مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع الدولة الدينية من التعايشي إلى البشير .. بقلم: حامد بدوي
نشر في سودانيل يوم 19 - 01 - 2011

بإعلان رئيس نظام الانقاذ، عمر أحمد حسن البشير، العودة لتطبيق الشريعة الاسلامية بعد انفصال الجنوب، تكون الحركة الاسلامية السودانية قد وصلت أخيرا لهدفها الأصلي وهو إنشاء إمارة إسلامية في السودان، ذلكم الهدف الذي ظلت الحركة الاسلامية تقترب وتبتعد عنه في حركة مد وجذر طوال نصف قرن.
وبتحقيق هدفها المعلن حينا والمضمر أحيانا، تكون الحركة الاسلامية السودانية قد وصلت تاريخ الدولة الدينية في السودان والذي انقطع بتدمير دولة الخليفة عبدالله التعايشي على يد قوات الغزو الإنجليزي – المصري في بداية القرن العشرين.
في هذه المقالة سنحاول تتبع حلم إعادة الدولة الدينية في السودان وتحولات هذا الحلم على مدى نصف قرن من الزمان حتى نعي ما يواجهه السودان من مستقبل بعد انفصال جنوبه عن شماله.
1- الدولة الأنصارية أو المهدية الأولى
نستطيع أن نقول بثقة تامة أن الدولة الدينية الأولى في السودان، دولة الخليفة عبدالله التعايشي (1885 – 1898)، قد نهضت وسقطت وهي في عزلة تامة عما كان يتحرك خلال تلك الفترة الزمنية في الشرق الأوسط من دعوات للنهضة الإسلامية ومن جهود للإحياء والتجديد الإسلامي علي أيدي مفكرين إسلاميين لا يزال أثرهم الفكري باقيا وحيا وفاعلا من أمثال جمال الدين الأفغاني (1828 – 1879) والأمام محمد عبده (1849 – 1905). فعلاوة علي التعارض الأيديولوجي بين السني الذي يمثله هؤلاء المصلحون وبين الصوفي الذي تمثله الدولة المهدية، فان منهج الثورة المهدية الجهادي المصادم لم يكن ليتفق مع النزوع الإصلاحي السلمي المهادن لهؤلاء الإصلاحيين الكبار.
ولاشك في أن الحكومة الإستعمارية في السودان قد فطنت لهذا التعارض بين الصوفي الثوري والسني الإصلاحي وهي تستقدم، بعد القضاء علي الثورة المهدية، عددا من القضاة الشرعيين ومعلمي الشريعة من مصر كما (ركزت علي حركة الإصلاح الديني التي ظهرت في مصر وأوكلت للشيخ محمد عبده الإشراف علي إختيار القضاة للسودان)
وقد كرس حاكم الدولة الدينية السودانية الوحيد، الخليفة عبد الله التعايشي، هذه العزلة وذلك باشغال الدولة كلها بجميع قدراتها في حملات لا تنتهي لتطويع وإخضاع قبائل السودان المختلفة بالإضافة للمواجهة مع الأشراف. وكانت هذه الحملات، حروبا حقيقية شغلت كل مقدرات الدولة ولم تسمح بنشوء مناخ ثقافي من أي نوع أو توجهات سياسية أو بروز قضايا فكرية تتواصل مع ما كان ينمو خارج البلاد من نهضة إسلامية فكرية وسياسية.
ويرى فرنسيس دينق أن المهدية كانت (في حملاتها الأولي وما حدث بعد قيام دولتها، مغامرة باهظة الثمن، لان تدهور القانون والنظام والمجاعة الناتجة عن الجفاف والحرب وعدم مقدرة الدولة علي مجابهة الطوارئ والحالة (الهوبسينية) العامة، أي حالة الإقتتال التي عمت أنحاء القطر، تجعل ما حدث في الصومال والبوسنه بالمقارنة، أمورا طفيفة. وكانت فترة انطبق عليها التعبير المحلي "العالم خرب")
نخلص من كل هذا إلي إستنتاج أمرين:
الأول: هو أن الدولة الدينية في السودان ومنذ نموذجها الأول قد حكم عليها بأن تتخذ سبيل العنف والقهر ضد المسلمين من الموطنين السودانيين أولا. ثم ضد غير المسلمين من السودانيين من باب أولى
والثاني: هو أن الدولة الدينية في السودان محكوم عليها بالإنغلاق والتقوقع وبالتالي العزلة والإستهداف وذلك بسبب فقدان هذه الدولة التناغم الضروري مع مجريات السياسة الإقليمة والدولية.
أما في ما يخص الدولة الدينية المهدية والحركة الأنصارية فإننا نستطيع أن نرجع انغلاقها وتقوقعها داخل ذاتها إلى ثلاث عوامل رئيسية هي:
أولا:
ضيق الأفق الثقافي للقائمين علي دولة الخليفة عبد الله التعايشي. فقد صاحب تلك الدولة قدر كبير من القصور الثقافي والجهل السياسي. وقد أدار الخليفة دولته بفهم ديني بسيط بساطة ضارة، أساسه التفريق بين (الأنصار) و(الكفار). كما أدارها بعقلية قبلية بسيطة وضارة أيضا أساسها التفريق بين (أولاد البحر) و (أولاد الغرب). وهو بذلك قد نسف أي أساس للإنتماء من منظور إسلامي. كما نسف أي أساس للمواطنة من منظور قومي.
ثانيا:
المنابع الصوفية لهذه الحركة، مما أشرنا إلية سابقا من تعارض الصوفي الثوري الجهادي مع السني الإصلاحي. ونضيف هنا أن صدود الحركة الأنصارية ونفورها من حركات النهضة والتجديد الإسلامي في المنطقة، يعود في جزء كبير منه إلي أن معظم هذه الحركات قد نشأت في مصر مما زاد من نفور الحركة الأنصارية تجاها. فالدعوة الأنصارية قد تفجرت أساسا ضد تركيا ومصر وبريطانيا، تلك الدول التي يجمعها الأدب الأنصاري الساذج في لفظة (الترك). ولعل هذا مما أغلق الباب بين الحركات الإسلامية النهضوية التي منبعها (ديار الترك) وبين الحركة الأنصارية في السودان.
ثالثا:
الطبيعة الإستثنائية لهذه الحركة. فعلي الرغم من أنها حركة دينية في الأساس، إلا أنها قامت، في حقيقة الأمر ضد حكام مصر الأتراك الذين يحكمون بإسم خليفة المسلمين في تركيا. ولهذا فقد ظل الأتراك كفارا في العقيدة الأنصارية، لدي العامة من الأنصار حتى اليوم. وهذا وضع إستثنائي لأبعد الحدود. والإمام محمد أحمد نفسه هو إمام صوفي إستثنائي ضمن أئمة المتصوفة وضمن تاريخ العلاقة بين الدولة والإمام الصوفي الذي يجهر بدعوته ويجمع المريدين من حوله. فمنذ إمام المتصوفة الأول السيد المسيح عليه السلام ، مرورا بالإمام الحلاج وانتهاء بالأستاذ محمود محمد طه، فان للدولة علاج وحيد للإمام الصوفي الذي يتحداها. ذلك العلاج هو تعليق الإمام على الصليب أو المشنقة. وقد حاولت الدولة العثمانية ممثلة في حاكمها علي السودان، شنق الإمام الصوفي السوداني. إلا أن مهدي السودان قد كان هو الإمام الصوفي الإستثناء. فهو الإمام الوحيد الذي شنق الدولة. فلم يعرف في تاريخ التصوف إمام شنق الدولة قبلة ولم يحدث بعدة إلا في حالة الإمام الخميني في القرن العشرين. ولعل هذا ما جعل الأمر يبدو غامضا وبلا مرجعية أو ثوابت تاريخية أمام الخليفة عبد الله الذي قاد الدولة الأنصارية بعد وفاة الإمام المهدي. فليس ثمة أدب أو إرث سياسي يعتمد عليه. ولم تتح سنوات الثورة والجهاد التي قادها المهدي فرصة كافية لتأسيس بناء فكري أو سياسي يعتمد عليه الخليفة.
2- إعادة الدولة المهدية أو المهدية الثانية
ما سبق بشأن الدولة المهدية الأولى، يكشف لنا فقر المرجعية التي اعتمدت عليها دعوة إعادة الدولة المهدية، أو المهدية الثانية، علي يد السيد عبد الرحمن المهدي في بداية الحركة السياسية الوطنية. ومع ذلك فقد شكلت هذه الدعوة المشروع السياسي الأكبر بين المشاريع السياسية الرئيسية التي تقسمت حولها الحركة السياسية السودانية في بداية تكوينها. وبسبب هذه المرجعية الفقيرة فكريا وسياسيا فقد جاءت المهدية الثانية منبته ومعزولة عن الحركات الإسلامية في المنطقة علي يد دعاة إسلاميين مؤثرين من أمثال حسن ألبنا في مصر والذي بدأ دعوته عام 1928 وإستمر حتى اغتياله 1949. كما ظلت الحساسية التاريخية تجاه مصر تحرم المهدية الثانية من أي بعد إسلامي عربي. وقد زاد من تلك الحساسية دعاوى الساسة المصريين حول تبعية السودان لمصر وحق مصر في السيادة علي السودان. هذا بالإضافة إلى إشتراك مصر الفعلي في غزو السودان وتدمير الدولة المهدية ألام.
وحتى علي المستوي المحلي، واجهت المهدية الثانية صعوبات جمة. فقد وقفت الفظائع التي إرتكبت في عهد الخليفة عبد الله ضد كل قبائل السودان تقريبا، حاجزا صلبا بين قطاعات كبيرة من مسلمي السودان وبين دعوة المهدية الثانية.
