القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقائع الغابة: يوسف كوة: عائداً لجذوره ... بقلم أتيم ياك أتيم .. ترجمة عبدالمنعم الجاك
نشر في سودانيل يوم 16 - 12 - 2010

" إن المزاوجة بين النضال السياسي والعسكري لتغيير الطريقة التي تٌحكم بها البلاد هي الخيار الأمثل والوحيد" يوسف كوة يلتقي شعب جبال النوبة المقيم في غرب وسط السودان مع مواطنيهم وجيرانهم في ثلث السودان الجنوبي، يلتقيان في ثلاثة قواسم مشتركة. أولها وضع الإدارة الإستعمارية للمنطقتين تحت كيان سياسي، ثقافي وإجتماعي عٌرف ب "المناطق المقفولة". وصف بعض المحليين السياسين قانون المناطق المقفولة، والذي ضم ايضا منطقة جنوب النيل الازرق، بانه سٌن من أجل وضع حجر إجتماعي بزعم توفير الحماية لل " السكان الأصليين" من النفوذ العروبي والإسلاموي. ثاني القواسم المشتركة بين شعبيّ جبال النوبة وجنوب السودان تميزهما بقدر عال من التنوع الثقافي واللغوي. وتنتهي أوجه التقاطع المشتركة ان كلا الإقليمين ظلا من أكثر المناطق إهمالا من قبل الحكومات المركزية في الخرطوم فيما يتعلق بتوفير الخدمات الإجتماعية والتنمية الإقتصادية، خاصة جنوب السودان والذي ظل بعد اتفاق اديس ابابا في 1972 يدير شئونه الداخلية مثل الادارة والامن المحلي والصحة والتعليم.
ظهور سياسات التغيير الثوري في جبال النوبة
تعود نضالات شعب جبال النوبة من أجل البقاء والإعتراف به على قدم المساواة مع شعوب السودان الاخري الى تاريخ بعيد. ومع ذلك، ودون التقليل من دور قادة النوبة طوال التاريخ الحديث، يمكن القول إن فترة ما بعد الاستقلال في 1956، وبصورة خاصة في أعقاب انتفاضة أكتوبر 1964 الشعبية والتي أطاحت بالديكتاتورية العسكرية للفريق ابراهيم عبود، وظهور الاتحاد العام للنوبة تحت قيادة القس المتحول الى سياسي فيليب عباس غبوش (على الرغم من القس غبوش يتبع الكنسية "الانجيلية" الا ان وسائل الإعلام العربية تُصر على تسميته بالأب غبوش بدلاً عن القس). مثل هذا التاريخ نقطة تحول هامة لشعب النوبة اصبح بمقتضاها لشعب النوبة قوة سياسية لا يمكن للنخب الحاكمة في السودان من تجاهلها. وقد أعطي تأسيس الاتحاد العام للنوبة في بدايات العام 1965 شعب جبال النوبة، خاصة الشباب، قيادة لا تعرف الخوف مثل القس فليب غبوش الذي عٌرف بصراحته في الحديث العلني عن احوال اهله النوبة سواء في العاصمة القومية أو في أرض اجدادهم بالجبال بمنطقة كردفان.
ومن ثم أصبح لشعب النوبة لأول مرة منذ الاستقلال ممثل خاص بهم في الجمعية التأسيسية، حيث ظل القس فليب غبوش بلا منازع المتحدث باسم النوبة في البرلمان، في فترة أصبح معظم الشباب المتعلم من جبال النوبة قادرين على التعبير بالفخر بمنطقتهم. كما لعب القس فليب غبوش دوراً مهما باعتباره أحد مهندسيّ تحالف قوى الريف، والذي جمع بعض القادة من جنوب السودان والشرق ودارفور، وهو التحالف الذي يعتقد بعض المحللين السياسيين انه بمثابة المقدمة لفكر السودان الجديد.
