لعلك تتفق معي أيها القاريء الكريم أن شرقنا رغم مافيه من نعم و خيرات ، و نفوس شامخات كالجبال الراسيات، ومع ما كل ماأبدع الخالق فيه وأودع، من عقول نيرات وحقول منتجات، لم يزل مسكينا بائسا، وضعيفا كسيحا عاجزا عن حكم نفسه وإدارة شئونه، فلا غرو إذن ولا عجب أن نتخلف ونزداد تخلفا حين تتقدم وتزدهر الأمم والشعوب من سائر الملل و النحل. ومع هذا فنحن نملأ الأرض صياحا أننا خير أمة أخرجت للناس. و رحم الله أمير المومنين عمر حين قرأ هذه الآية فقال:" من أراد أن يتصف بها فليأخذ بشرط الله فيها". وقف بنا -إن شئت- أيها الصديق العزيز عند الآية الكريمة رقم 110 من سورة آل عمران و تأمل معي شروط الخيرية التي إشترطها الله لمن أراد أن يكون في "خير أمة أخرجت للناس". و شرط الله الذي أشار إليه عمر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. ولعله من المناسب هنا أن نذكر القول المنسوب الي الإمام الحسن البصري رحمه الله: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب و صدقه العمل"، ويحضرني في هذا المقام توجيه وإرشاد رسولنا الكريم في أولي مراحل إنشاء مجتمعه المدني حين قال: " أيها الناس، أفشوا السلام ، و أطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام". وإنني أدعوك هنا لتتدبر معي هذه الكلمات الموجزات التي إن وعتها شعوبنا في الشرق وتدبرتها وعملت بها دخلت الجنة. ودخول الجنة يا أخي يعني باختصار شديد الصلاح في الدنيا والفوز في الآخرة. وإفشاء السلام يرمز هنا إلي حب الناس وإرادة الخير لهم، وبسط الأمن والأمان . وإطعام الطعام في زماننا هذا يشير إلي الأمن الغذائي وتوفير العيش الكريم لجميع أفراد الشعب ، أما الصلاة بالليل خاصة والناس نيام فإنها تعني مخافة و رجاء الله وحده، و الحرص علي ما يصل ويربط العبد بربه، مع الإخلاص في القول والعمل، بعيدا عن أعين الناس ومدحهم ومديحهم، و ترجمة ذلك كله عملا صالحا بالنهار ينفع الله به العباد وتعمر به البلاد. والأمن من الخوف والإطعام من الجوع من أكبر نعم الله علي خلقه، وهما نعمتان إمتن الحق عز وجل بهما علي قريش خاصة مذكرا لهم بجليل نعمه وعظيم آلائه. وإن إستقرار وإزدهار كل مجتمع مربوط بأمنه وتوفير العيش الكريم لأفراده. وإنه لمن المحزن حقا أن تظل إمكانات الشرق ومقدراته حكرا علي السلاطين وأقربائهم ، والمقربين منهم أو المتقربين إليهم، و لاحظ لعامة الناس وسوادهم الأعظم من المستضعفين في المال العام وخيرات البلاد إلا ما يجود به السلطان تكرمة وتفضلا منه علي من يري ويختارمن قطاعات شعبه المسكين إن سمح بالطبع نظامه الحاكم بالقطاعات والفئات، أو أنه لم تزل في تلك القطاعات والفئات بقية من روح لها إعتبار و قوة و حركة، وتنظيم و إرادة و حراك. ولقد فقدت بلادنا الحبيبه رجالا كانت لهم صولات وجولات في تحريك الشارع واستنفاره كلما لزم الأمرعملا بسنة التدافع التي أرادها الله لمنع الفساد في الأرض، ولرفع الغبن ودفع الظلم عن المستضعفين بوجه خاص. ولعله آن الأوان لي أن أذكر بكثير حزن وعميق أسي بطلا من أبطال بلادنا، وضرغاما قل أن يجود الزمان بمثله، سليل الجعليين والمنافح عن حقوق العمال و "الغبش" الكادحين. أذكر"أبا أحمد" الشفيع ود أحمد فيذكرني ذكره قول تماضر إبنة عمرو بن الشريد السلمي " الخنساء" حين أصيب أخوها صخر: إن الزمان وما يفني له عجب أبقي لنا ذنبا واستوصل الراس إن الجديدين علي إختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس لقد مضي "أبو أحمد" وترك وراءه سيرة عطرة، وذكرا حسنا فصدق فيه قول أمير الشعراء أحمد شوقي: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان إن قتل أبي أحمد وغيره من القادة الشرفاء في شرقنا البائس المنكوب خير دليل علي جبروت وبطش العسكرين حين يتمكنون وتخلو لهم الساحة، وهو كذلك أصدق شاهد علي ضعف وخور وتزلف ونفاق المدنيين الذين لم يطالبوا لإخوانهم بمحكمة عادلة ونزيهة يتبين بها المجرم من البريء وقتها. إن نفرا