وكان هذا الوضع المعقد يحتاج رجلا إستثنائيا آخر قادرا على أن ينهض بدعوة سياسية متماسكة بناءا علي كل هذا الإرث المنفر. وكان هذا الرجل هو عبد الرحمن المهدي. لقد تبني السيد عبد الرحمن المهدي خطابا سياسيا يحتوي علي المعلن (الدعوة إلى الإستقلال) والمضمر (إعادة الدولة المهدية). وكان السيد عبد الرحمن المهدي ذكيا ذكاءا أسطوريا وهو يختار هذا المنهج. ففي الجانب المعلن من دعوته للإستقلال تحت الشعار الغامض (السودان للسودانيين)، إستطاع أن يكسب إلى جانبه العديد من السودانيين من غير الأنصار والذين يرفضون مجرد فكرة الهيمنة المصرية. كما إستطاع أن يكسب، لحد ما، رضي بريطانيا التي تنكر مثله حق مصر في السيادة علي السودان. وهي، أي بريطانيا، كانت في حاجة فعلية لتيار سياسي قوي ينادي بإستقلال السودان بعيدا عن الإتحاد مع مصر، رغم تحفظاتها علي الجانب غير المعلن من الخطاب السياسي للسيد عبد الرحمن المهدي. وبالمثل فقد كان السيد عبد الرحمن المهدي في حاجة فعلية لرضي أحد طرفي الحكم الثنائي وبالضرورة لن يكون هذا الطرف هو مصر بسبب موضوع السيادة علي السودان ودعمها المكشوف لخصومه الإتحاديين.
وكان الخطاب السياسي للسيد عبد الرحمن المهدي متماسكا في مراميه النهائية. فالإستقلال لديه كان يعني خروج الدولتين المستعمرتين من السودان وعودة السودان (للسودانيين)، أي عودة السودان دولة دينية كما كانت قبل إحتلال المستعمر الإنجليزي - المصري. وهكذا فان البديل الوطني للإستعمار هو المهدية الثانية وليس الإتحاد مع مصر كما ينادي المشروع الإتحادي، المنافس القوى للمشروع الإستقلالي. ولم يكن من القبول لدى قطاع كبير من السودانيين، بما فيهم بعض المثقفين، أن يكون البديل الوطني للإستعمار هو الإتحاد مع إحدى الدولتين المستعمرتين.
وكان السيد عبد الرحمن المهدي يعرف تماما أن إستقلال السودان تمنحه بريطانيا وليس مصر. فمصر نفسها كانت تحت الإحتلال البريطاني المباشر منذ القضاء على ثورة عرابي عام 1882. لهذا فقد حاول السيد عبدالرحمن بشتى السبل وفي كل المناسبات أن يطمئن بريطانيا وبلغة دبلوماسية رفيعة، بان دولة الأنصار، إذا عادت، فسوف تكون دولة صديقة لبريطانيا. وأنها تحت قيادته ستكون دولة متحضرة تنبذ العنف والحروب. وهذا هو مغزى إهداء السيد عبد الرحمن سيف الإمام المهدي لملك بريطانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي هذه المناسبة كان السيد عبد الرحمن يخاطب ملك بريطانيا العظمي بلغة دبلوماسية عبقرية، لا تزال غير مفهومة للكثيرين الذين لم يروا من هذا التصرف سوي جانبه الميكانيكي المباشر. لقد كان حوارا دبلوماسيا راقيا بين ملك وملك. كان السيد عبد الرحمن من خلال عملية إهداء السيف علي الرغم من تحذير سلطات السودان للوفد بعدم تقديم هدايا للملك، كان يوصل رسالة لملك بريطانيا مفادها أن دولتي القادمة ستكون صديقة لبريطانيا، وهذا هو مغزى الإهداء، وأنها سوف تنبذ العنف والحروب، وهذا مغزى أن تكون الهدية هي سيف المهدي المجاهد. ثم ثمة رمز آخر في هذا السيف. فهو السيف الشاهد علي الحق التاريخي للسيد عبد الرحمن المهدي في حكم السودان، وهو يعرف أن الإنجليز، خاصة علي مستوى الأسرة المالكة يقدسون مثل هذا الحق التاريخي، لأنهم موجودون على العرش البريطاني بسببه.
ولا شك في أن مستشاري ملك بريطانيا قد صرفوا زمنا وجهدا كبيرين في إعداد إجابة دبلوماسية علي نفس مستوي رسالة السيد عبد الرحمن، فهذه المسائل لا تتم بالعفوية و التلقائية التي يظنها الناس. ولا شك أن تأكد البريطانيين من نية السيد عبد الرحمن تقديم هديته رغم اعتراض حكومة السودان قد أثار وسطهم بلبلة وارتباكا. ولم يكن أمام بريطانيا سوي أن تعلن موقفها الرسمي ضمن تصرف الملك وهو يواجه هذا الامتحان العسير من قبل هذا السياسي الفذ القادم من وراء البحار. وهكذا جاء رد الملك دبلوماسيا رفيعا لكنه يحمل إجابة واضحة علي عرض زعيم الأنصار. وكان مغزاه أن لا دولة لكم في السودان الآن، وستظلون جزءا من الإمبراطورية البريطانية. وكانت الصيغة الدبلوماسية لذلك الرد هي أن يقبل الملك الهدية، أي يقبل يد الصداقة التي مدت له، ثم يرد السيف لصاحبه مرة أخرى مع عبارة تعني أن الملك يرد لكم السيف لتدافعوا به عن الإمبراطورية البريطانية. أي لا دوله سوي الإمبراطورية. وهذه إجابة مدروسة وليس تصرفا تلقائيا، ولا يمكن أن تكون إلا من إعداد عباقرة الدبلوماسية في بريطانيا في ذلك الزمن.
ومن مواقف السيد عبد الرحمن التي أسئ فهمها رغم اتساقها مع طرحه السياسي، موقفه من المؤسسات الدستورية التي بدأت الحكومة الإستعمارية البريطانية إدخالها ضمن نظام الحكم في السودان، مثل المجلس الاستشاري عام 1942 والجمعية التشريعية عام 1948. فبغض النظر عن جدواها في مجال إشراك السودانيين في الحكم من عدمه، فإنها كانت تعني، من حيث هي مؤسسات دستورية، أن السودان دولة أخرى وليس إقليما مصريا. فلو كان إقليما مصريا لترك أمر تطوير نظام الحكم فيه لمصر، ووفق نظام الحكم الملكي المصري. لهذا كانت الحكومة المصرية تعارض بشدة قيام هذه المؤسسات الدستورية في السودان. وكان رد مصطفي النحاس رئيس الوزراء المصري في أغسطس عام 1939 علي طلب حكومة السودان الموافقة علي قيام المجلس الاستشاري، هو تأكيد موقف مصر الرافض لقيام مثل هذه المؤسسات باعتبار أن مصر والسودان بلد واحد، وهي لا تري في مثل هذه المؤسسات سوي أنها (ترمي إلى فصل السودان عن مصر) . ونفس هذا الموقف وقفته الحكومة المصرية من الجمعية التشريعية ولنفس الأسباب الإستراتيجية.
وما كان أمام السيد عبد الرحمن، ومن منظور إستراتيجي أيضا، إلا أن يقف موقفا مناوئا لموقف الحكومة المصرية. فأي شيء، أهون من الإعتراف بأن السودان ما هو إلا إقليم مصري. وإذ كان قيام مثل تلك المؤسسات يعني فصل السودان عن مصر فهو أول الداعين إلي ذلك علانية، ولابد له من تأييدها.
كان موقف السيد عبد الرحمن المهدي ومشروعه الديني الرامي إلي إعادة الدولة المهدية، موقفا دقيقا للغأية، فمصر لن تقبل قيام دولة ( دراويش) علي حدودها الجنوبية، هذا إن قبلت أصلا مبدأ فصل السودان عن مصر. وبريطانيا لن تسلم السودان لابن المهدي الذي ما جاءت جيوشها للسودان أصلا، إلا لتدمير دولته. غير إن السيد عبد الرحمن قد ظل يلعب علي التناقض القائم بين دولتي الحكم الثنائي تجاه مستقبل السودان. فبريطانيا أيضا لن تقبل أن يصير السودان جزءا من أملاك ملك مصر. وهي تري أن السودان يجب أن يكون دولة مستقلة ذات سيادة وديمقراطية ومرتبطة بالكومنويلث وبعيدة عن أسرة المهدي. وهذا الموقف البريطاني ثابت في العديد من الوثائق، وليس أدل عليه من إعتراف السكرتير الإداري لحكومة السودان بأنهم قد ((شجعوا إلي حد ما قيام هذا الحزب (الحزب الجمهوري الإشتراكي) الذي جمع زعماء القبائل باعتبار انه سيعمل للإستقلال بعيدا عن أسرة المهدي))
كما أن هذا الموقف البريطاني محدد بدقة في مذكرة مكتب الحاكم العام التي بعث بها إلى وزارة الخارجية البريطانية في الثالث عشر من أغسطس 1954. فقد جاء فيها (إنه من المعلوم أن هدف السياسية البريطانية هو قيام سودان مستقر، حسن الحكم، مستقل عن مصر، وفي علاقات ودية مع بريطانيا، وخاضع للنفوذ البريطاني)
إذن فإن التناقض بين دولتي الحكم الثنائي بشأن مستقبل السودان، قد منح السيد عبد الرحمن المهدي زعيم المشروع الإستقلالي الديني، الرامي إلى إعادة الدولة الوطنية المهدية، قد منحه فرصة تمرير خطابه السياسي المزدوج بين الدعوة للإستقلال علي الأسس العلمانية وبين الدعوة إلى إعادة الدولة الدينية علي أسس شمولية.
فالهدف الأقرب هو الإستقلال، ولا ضير من العلمانية التعددية حتى يتحقق، وبعدها لكل مقام مقال.