غير انه من الخطأ ايضا الزعم بأن النوبة كانوا فقط تحت مظلة القس المتحول سياسيا، فليب غبوش. حيث كان هنالك العديد من الزعماء المتصارعين على قيادة شعب النوبة بكل تنوعه الممتد من التعدد اللغوي والديني بين الإسلام والمسيحية والمعتقدات والممارسات الافريقية. ففي مثل هذه الفسيفساء فقط من التنوع يمكن لأحد النوباويين مثل ضابط الجيش محمود حسيب ان يخرج على الملاء بانتمائه سياسياً للفكر القومي العربي وهو من النوبة، وكان ان أٌختير بسبب أنتمائه القومي العربي هذا وتم تعينه لاحقاً في حكومة جعفر نميري وزيراً للمواصلات والاتصالات.
يوسف كوة يعتقد مرة انه عربياً
كتب الكثير عن الحياة المبكرة ليوسف كوة مكي وأفكاره السياسية في تلك الفترة. وقد وردت الكتابات حول تلك الحقبة وحول أراء الراحل يوسف كوة ضمن أعمال الكتاب المهتمين بشعب جبال النوبة أمثال إبن المنطقة الدكتور عمر شريكان والباحثة جولي فلنت. أما اختياري في الكتابة هنا فيركز على الروايات التي كنت شاهداً لحدوث وقائعها أو تلك التي سمعتها من قبل القيادي الراحل يوسف كوة مكي ورفقائه بالحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان.
لقد كان لي الشرف بان كنت ضمن القليل من أعضاء الحركة الشعبية ممن التقى وتحدث مع الراحل يوسف كوة عندما وصل ورفاقه من جبال النوبة الى اديس ابابا في العام 1986، وكنت حينها قائداً لوفد الحركة الشعبية بصفتي رئيساً قسم الاعلام. وكان بالطبع للراحل يوسف كوة ان إلتقى عدة مرات مع القائد جون قرنق وقادة الحركة الشعبية تبادلوا خلالها وجهات النظر. وخلال حفل متواضع وبسيط أعلن خبر إنضمام القائد يوسف كوة ورفاقه في إذاعة الجيش الشعبي لتحرير السودان، حيث عم الفرح صفوف الحركة الشعبية في جبهات الحرب، وفي داخل وخارج السودان، وسط الأعضاء والمتعاطفين مع الحركة الشعبية. ولتلك السعادة سببها البسيط، انه اصبح بقدور الحركة الشعبية لتحرير السودان الإدعاء بانها قوة سياسية قومية، وليست مجموعة معزولة غير ذات أهمية من الجنوبيين الغاضبين والساخطين الذين غادروا الوطن إحتجاجاً على تقسيم الجنوب، وهو التشخيص والتصوير الخاطئ الذي وٌضع فيه الجيش الشعبي خلال ايام النضال المسلح الأولي.
إقتراض جذوة النضال من الجنوب
في أعقاب الإحتفال البسيط بإنضمام يوسف كوة وجبال النوبة للنضال ضمن الجيش الشعبي لتحرير السودان تواصلت دردشاتي معه والتي تركت إنطباعا قوي لدي حول مدى جدية الرجل وسعة إطلاعه ومنطقه في تقديم الحجج، وفوق ذلك كله إكتشافي له ككنز من الخبرة في الحياة العامة فهو حين يكون معك يكون المتعلم والمعلم والسياسي والشاعر. فكلما جئت للحديث وتبادل الأفكار معه إكتشفت مدى عمق فكرة وإلتزامه غير المتزعزع لخدمة، بل وللتضحية بحياته من أجل حقوق شعب النوبة.
