قبل شهر.. استقبلت في مكتبي اثنين من المهندسين الأجانب يتبعان لواحدة من الشركات الاستشارية الايطالية العاملة في السودان. كان السؤال الرئيسي المطروح من قبلهما (باعتباري مستشار لهما في الشأن السوداني) ماذا سيحدث بعد الانفصال؟!. كانت إجابتي لهما في كلمتين.. لا شيء.. وكانت تلك الإجابة مبنية على استقراء وقراءة وضع مماثل في الانتخابات الفائتة وما صاحبها من احتقان مبلبل، والتزام الناس بيوتهم، والهجرة لمن استطاع إليها سبيلاً.. ثم.. لا شيء.. سريعاً عادت السيارات تتسابق في شوارع الخرطوم. ولكن.. ما الذي يحدث في السودان الآن؟!. حسناً.. يبدو أن هناك أشياءً كثيرة تحدث.. ومياه كثيفة تجري.. ومخابرات عدة تعمل.. ولكن على صعيد الأخبار فلا جديد يقال. ربما كانت الكلمات بلهاء في معانيها، ضعيفة المعنى في مبناها و دلالاتها.. و ذلك بالضبط يرسم الصورة الممجوجة الآن والتي لا يكاد يتبين الناظر إليها معنى ولا شكلاً سوى تداخلات كثيرة واضحة ولكنها غير مفهومة. على الصعيد السياسي الرسمي ولئن هيأ لك القدر جلسة مع مسئول مقرب وحاكم متنفذ تمني نفسك من وراءه بفيض من المعلومات، أبشرك بأنك ستجد على الصحف والقنوات الفضائية أكثر مما يعلم ذلك المسئول، وقراءة ذلك في اتجاهين، إما أن المسئول لا يعلم شيئاً وهو بعيد عن مركز اتخاذ القرار ومن الطبيعي تصور أن ذلك المركز هو مجلس الوزراء مثلاً، أو أن تكون كل المعلومات فعلاً متاحة للعامة بلا حجب، و التكهنان صحيحان بلا شك، فمن الواضح أن مركز اتخاذ القرار للأزمات المتتالية يكون في مكان آخر غير مجلس الوزراء والذي فيه شركاء متشاكسون وتكون الأبواب مفتوحة ومشرعة من بعد حول تصور حجم وشكل ومكان ذلك المركز، والأمر الثاني هو أن فعلاً معظم المعلومات والمشاكل العالقة ومقترحات الحل تكون في يد الإعلام قبل أن تصل نتائج المباحثات للمكاتب السيادية للطرفين، بل وربما كانت في يد الإعلام قبل أن يجلس الوفدان المتفاوضان لمناقشتها، وذلك ناتج من حملات الاستقطاب الحادة والعنيفة واسعة الدائرة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية للرأي العام وافتراض أن إقناعه بوجهة النظر يعني ضغطاً للطرف الآخر في اتجاه تقديم تنازلات ما. وذلك واقعي ومنطقي إلى حد كبير، وتمثل مشكلة أبيي أبرز أمثلة ذلك الاستقطاب، إذ أن المفاوضات والرد عليها تجري على صفحات الصحف وقيمة الصفقات والصفقات المقابلة معلنة وبعبارات خادشة للحياء السياسي في بعض الأحيان. هذا من جانب ، ومن جانب آخر حتى المعلومات الضئيلة التي يتم حجبها عن الإعلام يتم التلميح إليها من الطرفين في اللقاءات العامة لكسب الشعب وتتميز أبرز أمثلة ذلك التلميح في قضية الشريعة الإسلامية والمساومة عليها في ثنايا أحاديث قادة المؤتمر الوطني والحكومة، والحديث عن العروض والتنازلات التي تقدمها الحكومة للجنوب عربوناً للوحدة والتي تعتبرها الحركة الشعبية استفزازاً وثمناً بخساً وتستجدي بذلك عواطف أهلها من الجنوبيين. والحال كذلك، فإنه لا يخفى على أي مراقب حالة القلق التي تسود الطرفين من انفلاتات أمنية في الشمال أو الجنوب، ونزاعات مسلحة يمكن أن تنشب في الحدود المفتوحة بين الدولتين القادمتين وتهديد أمني لمصدر الثروة الرئيسي.. البترول.. وحيال ذلك لا بأس من بعض التواضع والظهور أمام المجتمع الإعلامي وكاميرات التصوير في شكل توافق واتفاق أقرب إلى حرص الزوجين على الظهور بصورة تدل على الانسجام أمام المجتمع منها إلى حياة منسجمة فعلاً واتفاقاً حقيقياً على قضايا الأمن والحدود. ثم لا تلبث ذات الأطراف عبر أجسام أخرى أن تعلن عن استعداداها لخوض أي حرب متى ما فرضت عليها وذلك يبدو هو الواقع، فإن كل طرف يتحسب فعلاً للأسوأ .. سواءً كان ذلك الأسوأ مهدداً