وكان السيد عبد الرحمن واثقا من إكتساح حزبه لأول إنتخابات برلمانية تجري في السودان علي أسس لبرالية تعددية. وبعد أن يتسلم حزبه مقاليد السلطة، ف (لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب، ديننا الإسلام و وطننا السودان). وهكذا فان زعيم الأنصار ما كان يظن بان الأمور سوف تسير بغير ما خطط لها، وأن حزبه لن يكتسح أية إنتخابات في السودان منذ إنتخابات الحكم الذاتي وحتى إنتخابات عام 2009، وأن قدر حزبه هو أن يعاني إزدواجية خطابه السياسي القديم، تلك الازدواجيته التي بدأت تكتيكية ثم صارت طبيعة لصيقة بالحزب كلما صار تحديد موقف للحزب بين العلمانية التعددية والشمولية الدينية ضرورة لا مهرب منها.
3 - المأزق التاريخي أو المهدية الثالثة
لم يؤثر عن أئمة الأنصار منذ السيد عبد الرحمن المهدي، فابنه السيد الصديق المهدي ثم السيد الهادي المهدي، لم يؤثر عنهم بذل أية محاولة لتأسيس خلفية فكرية أو سند تنظيري فلسفي للدعوة المهدية، كما لم يؤثر عن أي واحد منهم محاولة مد جسر دعوية مع أية حركات إسلامية خارج البلاد. ولعل القائد الأنصاري الوحيد الذي حاول ذلك هو زعيم حزب الأمة السيد الصادق المهدي. وحتى الصادق المهدي، مع كل ما حاز من ثقافة رفيعة، لم يستطع إلا أن يكون توفيقيا في طرحه الإسلامي. فهو قد ظل، ولا يزال، يحاول تجسير الهوة التاريخية - المفهومية - الثقافية بين الشورى والديمقراطية. أما في محاولته إيجاد جسر مع الحركات الإسلامية خارج السودان، فلم يسعفه في هذا المجال سوي الثورة الإيرانية، وذلك لأنها هي الأخرى شديدة الخصوصية والمحلية من حيث هي شيعية مغلقة أمام العالم الإسلامي السني. وقد ذكر الصادق المهدي في هذا المجال: (إن المهدية كانت جسرا بين الشيعة والسنة، إذ أقامت أسسها التوحيدية علي السنة، بينما قيادتها علي مفاهيم الشيعة)
وفي واقع الأمر، فان العقيدة الأنصارية ليست في حاجة إلى تنظير ديني أو سياسي، فهي تقوم علي إيمان مطلق بمهدية الإمام المهدي المنتظر وعلي قناعة لا تتزعزع في عودة الدولة المهدية، ما بقي بيت الإمام المهدي يخرج القادة الأفذاذ للأنصار وللسودان. وكان يمكن للأمر أن يستمر هكذا، ويستمر بإستمراره الخطاب السياسي المزدوج والغامض الذي ورثته المهدية الثالثة من المهدية الثانية، والذي يجمع بين النقيضين، العلمانية الديمقراطية والشمولية الدينية، لولا ظهور الإسلاميين الراديكاليين في الساحة السياسية السودانية، كحزب سياسي عقب ثورة أكتوبر عام 1964م.
جاء هؤلاء إلى الساحة وفي جعبتهم أدب إسلامي ضخم في السياسة والإقتصاد والآداب والإجتماع من إنجاز( الإخوان المسلمون) في مصر وبقية العالم الإسلامي. لهذا فقد شكلوا بطرحهم الإسلامي القوي فضحا لضعف الطرح الإسلامي للمهدية الثالثة. غير أن هؤلاء لم يكونوا عند ظهورهم، في موقف بسمح لهم بتفجير تناقضاتهم معها، حتى إن (حزب الأمة) لم يشعر بالحرج وهو يتبنى شعارهم حول أسلمة الدستور من داخل الجمعية التاسيسية الثانية بعد ثورة أكتوبر 1964، وذلك لقلة شأنهم في الشارع السياسي السوداني. بل أن الدستور الإسلامي كان هو الشعار الذي سيخوض به إمام الأنصار السيد الهادي المهدي إنتخابات رئاسة الجمهورية لولا وقوع إنقلاب 1969.
وضع الإنقلاب اليساري القومي العربي، المهدية الثالثة أمام مأزقها التاريخي المتمثل في ضرورة تحديد موقف واضح بين العلمانية التعددية والشمولية الدينية، فقد كانت الجبهة الوطنية المعارضة لحكم الإنقلابيين تضم الجناح الإسلامي الراديكالي بقيادة دكتور الترابي والجناح العلماني الديمقراطي بقيادة الشريف حسين يوسف الهندي، وكان علي (حزب الأمة) أن يكون ثالث ثلاثة وأن يتكلم بلسانين. ووجدت المهدية الثالثة نفسها تواجه مأزقها التاريخي علي الرغم من أن (حزب الأمة) كان هو صاحب القوة الضاربة الحقيقية من المجندين الأنصار داخل (الجبهة الوطنية)، فقد ظلت العقيدة الأنصارية شبه السرية في حتمية إعادة الدولة المهدية وراء سهولة جمع الأنصار وإرسالهم إلي معسكرات التدريب في أثيوبيا وليبيا. وعندما انطلقت مليشيات الجبهة الوطنية من ليبيا لغزو الخرطوم وإسقاط نظام نميرى في يوليو 1976، فان التناقض في أهداف الحلفاء كان من العمق بحيث لم يسمح لحركتهم بالنجاح. كان الصادق المهدي يقول لشريكيه في الجبهة الوطنية، الشريف الهندي وممثل الإسلاميين بان (الأنصار قد انطلقوا نحو الخرطوم وفي ذهنهم تكوين الدولة المهدية الثانية)
وكان الشريف حسين الهندي ينتظر من تلك المليشيات إعادة الديمقراطية، بينما كان الإسلاميون الراديكاليون يحلمون بإقامة الدولة النموذج. وكان علي زعيم الأنصار أن يقول للديمقراطية نعم وأن يقول للدولة الإسلامية نعم وأن يحمس مليشيات الجبهة الوطنية علي إعادة الدولة المهدية، كل ذلك في جملة سياسية واحدة.
وأخذ مأزق المهدية الثالثة يزداد تفاقما كلما قويت شوكة الإسلاميين الراديكاليين. فقد ظلت المهدية أساسا وقاعدة قوية للدولة الدينية منذ بدايات الحركة السياسية السودانية، وقد قادت المشروع الديني وسط صعوبات لا حصر لها، ولكن بحكم أيديولوجيتها المنعزلة وشديدة الخصوصية، وبحكم هدفها الذي تأسست عليه والمتمثل في إعادة الدولة المهدية التي تجاوزها التاريخ، لا تستطيع أن تقود مسيرة الدولة الدينية في محتواها الراديكالي كما تسعي لها الحركة الإسلامية الحديثة.
وبوقوع إنقلاب الإسلاميين الأخير عام 1989 وصلت الحركة السياسية السودانية كلها إلى مفترق الطريق الأساسي، إما دولة ديمقراطية تعددية علمانية، وإما دولة شمولية دينية. وعلي كل الفعآليات السياسية السودانية تحديد مواقفها بوضوح. هنا يسقط لأول مرة، وللأبد الخطاب السياسي المزدوج للمهدية، التي ظلت قيادتها تتحاشى هذا الموقف، وظلت تتحدث بلسانيين طيلة الحقب الماضية. ولعل هذا هو سبب تذبذب موقف حزبها إزاء قوانين سبتمبر 1983، وإزاء إتفاقية الميرغني – قرنق، وإزاء معارضة نظام الإسلاميين الحالي منذ لحظة إستيلائهم علي السلطة وحتى ألان . فكل هذه القضايا كانت تتطلب أن تفعل المهدية الثالثة أصعب مهامها على الإطلاق، وهي مهمة توضيح موقفها بلا مواربة نحو الإختيار بين الدولة الشمولية الدينية والدولة الديمقراطية العلمانية.
ولاشك أن القيادة الحالية تعي، ولا ينقصها الذكاء، بان أي طريق سلكت من الطريقين فثمة خطر داهم. فالإنحياز للدولة (الدينية) القائمة سوف يفقدها العديد من مناصريها، والإنحياز للدولة الديمقراطية (العلمانية) التي تسعى لها المعارضة سوف يفقدها، هو الآخر، العديد من مناصريها. هذا بالإضافة إلى انها سوف تكون تابعة لو إنضمت للإسلاميين وتائبة لو انضمت للبراليين، ولم تعد القائدة في أي من الجانبين. وهذا المأزق تحديدا هو ما يدفع بالسيد الصادق المهدي للبحث، عند احتدام الصراع بين الدولة الدينية بقيادة (الحركة الإسلامية) والدولة العلمانية بقيادة (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، هذا ما يدفع به للبحث عن (الطريق الثالث)، فانتصار أي من الدعوتين لا يتمشي مع خط المهدية الإزدواجى، فالطريق الثالثة هي محاولة لإطالة عمر الإزداوجية، وبالتالي إطالة عمر المهدية الثالثة.
4- الدولة الأصولية أو الحركة الإسلامية الحديثة
نشأت الحركة الإسلامية الحديثة في السودان مرتبطة بحركة (الاخوان المسلمون) في مصر. وجماعة (الاخوان المسلمون) المصرية، هي الأم الشرعية لجميع الحركات الإسلامية الراديكالية الحديثة في العالم الإسلامي وما تفرع عنها من جماعات دينية متطرفة ومنظمات إرهابية. هذا على الرغم من النشأة الهادئة المعتدلة والإصلاحية لجماعة (الأخوان المسلمون) على يد حسن البنا في مصر.