لقد كان يوسف كوة خطيباً مفوهاً. أذكر ان يوسف كوة كان يخطب في بعض المجندين الجدد من جنوب السودان في طريقهم للتدريب العسكري وقد أثار وجوده إستغراب وفضول الكثير من المجندين ( سمعت أحدهم يهمس لأحد زملائه من المجندين بما معناه" شوف الراجل دا الرجل، قاصداً جون قرنق، حتي كمان جاب النوبة الكتلونا أيام انانيا". في ذلك اللقاء مع المجندين الجدد حركت كلمات يوسف كوة مشاعر ودموع ما يفوق العشرون ألف مجند من جنوب السودان. في ذلك التجمع، أذكر يوسف كوة قائلاً للجند " لقد كان لكم حكومتكم ووزرائكم من الجنوب في حكومة الخرطوم، بل حتي كان لكم منصب نائب رئيس الجمهورية. لقد حصلتم على هذه الحقوق لأنكم قاتلتم. نحن النوبة كذلك، سنناضل ونقاتل الى جانبكم لننتزع حقوقنا".
عند عودتنا إلى أديس أبابا أصبح واضحاً أن يوسف كوة ورفقائه من النوبة يعدون مكسباً كبيراً لنضال الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان، خاصة لإتقانهم للمعرفة بشمال السودان وللغة العربية. بذلك الوقت أصبح يوسف كوة رائد بالجيش الشعبي وعضواً بالقيادة السياسية العسكرية العليا، فضلاً عن إعتماد الراحل جون قرنق عليه كمستشار لاغنى عنه في الشئون السياسية القومية ومقدرات الأحزاب الطائفية في شمال السودان.
أذكر خلال الإجتماع الذي شغل الناس كثيراً بين رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وقادة الحركة الشعبية بأديس أبابا في 1986، أذكر ان يوسف كوة مكي وأروك تون اروك كانا مصدر عدم إرتياح لرئيس الوزراء السابق في ذلك الإجتماع بسبب معرفتهم العميقة بالخرطوم وسياسات الأحزاب الطائفية. في ذلك الإجتماع الطويل الذي إستمر لتسع ساعات حاولت ان ألتقط صورة فوتوغرافية لحظة تحية الصادق المهدي وجون قرنق لبعضهم البعض، وهي اللحظة التي لوح لي المهدي بيده رافضاً التقاط الصورة وطلب مني قرنق حينها مغادرة غرفة الأجتماع، ولعل رئيس الوزراء حينها لم يرغب في اي صورة تجمعه أو زملائه مع "متمرد". بالطبع إمتثلت للطلب وغادرت الغرفة منتظراً خارج المبني مع سائق رئيس الوزراء وفريقه الامني الخاص بالسفارة السودانية بأديس ابابا.
في مناسبات عديدة، وخلال حواراتنا العديدة، يوسف كوة وشخصي وآخرين، أذكر ان الراحل كان يتهكم من نفسه قائلاً بكل جدية انه كان فعلاً يعتقد انه عربياً. وكان أن كتب احدهم ان يوسف كوة " رأى النور" عندما سأله أحد أساتذته بالمدرسة، ينتمي الى القبائل العربية، بأنه ( أي يوسف كوة) يضيع وقته في الحضور الى المدرسة في حين بقية أبناء النوبة مكانهم العمل في المنزل. العامل الأخر، كما ذكر يوسف، الذي ساهم في إعادة تفكيره في إعتقاده العِرقي قراءاته للمفكر والقائد التنزاني الرئيس جوليوس نايريري، حيث كان مولعاً بترديد تعبير نايريري " لقد تعرضنا للإضطهاد بمقدار عظيم". ومن العوامل التي أسهمت أيضاً في تحوله وتساؤله حول الإعتقاد العروبي الإدعاءات المستمرة للنخب الشمالية في مواجهتها لاي محاولات إنقلابية يقودها أو يشارك فيها غالبية من ابناء النوبة بانها مؤامرات عنصرية، في حين تصف ذات النخبة الشمالية المحاولات الاخرى لتغيير النظام، غير القانونية، بواسطة انقلابات يقودها ضباط ذوي أصول عربية بانها ثورات.
