عنوان هذه الكلمة ، هو عبارة عن مقطع أو شطر من بيت من القصيدة الغنائية الشهيرة " من الأسكلا وحلاّ " التي نظمها شعراً ، وأبدع في نظمها الشاعر الكبير " محمد ود الرضي " الذي اعتبره بمثابة لبيد بن ربيعة في الشعر الجاهي بالنسبة لشعر الحقيبة ، إذا كان إبراهيم العبادي هو نابغة الحقيبة ، وأبو صلاح أعشاها ، وخليل فرح طرفتها ، وعبيد عبد الرحمن زهيرها. هذه القصيدة الأغنية ، لعلها تثير الكثير من الشجون والتساؤلات ، في معناها العام ، وفي ملابسات نظمها وسيرورتها ، وفي لحنها ، ولغتها وألفاظها ، وفي قالبها الفني الرائد في بابه. فمن حيث القالب الفني ، جاءت هذه القصيدة منسوجة على منوال المسادير المعروفة في نظم الشعر التقليدي ، كما هو شائع في بوادي السودان النيلي ، وخصوصاً في نواحي البطانة وشرق النيل بصفة عامة. والمسادير فن يقوم على وصف رحلة خيالية أو حقيقية ، يذكر فيها الشاعر المواضع والمرابع التي يمر بها هو وهو على ظهر هجينه ، أو تمر بها محبوبته وهي ظاعنة مع قومها. ومن أشهر تلك المسادير ، مسدار الصيد للشاعر أحمد عوض الكريم أبو سن ، المعروف بلقبه الحاردلو . ذلك المسدار الذي يتتبع فيه الشاعر مسيرة سرب من الظباء وهي ترعى الكلأ و تمرح بين مسارح البطانة ومروجها وغيطانها وآكامها وقيعانها ومناهلها وغدرانها ، من لدن أقصى جنوب سهل البطانة وحتى أقصى شمالها ، وهي ذات القصيدة الملحمية التي مطلعها: الشم خوخت بردن ليالي الحرّة والبراق برق من منّا جاب القرّة شوف عيني الصقير بجناحو كفت الفرّة تلقاها ام خدود الليلة مرقت برّة بيد أن الشاعر ود الرضي قد استعاض هاهنا عن الهجين السريع ، بالباخرة النهرية أو " الوابور " ، وفي ذلك ملمح حداثي لا شك فيه ، اقتضته سنة التطور الذي شمل وسائل النقل في السودان في مطلع القرن العشرين . انظر إلى قول ود الرضي في ذات القصيدة مثلا " حاجزين قمرة اتنين دور ". فهذه القصيدة هي من هذا الجانب ، رائدة في بابها ، ونحسب أن كل القصائد الأخرى التي تصف رحلات بوسائل المواصلات الحديثة ، متأثرة بها ، أو عيال عليها على نحو ما ، وفي الذهن على سبيل المثال: أغنية " يا ظبية البص السريع .. أنا بيكِ خايف أضيع : ، أو أغنية: " يا سايق القطار قوم بينا .. لى بنت الشمال ودينا : ، وهي من روائع أغنيات " الربوع " التي يؤديها الفنان المطرب: " زكي عبد الكريم ". ولعل أول الشجون المرة التي تستثيرها هذه الأغنية الرائعة في النفس ، هو الحسرة والإشفاق من أن يتعرض هذا التداعي الوجداني الحميم ، والمنداح بين شمال السودان وجنوبه ، انطلاقاً من عاصمة البلاد وقصبتها الخرطوم ، وحتى أقصى جنوبها عند بلدة الرجّاف الواقعة إلى الجنوب من جوبا ، إلى البتر المعنوي فيما نستقبل من أيام وأشهر قليلة قادمات ، وأن يكون قصارى هذه الباخرة أو الوابور أن يشرف " كوستي والجبلين " ، كآخر محطة له ، ولا يتعداها بفعل عوادي السياسة إلى تشريف الرجاف كما قال الشاعر ، وكما ظللنا نردد مع معه في طرب وحبور بمختلف أجيالنا المتعاقبة ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. استمعت إلى هذه الأغنية لأول مرة في صغري ، من خلال برنامج " حقيبة الفن " ، من أداء الثنائي " مرغني المامون وأحمد حسن جمعة " ، وهو ثنائي يمتاز بالصوت القوي والشجي في آن واحد معا ، والمخارج السليمة للحروف ، وعدم الميل إلى المعاظلة في الأداء عن طريق المبالغة في ترخيم الصوت ، والتماس الحليات النغمية المفتعلة ، طلباً للتطريب كما كان يفعل بعض مؤدي أغاني الحقيبة في السابق ، بما أضاع معه وضوح الألفاظ والعبارات ، والمعاني تبعاً لذلك في أحيان كثيرة. وخلال السنوات الأخيرة ، أعجبني أداء فنان الشباب " محمود عبد العزيز " لهذه الأغنية في أحد أوائل أشرطة الكاسيت التي أصدرها في منتصف التسعينيات ، بمثل ما يطربني في الوقت الراهن ، أداء كل من الفنان: " ياسر تمتام " ، والأستاذ " إبراهيم خوجلي " لها. وبمناسبة الحديث عن أداء إبراهيم خوجلي لهذه الأغنية ، لاحظت أنه يميل إلى إشراب صوت الألف شيئاً من صوت الواو ، فهو يقول مثلاً: من الأسكلا وحلّو قام من البلد ولّو دمعي اللى الثياب بلّو وهذه لعمري طريقة بدوية في أداء هذا الصوت وخصوصاً في الغناء ، حيث يميل عرب البادية في السودان أحياناً إلى نطق الألف قريبا من الواو في مثل هذه الألفاظ. هذا ، وإبراهيم خوجلي من جزيرة (توتي) ، يعني من قلب المدينة ، فمن أين – يا ترى – جاءته هذه الخاصية البدوية. ؟ من النقاط ، وإن شئت " النكات " االغوية ، كما يقول الأقدمون ، التي استوقفتني في قصيدة " من الأسكلا وحلاّ " ، هي قول ود الرضي: جبل أولي حبيبي غشا حصّل في القطينة عشا يا قلبي الطفش وفشا الما ليس ينكفشا فقد لاحظت أنه قال (ينكفشا) ، وهو يعني " ينكشفا " بالطبع ، من كشف الشيء يكشفه. فهل اضطرته القافية لهذا القلب ، أم أنّ أهل المنطقة التي نشأ فيها ود الرضي يقولون " كفشو " في " كشفو " ؟ أي أنهم مثل المصريين الذين يقولون " أفشو " ، مع اختلاف ان هؤلاء الأخيرين ينطقون القاف همزة. وثمة فائدة لغوية وجغرافية أخرى نستفيدها من خلال هذا المقطع نفسه ، وهي قول ود الرضي: " جبل أولي " ، وهو اسم الجبل الصغير الذي يقع على شاطئ النيل الأبيض على بعد حوالي أربعين كيلومتراً جنوبالخرطوم ، ذلك بأن ود الرضي قد أثبت الاسم القديم لهذا الجبل " جبل أولي " ، وليس اسم " جبل أولياء " الذي جعل يشيع في العقود الأخيرة كما يخبرنا بذلك الباحثون والمؤخون. وزعموا أن أحد النقاد ، أو لعلّه أحد المتشاعرين في ذلك الوقت قد أراد ذات مرة أن يشغب على ود الرضي فقال متبجحاً: " يعني شنو زول يعمل ليهو قصيدة عن رحلة باخرة من الخرطوم للرجاف !! ". قالوا: فردّ عليه ود الرضي بقوله: " أنا وصّلتها الرجّاف ، خليهو يجيبا راجعة ". وقيل أيضاً إنّ شخصاً " شليقاً وشفقاناً " من إحدى قرى (بحر ابيض) ، قد لام ود الرضي في إحدى المرات على أنه تعمّد في قصيدته أن يقفز من (الكوة) ، ليذكر من بعدها ( القطينة) مباشرة ، دون أن يأت على ذكر قريته هو بالذات. فزعموا أن ود الرضي قد رد عليه بقوله: " انت ما سمعتني بعد ما ذكرت القطينة في القصيدة ، قلت: عاد لا حول ولا قوة حبيبي الليلة في الكوة ؟ ، فلما ردّ عليه بالإيجاب قال له ود الرضي: نان لا حول ولا قوة دي ما أنتو ذاتكم !!. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.