أذكر أنني كنت أحادث أحد أعضاء الحزب الجمهوري في العاصمة الأمريكيهواشنطن أثناء إنعقاد المؤتمر السنوي لمجموعة المصليين الوطنيه الذي يقام كل عام في الأسبوع الأول من شهر فبراير. وكان ذاك الحديث في السنة الأخيرة لإنتهاء الفترة الثانيه لرئاسة الرئيس جورج بوش الابن حيث يشتد الصراع داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي لاختيار مرشحيهم للرئاسة ودخول البيت الأبيض. وكان وقتها يكثر الهمس والشائعات أن أسرة بوش الأب ربما تدفع بابنها جيب حاكم ولاية فلوريدا المعروف بين 1999-2007 ليخلف أخاه الاكبر جورج في البيت الأبيض. سألت محدثي الجمهوري إن كان هو شخصيا يري إمكانية ذلك، فرد علي قائلا:" لا شك أن "جيب" يملك كل مؤهلات الترشيح للرئاسة، وله سجل حافل بالانجازات تيسرمهمة الحزب في الدعاية والترويج له لجذب الناخبين إليه و الالتفاف حوله، ولكني لا أظن أن الحزب سيرشحه هذه المرة بالذات خلفا لأخيه، وذلك لأن الممسكين بزمام الأمور في الحزب لا يريدون أن يري الحزب الجمهوري عند سواد الناخبين وعامتهم وكأنه يأخذ بمبدأ التوريث أو النظام الأسري الملكي، وعلي جيب بوش أن يصبر قليلا حتي تزول هذه الشبهة، وينقطع أثر أخيه ثم يمكنه أن يرشح نفسه داخل الحزب بعد حين مع مرشحين آخرين". تابعت الحديث معه فقلت له : " وماذا لو أصر "جيب" علي طرح إسمه ضمن قائمة المرشحين هذه المرة ليري كيف ستسير الأمور ؟". فأجابني: " "جيب" رجل عاقل وذكي جدا ، ولذلك فهو لن يفعلها ، لأنه يعلم تماما أنه لن يتقدم كثيرا دون مساندة حزبه له ووقوفه معه، فهو لن يخاطربمستقبله السياسي، و ليس له خيار إلا الانتظار" . وأظن الآن أن صديقنا الجمهوري قد أصاب في تقييمه للأمرهذا، فإن "جيب" لم يتقدم للترشيح وقتها كما ظن بعض الناس، ولكنه عاد إلي الظهور علي المسرح السياسي مما يشير إلي أن حزبه الجمهوري قد يدفع به ضمن آخرين في معمعة الرئاسة والتنافس عليها، وربما يكون ضمن المرشحين في 2012 إن رأي الحزب أن فرصته كبيرة في الفوز و خاصة أنه نفسه لم يستبعد ذلك أو ينفه. و "جيب" هذا يا صديقي معروف عنه أنه كلما سئل في هذا الأمر يجيب بقول مشهور:" لا تقطع بلا النافية في شيء أبدا"، فكل شيء عنده جائز وممكن، و مثل هذا القول لن تسمعه إلا من سياسي مرن وديبلوماسي متمرس. أما الناس عندنا فيقطعون في كل شيء، ويجزمون ويبتون في الأشياء كلها بلا النافية وغيرها من أدوات القطع و الجزم، وربما عززوا نفيهم بأيمان مغلظة، مدعومة بتقطب جباه وصرامة وجوه لنبين للعالم كله أن مواقفنا ثابتة لا تتغير، فهكذا خلقنا وهكذا سنبقي ذكرت هذه الحادثة لمقارنة عمل الأحزاب عندنا في الشرق وأحزابهم في الغرب، فإنه لايكفي عندهم أن تكون أبن أسرة كبيرة عريقة ذات صيت وتاريخ وثراء وجاه. كما أنه لايكفي الفرد منهم أن يبلغ مكانة مرموقة في مجاله أو أن يتمكن داخل حزبه ، و كذلك فإنه مهما طالت قائمة إنجازات العضو وإبداعاته، وكيفما كرم أصله وتعددت مواهبه فإنه لابد له من مؤسسة تضبط