يوسف كوة عُمِد بالنار
ظل القائد يوسف كوة، والذي تلقى تدريباً عسكريا داخل السودان قبل إنضمامه للجيش الشعبي، يعتقد إعتقاداً كافياً إن المزاوجة بين النضال السياسي والعسكري لتغيير الطريقة التي تٌحكم بها البلاد هي الخيار الأمثل والوحيد. كما ظل رافضاً لإنفصال أي جزء من البلاد، ذلك الموقف الثابت الذي ولد في كثير من الأحايين انفعالات من التوتر والغضب في مساجلاته مع بعض الضباط الشباب من الجنوب الذين، إما تعمداً أو براءةً، كانوا يجادلون من أجل إنفصال جنوب السودان.
مهمة سرية مثيرة للجدل نحو الحركة الشعبية
كان من الواضح أن قيادات النوبة المنضمة إلى الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان تعمل بشكل وثيق وإتصال مع خلايا داخلية سرية داخل مجتمع النوبة في الخرطوم وفي منطقة كردفان. ما ظهر من هذه الاتصالات ان الراحل فليب غبوش كان يبعث بمراسلات تأييد مستمرة الى زعيم الحركة الشعبية جون قرنق، وكان في كثير من الأحايين يخاطبه فيها بإسم إبني جون. كما كان لوجود الخلايا السرية من أبناء النوبة وشبكاتها المختلفة دوره الكبير في تسهيل ونشر الرسالة السياسية للحركة الشعبية، كما دعمت تلك الخلايا حملات التجنيد للإنضمام للجيش الشعبي. وقد كانت للرسائل المتناقلة عبر الحديث المنطوق فقط قدرتها في وصول الجبال ودعوتها للشباب لتهيئة انفسهم للذهاب نحو جنوب السودان لتلقي التدريب العسكري قبل العودة وإبتدار حرب العصابات في جبال النوبة.
وأذكر في هذا السياق، في منتصف الثمانينات ان عدد محدود من اصحاب الطموح السياسي من أبناء النوبة ممن إنخرطوا في صفوف الحركة الشعبية بدأ في الحديث سلبياً عن يوسف كوة وانه ذهابه للخارج كان فقط للتشاور مع الحركة الشعبية حول نوع التعاون الممكن بين المقاتلين من جنوب السودان من ناحية ونشطاء النوبة السياسيين من ناحية أخرى. وذهب ذلك الحديث درجة أكبر في العبثية بإتهام يوسف كوة مكي ورفقائه من النوبة ب "إختطاف" قيادة شعب النوبة بسبب إنخراطه في الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان بدلاً عن العودة الى الخرطوم وتقديم تقرير عن نقاشاته مع قيادات الحركة الشعبية. أنا هنا لست مستعداً للجدل للوقوف ضد أو لمساندة هذه الإتهامات ، ولكنني على يقين تام إن عودة يوسف كوة ورفاقه للخرطوم بعض ظهورهم مع " متمرديّ الجنوب" كانت ستكون خطوة كافية من الغباء تدفع بالإنتحار الكامل.
الزحف العظيم نحو جبال النوبة
بإنضمام يوسف كوة الى الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان كان الجيش الشعبي معروفاً بعدده الكبير في القارة الإفريقية، وهو ذات التوقيت الذي أرسلت فيه الحركة الشعبية قوة عسكرية للجبال لتجنيد مقاتليين من النوبة. وكقائد للقوة، تحرك يوسف كوة بجيشه الذي كان جله من المقاتلين من جنوب السودان. ولدى وصوله الى جبال النوبة كان هنالك حشود ضخمة من المجندين في الانتظار، مستعدين للسير نحو الشمال الشرقي لجنوب السودان للإنخراط في التدريب العسكري. ومن المدهش في تكوين المجندين الجدد من الجبال وجود اعداد كبيرة من الفتيات اللائي قررن الإنخراط في النضال والذهاب للتدريب على القتال. ومن ضمن أولائك المجندات كانت حنان المازكي، الفتاة المسيحية والتي اصبحت لاحقاً الزوجة الثانية ليوسف كوة.