أمنياً داخلياً في الشمال أو الجنوب، أو كان حرباً حدودية وربما شاملة بين دولتين توفرت أسباب اندلاع فتيلها. وظهور المركبات العسكرية في شكل طوابير عرض على شوارع الخرطوم هو من قبيل العين الحمراء التي توجهها الحكومة لما تسميهم بالمتربصين. وأمام هذه الصورة الواضحة والجلية في جزء من الشاشة لن تنفع التصريحات المنادية بأن الشعب يجب أن ينظر للانفصال كشأن عادي.. وذلك لسبب بسيط، هو أن ما دامت الحكومة تتحسب لشيء عند أو بعد الاستفتاء، فإن المواطن أيضاً لديه ما يتحسب له. تأثيرات المشهد السياسي الواضح والمتناقض وغير المفهوم يجعل ذات الكلمات مناسبة لوصف المشهد الاقتصادي. فهو فعلاً واضح، ومتناقض وغير مفهوم، فما الذي يحدث في أسواق الخرطوم؟!. فوضى.. والكلمة تعبر بدقة عن الحدث، فعلى الصعيد الرسمي ظل بنك السودان (المسئول عن المصارف في البلاد) يصدر سياسات غريبة وغير مفهومة إلا في إطار حالة طوارئ داخلية لدى البنك تحسباً لشيء ما.. سياسات متلاحقة لا يمكن أن تكون سياسات نقد أجنبي لبلد مستقر ويسعى لتحقيق معدلات استقرار ونمو في اقتصاده، وكان آخرها التخلي تماماً عن ضخ العملات الحرة وشبه تعويم لسعر الجنيه، فأنت تصحو صباحاً لتسأل.. كم سعر الدولار اليوم؟!.. ثم بناء على الإجابة تستطيع أن تضع تقديراً معقولاً في حساباتك ومتهور في حسابات السوق لشأن السلعة التي تريد شراءها أو التعامل فيها، فالدولار قبل سنة و نيف كان سعره الرسمي في حدود 2.1 جنيه، وقبل أشهر كان 2.4 جنيه، ووصل إلى حدود 2.9 جنيه كسعر شبه رسمي و 3.6 جنيه في السوق الموازي. بناءً على ذلك خذ سلعة كحديد التسليح مثلاً، فقد كان سعرها قبل شهرين في حدود 2300 جنيه للطن، قفز إلى 2800 جنيه ثم 3400 جنيه و 3600 جنيه ومؤخراً في صبيحة هذا اليوم إلى 4000 جنيه للطن ولن تجد من يبيعك هذه السلعة في السوق. صحيح أنك لن تجد مبرراً ومنطقاً لهذه الزيادة الكبيرة حتى وإن تم مقارنتها بالدولار، ولكنك ستجد الإجابة الجاهزة على لسان أول تاجر تقابله (ما معروف الحيحصل شنو). وهو على كل حال انعكاس لسياسة الوجه الرسمي للاقتصاد الذي يعمل ويتحسب لشيء ما بعد الانفصال، ولم يفصح صراحة أو يواجه القوم بما يتحسب له، فجعلهم يتوقعون ويخمنون ما سيحدث وبناءً عليه يضعون تقديراتهم لحدود الأسعار التي يمكن أن تحميهم من أي مكروه.. وعلى وزن حديد التسليح المستخدم في أعمال البناء والتشييد يمكن للمتابع أن يطبق النموذج على أي سلعة في السوق .. نعم أي سلعة .. فعند رجوعي إلى منزلي مساء ذات اليوم علمت من صاحب البقالة المجاورة لمنزلي بأن قارورة المياه الغازية التي اشتريتها بالأمس منه بسعر واحد جنيه قد صار ثمنها 1.5 جنيه بزيادة 50% في (ضحوية)، وقد سأله أحد المواطنين مستنكراً وأنا شاهد على ذلك قائلاً له (ليه ياخي!) فرد صاحب البقالة بعفوية (أسأل الحكومة). وملخص الوضع الاقتصادي العام هو أنه لا بائع إلا بأغلى الأسعار ولا مشتري إلا لضرورة أكل أو شرب أو (الشديد القوي) والكل يتحسب كما الحكومة تتحسب. مرة أخرى نجد أن الوضع الرسمي المتأزم بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يؤثر على السلوك الاجتماعي للبشر، ومن سائل، وما دخل السلوك الاجتماعي بالسياسة؟!. فعلى الصعيد الاجتماعي والشعبي فإن البشر في الشمال يعيشون حالة من القلق المفرط في الحذر وتعبئة سالبة خطرة جداً هي الآن في العقل الباطن للناس غزاها العراك الإعلامي والسباب والشتم المتبادل و جعلها تكون أقرب إلى كراهية البلد الواحد الذي جمع ثقافات وأعراق وألوان ولغات لا رابط بينها غير حدود وهمية، صار الناس لا يقبلون أن يحدثهم أحد عن الوحدة، وتقل شعبية أي مسئول في الحكومة يصدر عنه تصريح ضعيف في مواجهة الحركة الشعبية أو