حركته تقدما وتأخرا وإسراعا وإبطاءا. ان الحزب عندهم ومؤسساته و منظماته التابعة له تشكل المرجعية العليا و السلطة الضابطة لحركة الجميع بلا إستثناء، ولكل حزب دراساته وخطته وإستراتجياته ورويته الواقعية المبنية علي دراسة ومتابعة توجهات الناخبين وآرائهم وتقييمهم لكل من يتقدم لترشيح نفسه. يتم ذلك كله بعيدا عن المجاملات والمحاباة والضغوط ولا يقدم الحزب إلا من يري أنه له فرصة كبيرة للفوز علي خصمهم المرشح من الحزب الآخر. والفيصل الأخير في كل ذلك هو الناخب العادي الذي سيدلي بصوته في صندوق الاقتراع. ولذلك فان التنافس داخل الحزب أشد مشقة وعنتا منه خارجه، وذلك لأن الفوز داخل الحزب يحتاج لجهد فردي متواصل، وكفاءة ذاتية عالية ، وطول نفس لكسب جولة المنافسة الحزبية. أما الذي يتصدر قائمة المرشحين عن حزبه فإنه سيضمن وقوف الحزب كله وراءه وسيدعمه الجميع بكل قوة لأنه يمثلهم ويخوض المعركة باسمهم و نيابة عنهم، رضوا بذلك أم أبوا. وقد يخالف في حالات قليلة جدا بعض الناس ويخرجون عن إجماع حزبهم كما فعل الجنرال الجمهوري "كولن باول" بدعمه علنا وعلي الملأ للمرشح الديمقراطي السيناتور باراك اوباما وقتها. وعندما تقع مثل هذه المخالفات النادرة التي قد تحدث من بعض النافذين في الحزب أحيانا فإنك لن تسمع بالويل والثبور والتهديد بعظائم الأمورللمخالفين، وكذلك لن تري التشابك بالإيدي أو الضرب بالعصي، و لا الأخذ بالتلابيب والخناق وقطع الأرزاق. ولكن يتم الأمر كله بسهولة ويسروتراضي واتفاقات ومساومات، وبعدها تري كل حزب قد إختار مرشحه ورمي بثقله كله وراءه. ولعل ما بقي لنا من أحزاب في الشرق أن يستفيدوا من تجارب الغرب في كيفية عمل أحزابهم، و تعاملها مع أعضائها داخل الحزب بين أعضائه من جهة، و كذلك بالنسبة لخصومهم ومنافسيهم السياسين من جهة أخري. وهناك أمر آخر مهم يجب التنبيه عليه والوقوف عنده وهو أن الأحزاب العريقة التي لها شأن في الغرب تستفيد فائدة عظيمة من أولئك المنشقين عليها، والمعترضين الخارجين أحيانا علي إجماعها عندما تقتضي الحاجة وتلائم الظروف، وذلك يكون في حالة مد جسور التواصل علنا وجهارا مع الأحزاب الأخري، وفي فتح قنوات الحوارالخفية من وراء الجدروخلف الستر، ليقينهم أن المعترض علي بعض قراراتهم لا يزال يحمل في طياته هم الحزب، والحنين إليه، وكامل التعاطف معه وإن بعدت بينهم الشقة وباعدت بينهم السياسات. وهذا يا صديقي سر كبير من أسرار نجاحهم واستمرارهم، فانهم كما تري لا يصرمون حبال الوصل كلها أبدا، وإنما تجدهم يبقون علي بقية ود ويحرصون عليها وإن ضعفت وقلت. وذلك لانهم يعلمون أن طرق السياسة المعقدة والمتشعبة لا بد أن تجمعهم بعد تفرقهم و إفتراقهم العارض هذا ولو بعد حين. وكذلك الحال بالنسبة لمن يخالف إجماع حزبه بخروجه عليه فإنه لا يقطع صلته به وإن قل تواصله وزهد فيه بعض المتنفذين والمتسلقين وضعاف النفوس، ورغم مايلقاه بعض الكبار من أذي ورعونة صغارالعقول من الانتهازين، وقليلي التجارب من الشباب