خلال تحرك يوسف كوة مكي بقوته نحو جبال النوبة إلتقيت به في البيبور، وكان الجيش الشعبي قد إنتزعها للتو. وفي محادثة خاصة أخبرني كم يشعر بالحزن لأن أحد زملائه لن يواصل المهمة معهم بسبب المرض، ولكني شككت فيما قاله فقد كان يعتقد بأن الضابط يتمارض وليس بمريض ليتجنب مواصلة المهمة. وقال عندها " ما يفعله خطأ....إننا نقوم بصناعة التاريخ. نعم مهمتنا صعبة وبها مخاطر جمة، ولكن من واجبنا تحمل هذه المخاطر". لقد كان غضبه يمتزج بالدموع على عينيه.
بعد تخرجهم كمقاتلين يدفعهم الحماس والتحفز لخوض المعارك، إشتبك مقاتلو الجيش الشعبي من النوبة في عدة معارك في طريق عودتهم للجبال، خاصة في مناطق غرب الإستوائية حيث قاموا بإجلاء الطريق من بعض حاميات القوات الحكومية. في تلك المعارك الاولى بغرب الإستوائية، وبجسارة فائقة قاتل مقاتلوا النوبة، المشهود لهم بالشجاعة، وكانما كانوا يسدون دين الى الجنوب لتاهيلهم في مراكز التدريب كقوات كاملة الإحتراف قادرة على خوض حرب العصابات، تحت قيادة خاصة بهم من ضباط الجبال من أمثال عبدالعزيز ادم الحلو، يوسف كارا، إسماعيل جلاب وتلفون كوكو.
قيادة يوسف كوة تحت الإختبار
في أعقاب إنقسام الحركة الشعبية في 1991، وإعلان الحكومة الجديدة المستندة على أيدولوجية حسن الترابي للجهاد على مناطق النوبة، تعرض الجيش الشعبي في منطقة الجبال الى أقسى إختبار بعد إنقطاع الإمداد عنه، حيث أصبح من المستحيل الحصول من الدعم اللوجستي من القيادة العامة للجيش الشعبي بجنوب السودان. أصبحت حينها أوضاع الجيش الشعبي هنالك مسألة وقت لإعلان إستسلامها للخرطوم، والذي كان لا مفر منه ومفهوماً في سياقه. إلأ أن القائد يوسف كوة مكي ومن حوله من قادة دعا لإجتماع يجمع الزعماء المحليين بالمنطقة مع ضباط الجيش الشعبي ليقرر الإجتماع في مصير المنطقة التي كانت تنتظر هزيمة وشيكة من قبل القوات القادمة من الخرطوم. إلأ أن الرأي الغالب في ذلك اللقاء ذهب الى ضرورة إستمرار المواجهة وقتال قوات الخرطوم. ولحسن الحظ دُعِم هذا الرأي بوصول كميات من الذخيرة عبر شمال بحر الغزال. وكما يقولون فإن بقية الإختبار والقصة أصبحت تاريخاً يُروى.
ذكرياتي الأخيرة مع الرفيق يوسف كوة مكي
في العام 1998 عُينت رئيساً لقسم المعلومات في مركز أبحاث وثيق الصلة بالحركة الشعبية لتحرير السودان عُرف بمركز القرن الإفريقي للتنمية والديمقراطية ( HACDAD) ، وعملت أيضاً محرراً لمجلة المركز الشهرية " رؤية القرن الإفريقي". وفي ذات الفترة كان لجبال النوبة منظمة طوعية تنشط في العمل الإنساني تعرف بمنظمة النوبة للإغاثة وإعادة الإعمار والتنمية(NRRDO) تهدف لخدمة مواطنيّ المنطقة ولها مقر بنيروبي.
