدراج "العلوية وشهر "بخاخاً" لرش الركاب على طريقة "البيف باف" في مشهد يذكرك بحلبجة وغاز الخردل. وفجأة علت المقاعد وطوقتها سحب الدخان فحسبنا أن الإرهابي قد نفذ تهديداته بتفجير الحافلة المختطفة المفخخة،لكن وبعد انقشاع تلكم السحب تأكدنا من أنها لفائف تبغ "سجائر" أشعلتها المجموعة التي تجلس في مؤخرة الحافلة،وبعد مشادة ومطالبات قوية ومحاصرة للسائق ومعاونيه بضرورة أن يمتنع المدخنون عن فعلتهم تلك حسب النظام،توقفت الحافلة كحل وسط ليكمل البعض"مزاجهم" على الأرض وللأسف علمنا بانتساب اثنين منهم للقوات النظامية! بحمد الله وصلنا عطبرة بعد سبع ساعات قضيناها في ثنايا تلكم الحافلة المختطة. هبطنا أرضاً ونحن نشكك في المصطلحات والتوصيفات التي نغدقها على كل منشط ودون الالتزام بالمعيارية أو المواصفة المطلوبة. فالسياحة في عالم اليوم صناعة تقتات منها الشعوب وهي بالطبع مركوزة على ثقافة متجذرة في دواخل المواطنين.أما نحن فقد كنا ضحايا لرحلة حافة وصفوها بالسياحية وقد كانت تلكم الرحلة سبباً في معاودة الحنين إلى السكة الحديد التي كانت مضرب مثل في أيام خلت في الانضباط وفي الخدمات المقدمة "الاستناطور"، فغادرنا الحافلة ولسان حالنا يردد "لابديل للسكة حديد إلا السكة حديد"..لتنتهي الرحلة مكاناً لكنها حتماً ستبقى محفورة في الذاكرة إلى أن ترقى خدماتنا للدرجة السياحية وتصبح اسماً على مسمى،وعندئذ ستصبح تلكم الرحلة جزءاً من التاريخ كرحلات استكشاف الفضاء والقطبين. Ali Beteik [[email protected]]