الاغرار في كل زمان و مكان. أما العاقل ذو التجاريب الفطن فإنه يبقي للود بقية ويبغض "حين يبغض هونا ما" كما جاء في الأثر عن أمير المومنين علي رضي الله عنه في وصيته لابنه الحسن رضي الله عنه وأرضاه وإذا أردنا أن نتخذ من موضوع الجنرال "كولن باول" مثلا في الخلاف مع الحزب والخروج عليه، فإنه ينبغي علينا أن نقف عنده ونفصل فيه للاعتبار به والاستفادة منه، وذلك لأن الجنرال "باول" يعتبر من أكثر القيادات العسكرية والمدنية انضباطا، وأحسنهم أداء في الحرب والسلم، فهو قائد متميز نادر، ويحظي باحترام الجميع بلا إستثناء، وإن خروجه هكذا علي الناس في أحرج اللحظات التي يحاول كل حزب فيها أن يوحد صفه، ويجمع شمله لمواجهة خصمه في ميدان الاقتراع ، يعتبر ضربة كبيرة للحزب الجمهوري من عضو ذي تاثير بالغ وفعال في كل الميادين وعلي كل الأصعدة. وفور إعلانه وجهره بتاييده للمرشح الديمقراطي رجحت كفة الديمقراطين، وثقلت موازينهم بعد إنضمام الجنرال "باول" لهم في حملتهم الانتخابية، وبدا واضحا لكل مختص في إدارة الحملات الانتخابيه أن السيناتور الدمقراطي من ولاية الينويز سوف يصبح أول رئيس أسود في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية أذكر جيدا أنني عندما شاهدت الجنرال " كولن باول" يعلن لاول مرة علي التلفاز تاييده لمرشح الحزب الديمقراطي السيناتور باراك اوباما، اتصلت بصديق لي مقيم في منطقة واشنطن العاصمة، وكان مسرورا غاية السرور، ومنفعلا غاية الانفعال، ولا تكاد الارض تحمله، ولو قدر لاحد غير الاولياء و الصالحين من زهاد وعباد الصوفية أن يطير كما كانت تحدثني جدتي رحمها الله، لطار صاحبنا الديمقراطي ذاك من السرور والإندهاش والفرح . و لو كان يعلم صاحبنا ذاك المقطع المشهور من اغنية المرحوم إبراهيم الكاشف الذي يغنيه بصوته ذاك العجيب ويقول فيه " وأكاد أطير من الفرح" لاستشهد به صاحبنا دون شك، فانه يصف حاله تماما في تلك الساعة إذ إنه يكاد يطير من الفرح، و ذاك لعلمه وتقديره لصيدهم السمين في مياه الجمهورين. ولعلني نسيت أو فاتني عن غير قصد أن أخبرك أنه معروف عن هذا الصديق المبتهج بين أصدقائه و المقربين إليه شدة تعصبه وحماسته لحزبه الديمقراطي وقيادته، فلماخابرته وهو في غمرة إنتشائه لم يزد أن قال لي بانجليزية واضحة صريحة بينة، أقرب ما تكون إلي العربية فصاحة وبلاغة وإيجازا قد إنتهي الأمر أيها الصديق العزيز، وعلي حزبنا الآن أن يشرع في تشكيل حكومتنا الجديدة. أرجو أن تختصر مكالمتك -لو سمحت - فان لدي مكالمة أخري علي الخط الآخر". ذكرت لك هذه القصة لتعرف أثر تأييد الجنرال "كولن باول" علي الديمقراطين وفوزهم بالرئاسة، وخسارة الجمهورين الفادحة بسببه، وإني أدعوك الآن لننظر معا لهذا الحدث الكبير بعين المنصف، و ندرسه و نحلله بعيدا عن التحامل والتعصب والهوي، لعلنا نتعلم منه ، وعسي الله أن ينفعني وإياك مع آخرين به. إذا بدأنا بصاحب الشان والرجل المعني في الأمر "كولن باول" فانه كان هادئا كعادته، ولا يبدو