خلال تلك الفترة تم تشخيص الحالة الصحية للقائد يوسف كوة وإتضح إصابته بمرض السرطان وكان في مراحل متقدمة، إلأ انه ظل يحارب، بطمأنينه بائنة رغم معرفته بموته الوشيك. ذهبت لزيارته في مكتبه بنيروبي في إحدى المرات وبدأ بشكل جيداً وكعادته مبتهجاً، وعندما إستفسرته عن صحته أجاب " ما بطال". ودهشت، وهو في ذلك الوضع الصحي، عندما سألني إن كان لدي الوقت الكافي للجلوس معه للمناقشة والمساعده في إنجاز إحدى الخدمات لمنطقة جبال النوبة. وبدأ حديثه قائلاً ان مكتبه تلقى مبلغاً معتبراً من المال من بعض المتعاطفين وانه قرر تخصص جزء من المبلغ لتدريب مجموعة من الصحفيين من أبناء النوبة وإنه يرغب مني الإشراف على البرنامج التدريبي وأن اقوم بعملية التدريب ايضاً. بالطبع وافقت على الفور، وسوياً مع ثلاثة زملاء من جنوب السودان، هنري لاسيو للغة الإنجليزية و أُوبيدي كيندي للتصوير الفتوغرافي وشخصي. أنجزنا الدورة التدريبية لصحفييّ جبال النوبة، والتي إستمرت ثلاثة أشهر وكانت الأولى من نوعها، واذكر من ضمن المتدربين الصحفي المعروف سفيان محمد.
يوسف كوة يقارب النهاية
في احد الأيام قمت بزيارة الى مكتب الحركة الشعبية الخاص بجبال النوبة بضاحية ريارا بنيروبي والذي كان بالقرب من مكان إقامتي. وإلتقيت بمدير مكتب القائد يوسف كوة، صديقي الضابط بالجيش الشعبي وليد حامد، وهو من أبناء وسط السودان. وعندما سألته عن صحة رئيسه كانت إجابته قاتمة، سرطان يعني سرطان! كانت إجابته واضحة: انها المحطة الأخيرة للقائد يوسف كوة.
وما يدهشني حتى اليوم ان ذلك الرجل الشجاع، وهو يقارب الموت، ظل مشغولاً يعمل من أجل الحركة الشعبية وقضية شعبه بجبال النوبة، في الوقت الذي كانت أسرته المباشرة تعيش حياة الشظف، حيث لم تكن عائلته تمتلك من المال ما يعينها على تسهيل الحياة. أُضطرت زوجتاه الإثنتان الى الهجرة الى الولايات المتحدة واستراليا من أجل تعليم اطفالهم. قليل من القادة، أمثال يوسف كوة مكي، من يقدر على مقاومة إغراء المال وتحويل المال العام، مثل تمويل المنظمة، لمصلحته الخاصة ولرعاية أسرته التي كانت أقرب الى حالة الفقر. إلأ أن شخصية مثل يوسف كوة، لا تعرف الأنانية، تضع دوماً الصدق والمبادئ ومستقبل الملايين من أبناء شعبه في موضع أولويه على رفاهية أسرته.
عندما حان وقت رحيل القائد يوسف كوة مكي، كنت قد إنتقلت للإنضمام الى أسرتي باستراليا. نبأة رحيله أحزنني جداً. ومع ذلك سعدت عندما علمت بأن جثمان الراحل الرفيق يوسف كوة مكي طُوف به من قبل مقاتلي الجيش الشعبي على عدة مدن ومناطق بجنوب السودان قبل إرساله ودفنه بكاودا بجبال النوبة في رحلته النهائية وسط أسلافه.