وحتى الجماعات التي نشأت في بلدان أخرى منفصلة عن حركة (الاخوان المسلمون) المصرية، كما في السعودية أو باكستان أو اندونيسيا، فإنها قد تأثرت لحد كبير بجماعة (الاخوان المسلمون) المصرية. أما كيف تكون حركة إصلاحية معتدلة، مسئولة عن جماعات متطرفة ومنظمات إرهابية، فإن ذلك قد حدث بسبب الأنظمة السلطوية القمعية. فالأنظمة السياسية في المنطقة العربية الإسلامية كانت ولا تزال، لاتقبل وجود أي نوع من أنواع (التنظيم) إذا لم تعينه بنفسها وتحدد أهدافه وقيادته. وهذه الأنظمة السياسية القمعية القاهرة، بمختلف أنواعها، ملكية كانت أم جمهورية، شديدة القسوة والبطش تجاه أي نوع من التنظيمات أو الجماعات يطل برأسه، بغض النظر عن طبيعته أو أهدافه.
والمفارقة التاريخية، هنا، هي أن هذه الأنظمة السياسية، وهي تقمع وتكمم الأفواه وتبطش لأدنى بادره من بوادر الإستقلال بالرأي، ودون أن تعي، فهي تربي شعوبها على إنتهاج العنف. وشيئاً فشيئاً يصير العنف هو الصفة الدالة على الوجود. أنا عنيف إذن أنا موجود. وهكذا تتحول الحركات الإصلاحية، دينية كانت أم إجتماعية، إلى حركات متطرفة وجماعات إرهابية لتفرض وجودها، أو أنها تنحل وتذوب أمام العنف السلطوي.
وجماعة (الاخوان المسلمون) في مصر تحولت إلى إنتهاج العنف على يد سيد قطب من أجل أن تفرض وجودها بإزاء نظام سياسي شمولي قمعي يتوسل العنف لفرض سيطرته، هو النظام الناصري الذي استولى على السلطة عام 1952م.
وتنظيم (الاخوان المسلمون) في السودان قد نشأ على إرشادات حسن البنا فجاء تنظيماً إصلاحياً. وعقد هذا التنظيم مؤتمره التأسيسي عام 1954م، حيث قرر فيه إتخاذ إسم (الاخوان المسلمون) وحدد فيه طبيعته الإصلاحية، معلناً أن (الاخوان المسلمون) في السودان (حركة تربوية ذات دعوة إصلاحية شاملة) .
غير أن الإرتباط الإعتمادي مع حركة (الاخوان المسلمون) في مصر، قد جعل (الحركة الإسلامية) السودانية الحديثة، تتحول مع حركة (الاخوان المسلمون) المصرية، من الدعوة الإصلاحية المدنية إلى العنف والتطرف، على الرغم من فقدان ما يبرر ذلك في السودان. فمبررات التحول الذي حدث للأخوان المسلمين بمصر منطقية ومفهومة، وتكمن في تحول نظام الحكم نفسه في مصر من للبرالية والتعددية إلى الدكتاتورية والفردية. إلا أن ضعف وفجاجة الحركة الإسلامية السودانية، في ذلك الزمن، لم يتيحا لها أن ترى المفارقة بين وضعها ووضع (الأخوان المسلمون) بمصر. وهذا هو تفسير التشنج وانتهاج العنف لدى هذه الحركة، وهي تعمل في وسط سياسي ليبرالي تعددي من الناحية العامة.
من الناحية السياسية سعت الحركة الإسلامية السودانية الحديثة، سعياً جاداً، لطرح الإسلام السياسي وسط الحركة السياسية السودانية، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، خاصة بعد ثورة أكتوبر الشعبية عام 1964م وعودة الحريات السياسية. ففي تلك الحقبة خرجت الحركة الإسلامية من طور الخطاب الصفوي وحلقات الدراسة إلى طور الخطاب الجماهيري العام والقضايا السياسية.
ومنذ ذلك الزمن أخذت الحركة الإسلامية تسعى بوضوح للوصول للسلطة وإقامة نظام حكم إسلامي. وقد أثبتت هذه الحركة مرونة رائعة وهي تكابد منعطفات السياسية السودانية حتى نجحت أخيراً في الإستيلاء على السلطة بالقوة وأقامت ما تعتقد أنه الدولة الإسلامية الحديثة النموذج في منتصف عام 1989م.
وبهذا تكون الحركة الإسلامية السودانية الحديثة قد تسلمت قيادة التيار الإستقلالي الديني، بل انتزعتها إنتزاعاً من المهدية الثالثة، مما يشكل مرحلة جديدة ومختلفة في تطور هذا التيار الذي ظل حتى ظهور (جبهة الميثاق الإسلامي) عام 1965م، تحت القيادة المهدية.
تحولات حركة الإسلام السياسي في السودان
مرت حركة الإسلام السياسي في السودان بخمسة مراحل قبل أن تبلغ تحقيق هدفها النهائي وهو إقامة ما كانت تظن أنه الدولة الإسلامية النموذج في السودان. ونلقي فيما يلي نظرة على مسيرة هذه الحركة في مختلف هذه المراحل.
المرحلة الأولى 1950 – 1964
هذه هي مرحلة الحركة التربوية الإصلاحية ومرحلة (الإخوإن المسلمون). في هذه المرحلة كانت الحركة، وكما عبر الدكتور حسن الترابي: (عالة في زادها الفكري والتنظيمي علي الخارج) . وفي واقع الأمر فإن المنبع الفكري الوحيد للحركة في هذه المرحلة كان هو إرشادات حسن البنا. والمطلب الوحيد للحركة هو إن يتقبلها المجتمع السياسي السوداني جزءا منه. وقد إستفادت الحركة من الأجواء السياسية الديمقراطية التي سادت المجتمع السياسي السوداني بعد الإستقلال، فلم تواجه حروبا من أي نوع كما لم تتكلف أية تضحيات. وحيث أن حسن البنا كان داعية مدنيا رافضا للعنف بشتي صوره، فإن الحركة، وهي تستقي منه فكرها، لم تكن نشازا وسط المجتمع السوداني المدني المسالم.
المرحلة الثانية 1964 – 1969
هذه مرحلة (جبهة الميثاق الإسلامي) وشعار (الدستور الإسلامي). مرحلة الحزب الذي شارك في الحياة السياسية مشاركة كاملة، وخاض الإنتخابات تحت شعاره المرفوع وإستطاع إن يدخل نوابا إلى الجمعية التاسيسية. في هذه المرحلة طرحت الحركة نفسها جماهيريا، وإن لم تستطع إلا إن تكون حركة صفوية. وقد امتازت جبهة الميثاق الإسلامي بالدقة في التنظيم ووضوح الرؤية في طرح الإسلام سياسيا بصيغة جديدة وكبديل سياسي منافس، متفوقة في ذلك علي التيارات الإسلامية الأخرى في السودان }الأنصار، الختمية، الصوفية، أنصار السنة{ ماعدا الجمهوريين.
في هذه المرحلة تجاوزت الحركة الإسلامية السودانية أطروحات حسن البنا وأصبحت مرجيعتها الفكرية تعود إلى سيد قطب. والاختلاف في الدرجة بين فكر حسن البنا وسيد قطب يعود إلى سبب موضوعي جدا، وهو إن حسن البنا كان يفكر وينظم ويعمل ضمن نظام سياسي علي درجة كبيرة من اللبرالية، حيث كانت في مصر أحزاب وبرلمان وحريات عامة وحياة نيابية على أيام حسن البنا. بينما كان سيد قطب يفكر ويعمل وينظم ضمن نظام شمولي يكبل الحريات العامة ويمنع النشاط السياسي. وفي هذا نجد تعليل نبذ العنف لدي حسن البنا وتبنيه لدي سيد قطب. فحين رفض حسن البنا الثورة والعنف ضد الحكومة بعد حادثة إغتيال رئيس الوزراء المصري، النقراشي باشا علي يد أحد أفراد جماعة (الإخوإن المسلمون)، كان في الواقع يرفض معاملة الحكومة بالمثل إثر قيامها بحل الجماعة واعتقال قادتها وتشريدهم ومصادرة الأموال والشركات الخاصة بالتنظيم. وقد قال حسن البنا عندما سئل عن ردة فعل تنظيمه تجاه ما قامت به الحكومة، قال: (أما الثورة فلا يفكر فيها الأخوإن، ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها) .
أما سيد قطب فقد حكم بجاهلية المجتمعات الإسلامية إستنادا علي مبدئه في الحاكمية، حيث ربط الحاكمية بالإقرار بألوهية المولي عز وجل. فهو يقول في (مقدمات التصورالإسلامي): (إن الإقرار بالألوهية يتضمن الإقرار بالحاكمية، وعدم الإقرار بالألوهية والحاكمية أو بالأولى دون الثانية، يفضي إلى جاهلية المجتمع، فالمجتمع إما مسلم وإما جاهلي) . ولمصطلح (الحاكمية) معني واحدا لدي سيد قطب، وهو تحكيم الشريعة الإسلامية. وهذا يعني ضمنا إستيلاء الإسلاميين علي السلطة في البلد المعين. فليس الحاكمية هنا مفهوما فلسفيا، إنما هي مفهوم سياسي مباشر يعني حكم الإسلاميين الراديكاليين. ولهذا يكون المجتمع إما مسلما يحكمه الإسلاميون وإما جاهلي يحكمه الآخرون ويجب تقويضه بالعنف.
وأخطر من ذلك فإن سيد قطب قد شرّع للدكتاتورية حين نادى بحمل الناس وقسرهم علي الشرائع. فهو يقول إن (أولي خصائص الألوهية هي حق تعبيد الناس، وتطويعهم للشرائع والأوامر) . ولم يقل لمن يوؤل هذا الحق وإن كان المقصد مفهوم من السياق.