يقدم تنازلاً في قضايا ما بعد الانفصال خاص بالجنسية أو الحدود أو أبيي. وفي المقابل تزيد شعبية الشخصيات المنادية بانفصال الجنوب من الشماليين كأمثال الدكتور الطيب مصطفى زعيم منبر السلام العادل والذي توزع صحيفته الانتباهة الداعية والمتبنية لخيار الانفصال منذ تأسيسها توزع رقماً قياسياً من الأعداد بالمقارنة مع بعض الصحف الأخرى. صار الجميع معباءً ولا استعداد له لأن يسمع بأن نتيجة الاستفتاء كانت في صالح الوحدة .. ورغم هذا الشعور السلبي العام تجاه قضية الوحدة والداعم للانفصال، فإن الجميع يتحسب بناءً على تحسب الحكومة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ومن المعلوم بأن لكل مواطن دائرته التي يدور حولها وبالتالي تضيق أو تتسع دائرة ذلك التحسب بحسب المصالح المرسلة للمواطن وتحسبه ذاك تدور ساقيته في بندين، تحسب أمني وآخر اقتصادي .. ولن تجدي نداءات الشرطة والأجهزة الرسمية الأخرى لمنع ذلك التحسب لأنه باختصار أتى بناءً على تحسبات رسمية .. وشعب السودان كما تعلمونه.. شعب يناقش السياسة ويعشقها حتى في بيوت العزاء. الجانب الوحيد الواضح والجلي في كل هذه الصور المتداخلة هو الوضع البائس و اليائس لقوى المعارضة .. الشمالية خصوصا .. حيث لم تجد معظم القوى المعارضة سوى أن تلتزم الصمت.. و هى تعلم أن أي حديث أو عمل ضد الحكومة في هذه المرحلة سيكون كارثة على من يقوم به، كارثة أمنية أولاً لأنه سيواجه ضربة عنيفة وقاسية من أجهزة أمنية ليس لديها وقت الآن لسماع المبررات، وسيواجه شعورا شعبيا عاما بالعزلة والاستياء باعتبار أن الحكومة الآن تمثل الشمال في هذه الأزمة. وحده زعيم الأنصار الذي ما زال يتحدث ويصرح، ويدل شكل ونوع ومكان التصريحات على إحباط عام يلف الرجل والكيان. ولربما كان لعامل السن دور مؤثر في ضعف دور كيانات المعارضة عموماً وكيان الأنصار خصوصاً.. أما شماليو الحركة فهم يعيشون حالة انعدام توازن وصار التبرؤ من الحركة الشعبية ديدن تلك الجماعات وذلك بحثا عن موطئ قدم في القادم المجهول. ملخص الرؤية.. أن البلد تعاني بحق.. فقد أدى انشغال معظم الأجهزة الحكومية والكيانات التنظيمية للمؤتمر الوطني بقضايا الوحدة والانفصال إلى ضعف الشعور بالقضايا الأخرى.. فهي مؤجلة لعدم التفرغ، وفي ظل الضغط الرهيب الذي تتعرض له القيادة العليا للحكومة والمؤتمر الوطني والممسكة بالملفات الحساسة تلك، في ظل ذلك الضغط والإرهاق المتصلين لعشرين عاماً، ضعفت الصلة بين القيادة العليا ومؤسسات الدولة، وبات الشعور العام بالمسؤولية والإحساس بصعوبة المرحلة ودقة الحدث وكيفية التعامل معه لدى القيادة تلك واضح وجلي ولا لبس فيه تعبر عنه في شكل قرارات مهمة تمس قضايا ملحة للمجتمع والشعب تقربا له ولكن الانشغال لم يترك لها وقتا أو أجهزة لتتابع بها تلك القرارات فصارت أجهزة الدولة المتبقية البعيدة عن مطبخ صنع القرار جزراً معزولة وممالك منفصلة ومراكز قوى لا يحرك لها تصريح الرئيس شعرة أو يخدش لها تنبيه نائب الرئيس خاطر. فالقيادة في وادي وهم بآخر يضربون عرض الحائط بقرارات الرئاسة و الأجهزة العليا للدولة، ومؤسسات الدولة يأكل الضعيف فيها القوي إلى حين إشعار آخر. هذا الموقف الدقيق في عمر الأمة وبحجم المهددات التي يحملها.. وهذه الصورة المعروضة والتي يفهمها كل من يعيش فيها ولكن ربما يعجزه التعبير عنها.. هذا الممر المضيء المظلم الذي سندخله بعد أيام، يؤسفني أن أقول أن محصلة حله هو انتظار الحدث ثم من بعد اقتراح الحل.. إذ في كل الصور والمسارات تكون النتيجة (توقع مع تحسبات).. ولا نتيجة قطعية يمكن الجزم بها.. إلا نتيجة واحدة وحتمية وتم تجريبها من قبل.. تتمثل في تدخل قوة عظمى، كبرى.. تدبر الكون.. وتقدّر الخير للعباد المخلصين.