عليه أي تغيير في تعبيره أو تعابيره كما يفعل الناس عندنا حين يبلغ بهم الاستياء حدا يخالفون فيه أحزابهم ويجهرون باعتراضهم، ولكنه بين بكل إحترام ورزانة وتقدير للجميع أنه قرر تأييد السيناتور الديمقراطي باراك أوباما لأنه مقتنع بضرورة التغيير الذي تقتضيه المصالح العليا لبلده أمريكا، فان مصالح البلد العليا مقدمة عنده علي الانتماء المحدود للحزب، ثم ذكر الحرب وآثارها المدمرة والمكلفة، وتمني في ختام حديثه أن يوفق الرئيس الجديد في تحقيق وتنفيذ برنامجه الإنتخابي الذي دعا إليه لاخراج أمريكا من تورطها في حروب لا نهايتة لها أما من جانب الجمهورين فانهم استقبلوا أمرهم برباطة جاش وتماسك مع صبر وتجلد وقوة إحتمال بدا واضحا في الكلمة التي القاها مرشحهم السيناتور ماك كين من ولاية أريزونا بعد إعلان فوز مرشح الديمقراطين بالرئاسة. بدا السيناتور متامسكا وخاطب الناس بطريقة تجلت فيها رباطة جاش الكبار وذوي الأسنان، وتجلد القيادات الكبيرة عند المصائب. شكر الحاضرين وحياهم، وخص بالشكر من يستحق التخصيص، و تمني للرئيس الديمقراطي الجديد التوفيق والنجاح، ووعده بأن يعمل معه، وأن يضع يده في يده لخدمة بلدهم، ثم ختم كلمته أنه يتحمل وحده المسؤلية كاملة عن كل خطأ أو تقصير و هكذا لعق الجمهورون جراحاتهم، و قضي الأمر بالنسبة لهم هذه المرة، وأسدل الستار بلا ضجيج ، أو سباب أو صراخ، ولا وعيد أو تهديد بهتك ستور أو كشف مستور. نعم هكذا سارت الأمور يا أخي القاريء العزيز، وهكذا مر الأمر بسلام وفاز الديمقراطيون بالانتخابات، وهم الآن يحتلون البيت الأبيض ويتحكمون في إدارة البلد من مكتب الرئيس، وسوف يسلمون الراية كما استلموها في أمان وسلام للرئيس القادم الذي سيكون جمهوريا إن ظلت الأمور علي ما هي عليه الآن. ولم نسمع أبدا أن قيادة الحزب الجمهوري قد لعنت أحدا، أو أخرجته لمجرد الخلاف معها من جملة البشر إلي عالم الذر والحشر و لوجود وفعالية المؤسسات هذه في الغرب فإنه يتم البت في الأمور التي تخص الحزب في جو ديمقراطي هاديء ومريح، بعيدا عن الغضبة المضرية، والأيمان المغلظة القوية. ويبقي الأمر في النهاية للفكرة السوية، والنظرة العقلية، و الحجة الناصعة الجلية. أما في الشرق لطالما تسمع بالشتم والسباب، والطعن والتشكيك في الأنساب، والقذف في الأعراض والأحساب، والتطاول علي ذوي الشرف و الفضل و السن والألباب. فلا توقير لكبير ولا رحمة لصغير. وربما رأيت أو سمعت أن بعض المفلسين من الحجج، والعاجزين عن ولوج غمرات السياسة و اللجج يسلطون شبابهم المدربين من ذوي الفتوة والعضلات، ويحرضونهم ليذيقوا المخالفين لهم وبال أمرهم ضربا وركلا ولكمات، أو خبطا بالعصي والهراوات، وتهديدا ووعيدا بحسم الخلاف -إن لزم الأمر- بالبنادق والرصاص والمسدسات. ومع هذا كله فإننا يا صديقي العزيز لا نزال نحلم بالديمقراطية، ونبشر الناس بدولة الإسلام الفتية. وللحديث- إن شاء الله بقية -- Let's build bridges not walls abdel elsiddig [[email protected]]