وبإنتقال الحركة الإسلامية السودانية من فكر حسن البنا إلى فكر سيد قطب فإنها قد أدخلت نفسها في مفارقة موضوعية باعتبارها حزبا عاملا في نظام ليبرالي تعددي. فإذ كان عنف (الإخوإن المسلمون) في مصر علي أيام سيد قطب مبررا بإزاء سلطة دكتاتورية عنيفة، فإنه لم يكن لعنف الإسلاميين في السودان ما يبرره حسب معطيات الساحة السياسية السودانية خلال تلك الفترة الديمقراطية (1964 – 1969). غير إن سرعة احتضإن الحركة الإسلامية السودانية لأفكار سيد قطب يؤكد إن العنف والقهر الذي أبدته الدولة الإسلامية الأولى في السودان، دولة الخليفة عبد الله، لم يكن أمرا عارضا أو ظرفيا، وإنما هو عنصر أساسي من عناصر قيام الدولة الدينية في بلد متعدد في كل شيء، ويرفض ويقاوم بإستمرار تجاهل أو سحق هذه التعددية. فمن شدة وعنف رفض الآخر للدولة الدينية، تأخذ الدولة الدينية في السودان شدتها وعنفها.
المرحلة الثالثة 1969 – 1985
هذه الفترة تشمل علاقة الحركة الإسلامية بالدكتاتور جعفر نميري، من المواجهة المسلحة ضده إلى المصالحة معه. ففي المقاومة المسلحة ضد نظام جعفر نميري الذي بدأ بوجه يساري صارخ، كان الإسلاميون هم رأس الرمح. وقد تحالفوا مع (حزب الأمة) والجناح غير الطائفي من الحزب (الإتحادي الديمقراطي) بقيادة الشريف حسين الهندي. ولم يكن ذلك التحالف سوي تحالف تكتيكي مرحلي هش, لكل عنصر من عناصره أجندته الخاصة. فبينما كان حسين الهندي يعمل صادقا لإعادة الديمقراطية، كانت الحركة الإسلامية تحلم بإقامة الدولة الإسلامية الحديثة. أما (حزب الأمة)، وبحسب مأزقه التاريخي الذي ذكرناه، فقد كان عليه إن يقول للدولة الديمقراطية التعددية نعم، وإن يقول للدولة الإسلامية الراديكالية الشمولية أيضا نعم. ولو كتب لمحاولة (الجبهة الوطنية) عام 1976 أن تنجح، لحدثت المواجهة بين الدولة الدينية والدولة العلمانية في ذلك التاريخ المبكر.
مثلت مواقف أطراف هذه الجبهة من موضوع المصالحة مع نظام نميري، الاختلافات الجذرية بين هذه الأطراف. حيث ثبت الإتحاديون علي موقفهم المعارض للدكتاتورية باعتبار أن قضيتهم هي إستعادة الديمقراطية، ودخل (حزب الأمة) المصالحة ثم انسحب منها تمشيا مع التذبذب الناشئ من المأزق التاريخي الذي تطرقنا إليه سابقا. أما الحركة الإسلامية فقد وجدت في النظام الدكتاتوري ضالتها بعد أن غير وجهه الإشتراكي بوجه برجماتي ثم بدأ يميل إلى لبس قناع إسلامي. ولعل ما جذب الحركة الإسلامية إلى نظام نميري هو جرأته علي حمل الشعب السوداني وقسره علي كل ما يراه الدكتاتور القائد جعفر محمد النميري.
إستمرت الحركة الإسلامية جزءأ من النظام الدكتاتوري حتى الأسابيع الأخيرة من عمره. وظهر خلال هذه المرحلة، تكتيك الحركة الإسلامية تجاه الطائفية. فهم يستعينون بالطائفية الدينية لدحر اليسار، كما حدث أول عهد نميري، ثم هم مع تحطيمها وزوالها في سبيل إقامة الدولة الإسلامية. أما إستراتيجيا فإن ضعف الطائفية دائما فرصة للحركة الإسلامية لسحب البساط من تحتها وإزاحتها من الطريق لتتولي هي قيادة الدولة الدينية وليس الطائفية. وقد قال الدكتور حسن الترابي مبررا إندماج الحركة في نظام نميري الدكتاتوري وفاضحا لإستراتيجيتها تجاه الطائفية :
(مهما كانت من سياسيات اتخذتها مايو" يقصد نظام نميري " إزاء الطائفية، فقد إنكسرت شوكتها وتهيأت حركة سياسية نحو الإسلام مبرأة عن الجمود والقيود، وتتجه نحو المستقبل وتنفتح للأمة الموحدة ) . ولعل هذا من الأسباب التي جعلت (حزب الأمة) يتراجع عن المصالحة للحاق بركب المعارضة مرة أخرى والمطالبة بالديمقراطية.
أخطر ما في هذه المرحلة هو أن الحركة الإسلامية قد فقدت فيها عنوإنها. فدخلت عناصرها في مؤسسات السلطة بما فيها (الإتحاد الإشتراكي). ولم يعد لها كيإن معلن يميزها عن النظام باستثناء (جماعة الفكر والثقافة الإسلامية)، التي قامت عام 1981 برئاسة بروفيسور مدثر عبد الرحيم. وحتى هذه فقد ضمت خليطا من التيار الديني بما فيهم الصادق المهدي، زعيم (حزب الأمة) نفسه.
إندفع الدكتاتور جعفر نميري وقد ركبه الهوس الديني، يفعل ما كانت تتمنى الحركة الإسلامية، لو إنها كانت الفاعلة، فأعلن تطبيق الشريعة الإسلامية فيما عرف بقوإنين سبتمبر 1983، وقتل محمود محمد طه وتجاوز المؤسسات وأعلن الطوارئ وأقام محاكم الطوارئ وفصل الآلاف من العمال المضربين عن العمل وفصل القضاة من الخدمة.
في كل ذلك، كان دور الحركة الإسلامية هو إخراج وصياغة المبررات الإسلامية لتصرفات الرئيس. فعندما أعلن الرئيس حالة الطوارئ بادر الدكتور الترابي ليقول: (إن في الإسلام طوارئ حتى في العبادات، كقصر الصلاة وإسقاط الصوم عن المسافر. وأن النبي صلي الله علية وسلم قد أعلن حالة الطوارئ يوم فتح مكة وكذلك أبو بكر رضي الله عنه عندما حارب مإنعي الزكاة).
المرحلة الرابعة 1985 – 1989
مجرد حسن الحظ، هو الذي أنقذ الحركة الإسلامية من مغبة حمل بعض أوزار العهد الدكتاتوري بعد إنتفاضة أبريل 1885 التي أطاحت به. فقد تدخلت الولايات المتحدة بقوة للضغط علي نميري ليتخلي عن تطبيق الحدود الشرعية. وكان هذا يعني تحريض نميري ضد الإسلاميين. وكان نميري، أواخر 1984 كالغريق الذي يبحث عن طوق للنجاة. فقد قابلت الدول الإسلامية وخاصة المملكة العربية السعودية، إعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان ببرود لم يتوقعه. أما مصر، فقد رأت في خطوة نميري تشجيعا مؤثرا للجماعات الإسلامية المنادية بتطبيق الشريعة في مصر. بالإضافة لهذه الصعوبات الخارجية، كان النميري يعاني صعوبات داخلية خطيرة في الإقتصاد. كما أن الحرب الأهلية قد تفجرت في الجنوب بشراسة بعد عشر سنوات من السلام. لكل هذا كان النميري مستعدا للتضحية بأصدقائه الإسلاميين إن كان ذلك سيجلب له رضا الولايات المتحدة ورضا مصر ورضا السعودية. فقد كانت عزلته قاتلة. وبالفعل فقد بدأ نميري إجراءاته التعسفية وشرعت أجهزته الأمنية في اعتقال زعمائهم إلا إن الإنتفاضة الشعبية لم تمهله فألقت به وبنظامه في مزبلة التاريخ في أبريل 1985 .
خرج الإسلاميون أو قادتهم بالأصح من سجون نميري قائلين:
(نحن أول من دخل سجون الدكتاتور وأول من خرج منها). ولم تكن هذه الحجة الواهية لتجدي لولا إن الحركة الإسلامية قد خرجت بمكاسب ضخمة من خلال مشاركتها في سلطة نميري لما يقارب العشر سنوات. فقد تغلغلت الحركة في الجيش والأمن وأمسكت بزمام الإقتصاد والإعلام في السودان.
خرج الإسلاميون من خلال تجربة إشتراكهم في سلطة النميري، بما أكد لهم عمليا، إن تطبيق الشريعة في السودان لا يتأتى إلا عن طريق سلطه شمولية دكتاتورية. فالمعارضة التي واجهتها القوإنين الإسلامية من داخل مؤسسات النظام الشمولي نفسه، علي عهد نميري كانت أمرا لا يمكن للحركة الإسلامية الاستهإنة به. ولولا دكتاتورية نميري المطلقة لما أمكن تمرير تلك التشريعات في مجلس الشعب. فقد وقفت عناصر حزب السلطة نفسه، (الإتحاد الإشتراكي) ضد تلك التشريعات كما وقف الجنوبيون الذين صالحوا النظام في إتفاقية أديس أبابا عام 1992 ضدها. وشهد مجلس الشعب مواجهه حقيقية بين الدولة الدينية والدولة العلمانية عام 1983.
هذه التجربة في محاولة تمرير التشريعات الإسلامية علمت الإسلاميين أنه لابد لهم من ضمإن تأييد الجيش ولابد لهم من الإمساك بزمام الإقتصاد والإعلام إن هم أرادوا تحقيق هدفهم النهائي وهو إقامة الدولة الإسلامية النموذج في السودان. وقد فعلوا الأمرين بنجاح خلال مشاركتهم في نظام نميري.
جاءت نتيجة أول إنتخابات بعد سقوط الدكتاتور نميري عام 1986 لتزيد الإسلاميين ثقة في إنفسهم إذ إنهم ، بغض النظر عن أقوال خصومهم حول الأساليب التي مارسوها أثناء عمليات التصويت وقبلها، قد احتلوا المرتبة الثالثة بعد أكبر حزبين في البلاد وصاروا رقما سياسيا لا يمكن تخطيه. كل هذه النجاحات جعلت الحركة الإسلامية تعمل علنا، أثناء الفترة الديموقراطية، للسيطرة علي الجيش وتجاهر بالتقليل من شأن الديمقراطية العلمانية في صحفها السيارة وتعد عدتها للإستيلاء علي السلطة .