من الذين يتشدقون بالديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان الآن عليهم أن يتواروا حياء وخجلا من سكوتهم وصمتهم وجبنهم وهم يرون خيرة أبناء بلدهم ورفقاء دربهم ونضالهم يساقون إلي المشانق بعد محاكمات إيجازية عسكرية صورية أقل ما يقال عنها أنها مهزلة ومسرحية ، أعدت فصولها ونفذت ببراعة في المكروالخبث والتآمر، والعمالة والخيانة ، وموت الضمير ، وغياب الوازع من دين و خلق و مروءة إن الحق تبارك وتعالي قد بين حكمه في إزهاق النفوس المحرمة ، و جعل قتل نفس واحدة دون وجه حق كقتل الناس جميعا. وبين الرسول الكريم جرم إزهاق النفوس حين قال:" أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء". وجاء كذلك عن الأعمش بسنده أنه :« لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما نقيت كفه من الدم ، فإذا غمس يده في الدم الحرام نزع حياؤه ». وورد كذلك عن أم الدرداء قالت : سمعت أبا الدرداء ، يقول : « يجلس المقتول يوم القيامة ، فإذا مر الذي قتله قام فأخذه ، فينطلق فيقول : يا رب سله لم قتلني ؟ فيقول : فيم قتلته ؟ فيقول : أمرني فلان ، فيعذب القاتل والآمر ». وهذا الأثر صريح في الذين رضوا لانفسهم أن يكونوا أداة وأبواقا للطغاة وهم يسفكون الدماء ويزهقون الأرواح. و في الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يزال المرء في فسحة (سعة) من دينه ما لم يصب دما حراما » . وأرجو منك أيها القاريء الكريم أن تلاحظ معي وتتفكرأن كلمة"دم" في الحديث وردت بصيغة التنكيرغيرمعرفة لتفيد العموم وتشمل كل آدمي معصوم الدم إلا ما استثني. هذا بالطبع إذا سلمنا أن كل من إنتمي إلي تنظيم اليسارهو ملحد وكافر حلال الدم لمجرد إنتمائه وانضوائه. وهذا القول إن جاز علي بعض الملحدين الشيوعيين وغيرهم من الملاحدة المنكرين لوجود الخالق إلا أنه قطعا لا ينطبق علي كل يساري أو شيوعي من الذين عرفنا أم لم نعرف في بلادنا. وتكفير الناس بالجملة هكذا لايجوز إلا عند الجهلة والعوام، والمتنطعين والمتزمتين، وأصحاب الهوي والأغراض. لقد سرني غاية السرور جواب أبي أحمد لجلاديه حين قالوا له " يا الشفيع إنت عمرك كله تعمل للناس، إعمل ليك اليوم حاجه لنفسك. إتشهد يا زول"، فرد عليهم أنه صلي لله قبل أن ياتيهم لتنفيذ حكم الإعدام عليه. رحمه الله رحمة واسعة بقدرعطائه وإخلاصه، وتجرده وتفانيه، وصدقه وثباته، وجلده وصبره: " إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب". وإني أسال الله العلي القدير لي ولك أن لا نكون من أولئك الذين جعلوا جل همهم، وشغلهم الشاغل تكفيرخلق الله في الدنيا وتمني الخلود لهم في النيران والجحيم في الآخرة! آمين أنظر معي يا صديقي العزيز إلي أقطارالشرق كلها فهل تري خلاف ماقلته لك من تسلط وجبروت، وهوس ديني وكهنوت، وتزلف ونفاق ممقوت؟! وبين هولاء وأولئك لا شك جماعات وشراذم تفرقت وتبددت، لاجامع لها إلا الوقوف حين تسمح الظروف علي أطلال الكفاح والمكافحين، والإتكاء علي تراث الأقدمين، واجترارذكريات من مضي من أبطالهم وزعمائهم وأهل المروءة منهم: مررت علي المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة فقالت كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا سوف تظل مجازر الشجرة وما تبعها من أحداث محزنة وتصفيات دمويه، وقرارات إنتقاميه ، وإجراءت كيديه علي أيدي العسكرين نقطة سوداء في تاريخينا السياسي، كشفت الديكتاتورية العسكرية في أبشع صورها، ولم تقم لمؤسساتنا قائمة بعدها. وترتب عليها كذلك إختصار دورالمدنين ممن كان يظن بهم العلم والفهم والحلم ليكونوا تابعين لا حول لهم ولا قوة، ولذلك طغت الرتب علي الفهم ، وتقدم الرشاش علي القلم، وأصبح العلماء أبواق وطبول لسفاحين همهم كله السلطة والتسلط، والتخلص من كل معارض وطني نزيه شريف، ومتجرد عفيف. هكذا كان أبوأحمد وغيره من الزعماء الأشاوس، وعلي مثلهم فلتبك البواكي. وللحديث بقية إن شاء الله. abdel elsiddig [[email protected]]