في العام 2003 في طريقي الى الكرمك بجنوب النيل الأزرق توقفت بكاودا إلأ إن الوقت لم يسمح لي بزيارة قبر أحد المقاتلين العظام من أجل الحرية في السودان، الراحل يوسف كوة مكي. حطت طائرتنا بكاودا لإصطحاب خلفية الراحل كوة بالجبال، الرفيق عبدالعزيز الحلو ورفاق آخريين، في طريق رحلتنا للمشاركة كمراقبين في المؤتمر الإقليمي للحركة الشعبية في الكرمك. جلسنا تحت شجرة مانجو شابة ووريفة، بالقرب منها كوخ صغير من القش، عرفنا انه "قصر" حاكم جبال النوبة عبدالعزيز الحلو، حيث تعيش زوجته وأطفاله. كما كان أطفاله يدرسون بكاودا، في الوقت الذي كان فيه العديد من أطفال زملاء عبدالعزيز الحلو يتلقون تعليمهم في يوغندا أو كينيا او حتي بعيداً في إنجلترا.
توفى يوسف كوة مكي رجلاً شجاعاً ومتسامحاً. وبالرغم من إسلامه فهو لم يسعي البتة لإقناع زوجته المسيحية وأطفاله لإقتناع الإسلام. ومؤخراً علمت من الرفيق الهادي دياب، العضو بالحركة الشعبية من شمال السودان وهو مسلم، علمت منه ان الراحل يوسف قد أتاح لزوجتيه وأطفاله إتباع العقيدة التي يختاروا، وأكثر من ذلك إن من بين أطفال زوجته فاطمة المسلمة قد إعتنق المسيحية، في حين إبنة زوجته حنان المسيحية قد إعتنقت الإسلام. علمت من الهادي دياب ايضاً انه بعد وفاة يوسف كوة في إحدى مستشفيات لندن نقل جثمانه الى الكنيسة والى المسجد على السواء لأداء الصلوات عليه، وغُطيّ جسد يوسف كوة مكي بالهلال والصليب، رمزيّ الإسلام والمسيحية.
هكذا روح من التسامح، مثلتجربة حياة يوسف كوة مكي، في مقدورها كان حفظ ملايين الأرواح لهذا الوطن ومنع الحروب الاهلية المزمنة التي كلفت وتكلف البلاد فقدان الملايين، وتعطيل التنمية والرخاء لجميع السودانيين.
عبدالعزيز الحلو يخلُف يوسف كوة
بعض الناس يعشقون إنتقاد الحركة الشعبية لتحرير السودان في كل شي تقريباً يذهب على نحو خاطئ، سواء في الحكومة او في الحزب أو في العمل العام وسط المجتمع. ولكن بإستثناء الذين ينكرون حقائق التاريخ الثابتة، فإن الحركة الشعبية تفاجئ، على حد السواء الاعداء والأصدقاء، بمقدرتها على الإنتقال السلمي السلس في حالات الفراغ القيادي.
لقد خلف عبدالعزيز الحلو الراحل يوسف كوة على قيادة جبال النوبة دون معارضة تذكر، وإن كانت فمحدودة، فمؤهلات وعملية تفويض عبدالعزيز الحلو خليفةً ليوسف كوة لا تشوبها شائبة. فعبدالعزيز الحلو رجل ملئ بالتواضع، ذو سجل نادر من البسالة خلال العمليات العسكرية في جبال النوبة وجنوب السودان وشرق السودان وفي دارفور، عندما أُسر الرفيق داوود بولاد من قبل قوات الخرطوم وتمت تصفيته في اوائل العام 1990.
على الرغم من إتصاف عبدالعزيز الحلو بالهدؤ، إلأ انه رجل يجادل من أجل قضيته بصبر وإقناع مجرد من إستدرار العاطفة. لقد تعارفت، شخصي وعبدالعزيز الحلو لسنوات طوال، وهذه الشهادة تعكس تجربتي الشخصية في معرفته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.