كان الأمر في السودان في الفترة ما بين عامي 1986 – 1989 يشبه من عدة وجوه أجواء ألمإنيا أواخر الثلاثينيات، والحزب النازي يعد عدته علنا لوأد الديمقراطية ولا توجد قوة قادرة علي تغيير القدر المحتوم. فإذا أضفنا إلى ذلك إن الحركة الإسلامية قد بان لها خطأ حساباتها بشأن قوة الطائفية، واتضح لها بإن تجربة نميري الطويلة المتنوعة من الإشتراكية إلى الإسلام لم تكسر شوكة الطائفية أو تنهي سيطرتها علي الشارع الإسلامي في السودان، فإن الحركة الإسلامية لاشك قد صارت أكثر قناعة في تلك الفترة، بإن الطريق إلى الدولة الإسلامية لا يمر مطلقا بالبرلمان وصناديق الإقتراع، ولابد من وازع السلطإن.
وأخيرا جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما وقع زعيم الحزب (الإتحادي الديمقراطي) إتفاقية سلام مع زعيم (لحركة الشعبية لتحرير السودان) في أديس أبابا عام 1988. فقد رأت الحركة الإسلامية في هذه الإتفاقية الخطر، كل الخطر علي مخططاتها لإقامة الدولة الإسلامية في السودان. هنا تحركت الحركة الإسلامية لنسف الدولة العلمانية التي حاول الميرغني وقرنق وضع حجر أساسها في أديس أبابا عام 1988.
المرحلة الخامسة ( 1989 – 2000 )
هذه هي مرحلة إقامة النموذج . نموذج الدولة الإسلامية في العصر الحديث . لقد ظلت الحركة الإسلامية الراديكالية العالمية، وظل جهد قادتها، منذ حسن البنا إلى حسن الترابي، تجريدا نظريا حول وجوب إقامة الدولة الإسلامية ووصفا إنشائيا للخير العميم المرتجي للمسلمين من إقامة هذه الدولة، وظل التنظير الإسلامي يعوزه النموذج الحي في العصر الحاضر، كان الشيوعيون يمدون سبابتهم تجاه الإتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية وحتى الصين وكوريا, نمإذج حية وواقعية لما يدعون الجماهير إليه. وكان اللبراليون يؤشرون تجاه أوربا الغربية والولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، نمإذج لما يصبون إليه. أما الإسلاميون، فقد ظل نموذجهم الذي يشيرون إليه هو التاريخ. دولة الرسول (ص) في المدينة، عدل عمر بن الخطاب وعدل عمر بن عبد العزيز. وبين المواطن البسيط والمتعلم وبين هذا التاريخ المجيد تقف العديد من عهود الظلم والإنحطاط منذ الأمويين وحتى خلافة الأتراك العثمإنيين التي حاربها السودانيون في الثورة المهدية. ومقابل عدل عمر بن الخطاب وعدل عمر بن عبد العزيز، يستطيع أي خصم سياسي أن يعدد عشرات الخلفاء الظلمة الجائرين.
نعم، كان لابد من نموذج يثبت إن الإسلام كنظام دولة صالح لكل زمإن ومكان. وكانت الحاجة لنموذج لا تخص الحركة الإسلامية السودانية وحدها، بل هي الهم الذي يؤرق الحركة الإسلامية العالمية. وكانت الحركة الإسلامية السودانية وبلدها السودان هما الإنسب والأقرب لإقامة النموذج الإسلامي العصري. لماذا؟
أما من ناحية الحركة الإسلامية السودانية فهي الوحيدة من بين مثيلاتها التي تمرنت علي السلطة في عهد جعفر محمد نميري (1975 – 1985). وهي الحركة الحيدة التي صارت حزبا شرعيا ضمن عهدين ديمقراطيين، مارست خلالهما طرح أفكارها وبرامجها جماهيريا، واحتكت مباشرة مع قضايا الشعب متخطية مرحلة الخطاب الصفوي إلى الخطاب السياسي العام. وهي الحركة التي صارت رقما سياسيا في بلدها من خلال الكسب الجماهيري عبر صناديق الاقتراع. لكل هذا فهي الحركة الأكثر تأهيلا علي مستوي العالم الإسلامي لإقامة النموذج العصري، خاصة وإن النموذج الإيرإني الشيعي ليس هو النموذج المطلوب، كما إن نموذج آل سعود ليس هو حلم الحركة الإسلامية الراديكالية.
أما من ناحية موطن الحركة الإسلامية السودانية، السودان، فهو الآخر أقوي الأقطار الإسلامية حظا في إقامة الدولة النموذج. فالسودان لا يزال مشروع جمهورية لم يتفق بعد علي نظام الحكم فيها. والقومية السودانية لا تزال أمر مشكوك فيه لعدم حسم قضايا البلاد المصيرية. وهذا يعني إن السودان بخلاف كل الدول العربية والإسلامية، لم يحسم أمر السلطة فيه بعد، إذ أن السلطة في السودان لم تؤول إلى فئة محدد، هي صاحبة السلطة فيه. فمعظم الدول العربية والإسلامية، للسلطة فيها أصحاب، يصعب إنتزاعها من أيديهم، سواء كان هؤلاء أسرا مالكة مثل السعودية والمغرب والأردن ودول الخليج، أو حزبا سياسيا مثل العراق وسوريا والجزائر ( إنذاك)، أو مؤسسة عسكرية مثل مصر وسوريا وتركيا وليبيا. فالسودان هو بلد السلطة غير المحروسة بأسرة أو جيش أو حزب أو دستور. فهو البلد الوحيد الذي من السهل الوصول للسلطة فيه بإنقلاب عسكري. وقد اثبت الدكتور حسن عبدالله الترابي، قائد الحركة الإسلامية منذ ظهورها علي المسرح السياسي السوداني، أثبت إن هذا الأمر، أمر استلام السلطة قد جرت حوله نقاشات مطولة داخل الحركة:
(فدارت مناظراته حول محاور شتي منها - المناظرة بين إستراتيجية التمكين أو الأخذ العام وإستراتيجية التدرج أو الأخذ علي تخوف، أي بين الذين يرون إن منهج التحول الإسلامي الأسلم هو قيام الحركة بديلا موازيا ومتميزا عن النظام الحزبي القائم ثم مواجهته وإجتثاثه جملة واحدة وتولي خلافته السياسية، والذين يرون بلوغ نفس النتيجة من خلال إدخال التحولات في السياق القائم شيئا فشيئا بما يربي الجماعة ويؤهلها تدريجيا علي تحمل المسئوليات الكبرى، وبما يهيئ البلاد والعالم من حولها لاستقبال صدمة التحول وبما يبعض ردة الفعل )
هذا هو مشروع الدولة الدينية في السودان يتحرك في تجليه الثالث بعد دولة الخليفة عبد الله التعايشي ودولة أمير المؤمنين نميري، لإجتثاث مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية ضمن علاقة الإجتثاث التي ميزت المشاريع السياسية الثلاث الكبرى التي تقسمت حولها الحركة السياسية السودانية منذ نشأتها.

استنتاجات
1 - ظل مشروع الدولة الدينية بقيادة طائفة الأنصار، متقوقعا علي نفسه ومعزولا ومحروما من أي بعد إسلامي خارجي أو بعد عربي. وقد لازمته هذه الحالة من التقوقع في كل مراحله الأنصارية حتى ورثت قيادته الحركة الإسلامية الحديثة في سياق بدأ ضعيفا عام 1954، وتدرجيا مصالحا عام 1964، فعدائيا عام 1976، ثم إنقلابيا عام 1989.
2 - إستطاعت الحركة الإسلامية الحديثة إن ترتفع بمستوي الخطاب الديني من تكريس الولاء الطائفي إلى آفاق الحركة الإسلامية العالمية، بل إن أجزاء كثيرة من الحركة الإسلامية العالمية قد دانت قياديا للحركة الإسلامية السودانية في أواخر الثمانينات.
علي صعيد ممارسة الحكم فعليا في السودان، فقد أثبتت الحركة الإسلامية تفوقها علي القيادات التقليدية للمشروع الديني في السودان حيث إستطاعت أن تتحدث، من موقعها علي السلطة ، لغة العصر وهي اللغة المبنية علي المعلومات وعلي الجهود الإستخبارية، هذه اللغة التي لا تزال القيادة الطائفية الأنصارية تفتقر لها حتى اليوم. فبعد الإطاحة بسلطة نميري الدكتاتورية، عارضت (الجبهة الإسلامية القومية) حل أجهزة النظام البائد الأمنية. وكان هذا موقفا سليما إذ أن المعلومات لا أيديولوجية لها، كما أن أجهزة الأمن لا أيديولوجية لها أيضا, و إنما هي أداة من أهم أدوات إقامة السلطة، أي سلطة، ومن أهم وسائل مخاطبة العالم الخارجي العصري بلغته . وقد إستطاعت الحركة الإسلامية أن ترث كل جهاز نميري الأمني، وذلك باحتواء قادة ذلك الجهاز وضمهم كأفراد إلى (حزب الجبهة القومية الإسلامية). وقد يكون هذا هو أحد عوامل فوز الجبهة بعدد من الدوائر الإنتخابية ما كان منظورا أن تفوز بها، كما كان بالتأكيد عاملا رئيسيا في نجاح إنقلابها العسكري. لقد كانت الجبهة الإسلامية تعي، من خلال المعلومات الإستخبارية التي ورثتها، ومن خلال العناصر الأمنية عالية التأهيل، الني ضمتها إليها، كانت تعي بان إستيلائها علي السلطة في السودان سوف يجر عليها حربا علي المستوي الإقليمي والدولي، لا قبل لها بها. وهذا هو السر رواء إخفائها للوجه الإسلامي لإنقلابها عام 1989، والإستمرار في إنكار علاقتها بالإنقلاب حتى أواخر التسعينيات. كما أن توفر المعلومات الإستخبارية هو الذي جعل حكومة إنقلاب الجبهة تفتح أبواب السودان للأفغان العرب الذين تجمعوا في بيشاور في باكستان بعد انتهاء الإحتلال السوفيتي لأفغانستان، وقد رفضت جميع الدول العربية دخول أي عنصر منهم لأراضيها. ففي ذلك الوقت، وخاصة بعد المحاولة الإنقلابية الخطيرة ضد حكومة إنقلاب الجبهة الإسلامية، وهي في شهورها الأولى، والتي قادها نفر من خيرة ضباط الجيش السوداني في أبريل عام 1990، في ذلك الوقت كانت الجبهة الإسلامية تعي حوجتها الماسة لحراس للسلطة مسلحين بالأيديولوجيا الإسلامية الراديكالية لتثبيت النظام. وكان الأفغان العرب بقيادة المهندس السعودي الثري، أسامة بن لادن، هم أصلح من يقوم بتلك المهمة، مهمة حراسة نظام الجبهة الوليد.
3 - لقد إنتصر داخل الحركة الإسلامية رأي الذين يرون (أن منهج التحول الإسلامي الأسلم هو قيام الحركة بديلا موازيا ومتميزا عن النظام الحزبي القائم، ثم مجابهته ] وإجتثاثه جملة واحدة وتولي خلافته السياسية [ ). وأنا هنا أنقل كلمات الدكتور حسن عبد الله الترابي قائد الإسلاميين منذ أن بدءوا يصيرون رقما في الساحة السياسية السودانية، لا يفوتني أن اذكر أن الحركة الإسلامية السودانية، وهي تقرر الإستيلاء علي السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري ، ثم إجتثاث النظام الديمقراطي العلماني، قد أخطأت قراءة التاريخ الحديث للتجربة السياسية السودانية مرتين:
المرة الأولى هي إستحالة محو أو إزالة أو (إجتثاث) العهود التاريخية أو المشاريع السياسية، كما توضح القراءة الأولية للتجربة السياسية السودانية.
والمرة الثانية هي أن القراءة الأولية أيضا للإنقلابات العسكرية في السودان تزودنا بنتيجة بسيطة يمكن إستنتاجها من تجربة إنقلاب الفريق إبراهيم عبود وعلاقته بحزب الأمة وإنقلاب المشير جعفر نميري وعلاقته بالحزب الشيوعي السوداني، وتفيد تلك النتيجة البسيطة المستنتجة من هاتين التجربتين، بان أي حزب سياسي يعمل علي تحقق مشروعه السياسي أو إجهاض المشروع المناوئ عن طريق الإنقلاب العسكري، فان هذا الحزب وخلال فترة زمنية وجيزة يتحول إلى العدو رقم واحد للسلطة العسكرية التي أتى بها، ثم لا يلبث هذا الحزب أن يجد نفسه مضطرا للإسهام في المعارضة، الداعية لإسقاط النظام العسكري الذي أتى به هو نفسه إلى السلطة.
ففي حالة إنقلاب عبود وحزب الأمة، لم تمر سنتان كاملتان، حتى أضطر حزب الأمة إلى أن يعلن معارضته للسلطة العسكرية التي أتي بها هو نفسه إلى الحكم . ففي عام 1959 بعث السيد الصديق المهدي، راعي حزب الأمة بمذكرته الشهيرة للمجلس العسكري الحاكم مطالبا بإستعادة الديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته, كما أن أول صدام بين المعارضة السياسية والسلطة العسكرية قد وقع بين الأنصار وعسكر النظام في ما عرف بأحداث المولد النبوي، حيث تحرش بوليس النظام العسكري بالأنصار وأطلق النار عليهم عام 1961 مما نجم عنه مقتل ثمانية من رجال البوليس واستشهاد اثني عشر رجلا من أنصار حزب الأمة
ومع ذلك فقد كانت خسائر حزب الأمة من جراء تقويضه للنظام الديمقراطي الأول طفيفة ومحدودة الآثار. ويعود ذلك في تقديرنا إلى أن حزب الأمة، إما أنه لم يحاول الإشتراك في السلطة مع العسكر الذين أتى بهم، أو أنهم لم يسمحوا له أن يشاركهم السلطة أو يحاول من خلالهم أن يفرض علي السودان مشروعه السياسي. ولهذا نجد إن ما حدث للحزب الشيوعي السوداني من جراء تقويضه للديمقراطية الثانية هو كارثة بكل المقاييس، وذلك بسبب مشاركة الحزب الفعلية في سلطة الإنقلاب ومحاولته فرض مشروعه السياسي علي مستقبل السودان. وقد شهد العالم كله كيف تحول الحزب الشيوعي للعدو رقم واحد للعسكر الذين أتى بهم وكيف تعرض الحزب لبطش السلطة الدكتاتورية، فاعدم قادته ودكت معاقله وسط الطلاب والمزارعين ومحي من الوجود حلم الإشتراكية العلمية التي كان ينادي بها الحزب . كما أن الحزب نفسه قد تعرض للإنقسام والاضمحلال .
هاتان التجربتان تزوداننا في هذا التحليل بقانون يقول بان أي حزب سياسي يقوض النظام الديمقراطي عن طريق الإنقلاب العسكري ساعيا لإجهاض المشروع المناوئ أو فرض مشروعه السياسي، فان هذا الحزب لا بد له من أن يصطدم بالعسكرالذين أتي بهم ويتحول إلى ألد أعداء النظام. وكلما زادت نسبة مشاركة الحزب في السلطة الدكتاتورية، زاد الضرر المترتب عليه عند الإصطدام. وهذا ما فشلت الحركة الإسلامية السودانية في قراءته عندما قررت الإستيلاء علي السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري، فالإنقلاب العسكري لا يجلب للأحزاب السياسية سوي الإنقسام والاضمحلال.
4 - بعد الإستعراض السابق لتحولات مشروع الدولة الدينية منذ عهد الحليفة عبد الله التعايشي (1885– 1898) وحتى عهد الحركة الإسلامية الحديثة، يتبين لنا أن هذا المشروع السياسي صعب الإستمرار إذ قيض له أن يتحقق و يتجلي علي السلطة. هذا علي الأقل ما نستخلصه من هذا الإستعراض في النقاط الآتية:-
ا/ أن مشروع الدولة الدينية لا يتحقق في السودان ألا من خلال القوة والقسر وتقييد الحريات. هذا ما تقول به كل تجليات هذا المشروع علي السلطة سواء في عهد المهدية ودولة الخليفة عبد الله أو في محاولة نميري أسلمة الدولة في منتصف السبعينات أو في إستيلاء الحركة الإسلامية علي السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري مؤخرا. ولعل السبب وراء ذلك يرجع إلى فعالية القوة المناوئة للدولة الدينية في السودان. فقد نجحت تلك القوة المناوئة في إجهاض المشروع الديني الإسلامي منذ الإستقلال وحتى ألان ثلاث مرات متتالية. الأولى هي إجهاض محاولة أسلمة الدستور عام 1957 والتي نادت بها (الجبهة الإسلامية للدستور) والتي عملت كهيئة ضغط علي الأحزاب ولم تنجح. والمرة الثانية عندما نجحت هذه القوة المناوئة للدولة الدينية في إيقاف أسلمة الدولة من خلال الدستور الإسلامي عام 1968 الذي أجهضه إنقلاب نميري عام 1969. والثالثة هي الإطاحة بسلطة نميري في إنتفاضة أبريل عام 1985.
ب/ ظلت التجارب السياسية الإسلامية في السودان علي اختلاف تفاصيلها، عرضه للعزلة إقليميا ودوليا وهذا ما ظل يساعد علي إسقاطها دائما. فالدولة المهدية قد فشلت كما رأينا عند تنأولها، في خلق عمق إقليمي إسلامي يرد عنها هجمات القوي العالمية الساعية لتدميرها، بل إن العالم الإسلامي وقلبه النابض مصر قد سعي بصورة سافرة إلى تحطيم التجربة الإسلامية السودانية الأولى.
ج/ ونفس المصير واجهته تجربة نميري الإسلامية (1976 - 1985). فهي لم تسطع أن تكسب سوي عداء العالم وإستخفاف، إن لم نقل عداء إقليمها العربي والإسلامي. وكان النميري قد بني حساباته السياسية علي تصور خاطئ عندما أعلن تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983. فقد ظن أن(قرار الشريعة سيشجع دول الخليج والسعودية علي وجه التحديد، علي تجديد معوناتها إلى السودان وأن القرار سيسعد الأمريكان لان السودان سيكون سدا منيعا يحمي المنطقة من المد الشيوعي وسيفصل رباط التواصل بين ليبيا وأثيوبيا) . غير أن النتيجة قد جاءت عكس ما توقع النميري تماما. فكانت نتيجة إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية عزلة كاملة دولية وإقليمية مما عجل بترنح وسقوط نظامه عام 1985.
د/ ولم يلق التجلي الثالث للدولة الإسلامية الدينية علي السلطة وضعا إقليميا ودوليا افضل مما لقيته التجربتين السابقتين. ونعني بذلك التجربة الإسلامية الراهنة التي بدأت عام 1989. ولا نعتقد أن هذا الأمر كان خافيا علي قادة الحركة الإسلامية السودانية وهم يخططون للإستيلاء علي السلطة. فقد اتضحت خشيتهم من مصير التجربتين السابقتين عندما حاولوا إخفاء وجه النظام الديني في بداية إستيلائهم علي السلطة عام 1989. بل ظلوا يموهون وحتى يكذبون صراحة نافين علاقة الحركة الإسلامية بالإنقلاب لعدة سنوات بعد وقوعه. وما أن عرف العالم الوجه الحقيقي للسلطة الجديدة في السودان حتى بدأت علاقاتها تتعقد إقليميا ودوليا وفرضت عليها العزلة والعقوبات والتحرشات ومحاولات الإسقاط.
ولعل هذا ما جعل الشعار الإسلامي في السودان يزداد ضبابية وغموضا كلما اقترب المشروع السياسي الديني من التحقق. فقد بدأت الحركة الإسلامية الحديثة في السودان بشعار واضح ذي هدف واضح هو شعار (الدستور الإسلامي) وذلك عندما كانت بعيدة جدا عن السلطة. ولما اقتربت الحركة الإسلامية من السلطة، بل شاركت فيها عمليا في أواخر عهد الدكتاتور نميري، تحولت الحركة الإسلامية إلى شعار غامض لا يحدد هدفا واضحا ولا يلزم السلطة بتوثيق دستوري جديد أو تعديل لدستور قديم فجاء شعار: (تحكيم شرع الله) لإثارة العاطفة الدينية العامية وابتسار أسلمة الدولة في حزمة من القوانين الجنائية وإجتهاد صغار القضاة لإرهاب المعارضة السياسية. ومقارنه بالشعار السابق فان الشعار الجديد يحمل الكثير من فقدان الإحترام لتجربة الشعب السوداني السياسية.
أما حين إستولت الحركة الإسلامية علي السلطة بالإنقلاب في يونيو 1989 فان شعارها الجديد قد أوغل في الضبابية وعدم التحديد لدرجة تفقده الصلة بهدف الحركة الإستراتيجي وهو تطبيق الإسلام . فقد جاء الشعار يقول : (التوجه الحضاري). وما يقال عن مسمي الحركة نفسها هو عين ما قلنا عن شعارها فقد كان مسمي التنظيم هو (الإخوان المسلمون) عندما كانت الحركة بعيدة عن السلطة. ولما اقتربت من السلطة ومارست السياسة غيرت إسم تنظيمها إلى (جبهة الميثاق الإسلامي) عام 1964. وفي التكوين التنظيمي لمسمي (الجبهة) فقدان كبير لعنصر النقاء الأيديولوجي لأن (الجبهة) تعني تحالف فصائل مختلفة يجمع بينها هدف مرحلي. ولما شاركت الحركة الإسلامية في السلطة فعليا في نظام الدكتاتور نميري خلال الفترة من عام 1976 الى 1985، فقدت الحركة تنظيمها وذابت في النظام وصارت بلا عنوان محدد. أما في الديمقراطية الثالثة بعد سقوط النظام الدكتاتوري في أبريل 1985، ففد أعادت الحركة إسم (الجبهة) لتنظيمها مع إضافة كلمة (قومية) فصار الإسم (الجبهة القومية الإسلامية) وفي هذه الإضافة فقدان المزيد من النقاء الأيديولوجي بإدخال عنصر (القومية) سببا للإنتماء إلى التنظيم. حتى إذ ما إستولت الحركة علي السلطة بالإنقلاب عام 1989، إبتكرت لتنظيمها السياسي إسما لا يدل علي أي إرتباط بالإسلام أو بأي دين وهو (المؤتمر الوطني). ولعل كل هذا التباعد الممرحل عن ذكر الإسلام علي مستوي الشعار وعلي مستوي التنظيم، قد حدث تهربا من مواجهة الضغوط والعزلة وحتى الحرب ضد الدولة الإسلامية. وهذا الإنغماس في محاولات إخفاء الوجه الإسلامي للدولة، قد يؤدي بالسلطة الإسلامية في نهاية المطاف إلى الإرتماء في أحضان أعداء الدولة الإسلامية، كما أن هذا النهج يخلق إزدواجية في الخطاب السياسي، ناتجة عن التناقض بين الممارسة الفعلية للسلطة في الداخل بإسم الإسلام وبين الشعار المرفوع المتبرئ من الإسلام لتضليل العالم، مما يوقع التجربة كلها في مخاطر الإنقسامات والتشرزم ثم التصادم بين عناصرها المنقسمة علي نفسها.
ه/ ظلت العزلة التي تضرب إقليميا ودوليا حول تجليات الدولة الدينية في السودان تدفع بها دائما إلى الإغراق في محليتها في محاولة للإحتماء بالشعب السوداني. وهنا يجنح الخطاب السياسي والإعلامي لمطابقة العودة إلى التراث الإسلامي مع العودة إلى التراث الشعبي المحلي. من هنا تأتى أسباب ذلك الخطاب الثقافي الشوفيني الفقير الذي يضخم فضائل الشخصية السودانية ويتغني بتفرد الإنسان السوداني وشجاعة السوداني .....الخ، في محاولة لتأسيس حماس عامي أمي محلي معاد للعالم، إذ أن علي العالم، بحسب هذا الخطاب، أن يأتي صاغرا طالبا الهدأية والرشد علي يد الشعب السوداني.
و/ يلاحظ من الإستعراض السابق لتحولات مشروع الدولة الدينية من المهدية (1885 – 1889) وحتى سلطة الإنقاذ الإسلامية الحالية، أن هذا التيار السياسي الكبير في السودان، قد ظل، وفي جميع مراحله، عاجزا عن طرح تصور عادل متماسك لمسألة السودانيين غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية السودانية. وهذه معضلة حقيقية وسبب رئيس لصعوبة تحقق هذه الدولة في السودان. فمن وجهة نظر أصولية بحتة، فان علي غير المسلم الذي يعيش في(دار الإسلام)، أن يؤدي الجزية ويبقي علي دينه إذ كان كتابيا (مسيحي أو يهودي)، أما غير الكتابي فلا مكان له في ديار الإسلام، وهذه معضلة حقيقية يمثلها بوضوح وضع جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. وعلي الرغم من تعامل التيار الديني في قاعدته الوسطية (حزب الأمة) مع هذه المعضلة بالتسويف والتجاهل، إلا أن الحركة الإسلامية الحديثة قد سعت في بعض المراحل، ( بعد إتفاقية أديس أبابا 1972) إلى التحريض ضد الجنوب ومحاولة تجميع المعارضة، ليس ضد السلطة فحسب، وإنما ضد الجنوب في المقام الأول، وقد أشار عبد الوهاب الأفندي المحسوب علي الإسلاميين سياسيا، إلى أن هذا الأمر قد طرح للنقاش منذ عام 1974 علي أيام (الجبهة الوطنية) المعارضة لسلطة نميري. قال ألا فندي:
(بدأت المناقشات عام 1974، عندما اقترح "الإخوان المسلمون" برنامجا لتكوين منظمة إسلامية عريضة تضم كل الفصائل الرئيسة في السودان، دون المشاركة الجنوبية. فيما يبدو برر "الإخوان المسلمون" الدعوة لجبهة إسلامية متحدة علي أساس الحاجة لمجابهة " التحدي الجديد من الجنوب الذي طالب الشمال بوحدة الدفاع عن مصالح الشمال وهويته الثقافية ضد تغول التبشير المسيحي الإمبريالي العنصري".
هذا هو موقف الحركة الإسلامية السودانية من معضلة السودانيين غير المسلمين عندما كانت بعيدة عن السلطة وجزءا من العارضة. وكان الجنوبيون في السلطة حقيقة سواء في الشمال أو في الجنوب بعد إتفاقية أديس أبابا عام 1972 .
وعندما تصالحت الحركة الإسلامية مع نميري وشاركته في السلطة، فقد عملت جهدها لإضعاف الجنوب ودفعت نميري دفعا للنكوص عن إتفاقية أديس أبابا والي إعادة تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث وحدات إدارية، مما اعتبره الجنوبيون محاولة لبلقنة الجنوب وإضعافه، (ووجه نميري بالمعضلة، فمن جهة يحتاج للجنوب الذي برهن علي انه السند الرئيسي لأمنه، ومن الجهة الأخرى ظل نميري تحت تهديد اليمينيين الذي كان جله موجها من المجموعات المسلحة المعارضة. وهي المجموعات التي نشطت بشكل كبير في المنفي وكانت تبرهن علي أنها تمثل خطرا متزايدا ومصدرا مؤكدا للتغيير العنيف)
عندما وصلت الحركة الإسلامية الحديثة إلى السلطة واستقلت بها، فكرت بجدية في فصل الجنوب عن الشمال. وقد أورد الدكتور فرانسيس دينق أن عبد الوهاب الافندي كشف في دراسة حديثة، وهو المحسوب علي الإسلاميين، بأنهم في وقت ما فكروا في أمر تقسيم السودان، حيث رأوا في ذلك مخرجا من معضلة الإنقسام الموروثة للحركة الإسلامية، وسبيلا للتغلب علي العقبات التي تفرضها الوحدة العادلة علي الأطروحات الإسلامية يقول الافندي:
(برزت وجهة نظر تدعو لفصل الجنوب، لان مطالب الجنوب يبدو بأنها قد أصبحت العقبة الرئيسية أمام إقامة نظام إسلامي في السودان. بينما دعت وجهة النظر المعارضة، التي انتصرت في النهاية، إلى المجابهة المباشرة للمشكلة. وإذ ما أريد للدولة السودانية أن تصبح قلعة الإسلام في أفريقيا، عليها إذن قبول التحدي بتكييف موقفها للتعامل مع الأقلية غير المسلمة)
هذا الموقف المتصاعد ضد الجنوب كلما اقتربت الحركة الإسلامية من السلطة، والذي بدأ بتحريض الحركة السياسية ضده عام 1974 ثم محاولة فصله، و أخيرا قرار" مجابهته المباشرة " التي تعني الحرب، هذا الموقف يفسر لنا الدعوة للجهاد ضد الجنوب التي كانت الإستراتيجية الوحيدة للحركة الإسلامية في بداية حكمها.
Hamid Alshaikh [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.