البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    السودان.."الولايات المتحدة" تسبق"الهجوم الوشيك" بدعوة عاجلة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراحل تطور مشروع السودان الجديد .. بقلم: حامد بدوي
نشر في سودانيل يوم 30 - 04 - 2011


1 - في العصر الإستعماري (1900- 1956م)
نرجع نشأة المشروع الحداثى العلماني، ضمن الحركة السياسية السودانية، إلى تأثير الفترة الإستعمارية التي عرفت في تاريخ السودان الحديث بالحكم الثنائي، والتي امتدت على مدى ثمانية وخمسين عاما، (1956.1898)، كما نرجعها للتطور الطبيعي للفكر السياسي الذي ينمو من خلال الاحتكاك والاطلاع على تجارب الآخرين. ويرى الباحث في تاريخ السودان الحديث ب.م. هولت بأن الإرتباط بالأفكار الغربية العلمانية العلمانية (لم يحدث للسودانيين إلا بعد تأسيس الحكم الثنائي)
ويبدو ان الأمر لم يترك لآليات الحراك الإجتماعي السياسي لبلورة الإتجاه الحداثى العلماني في الساحة السودانية. فقد عمل عدد من صانعي السياسة من الإداريين البريطانيين في السودان، مدعومين بوزارة المستعمرات، وليس الخارجية البريطانية، عملوا على تأسيس هذا التيار أو على الأقل تشجيع طرحه كأحد الخيارات لمستقبل السودان. وكان هؤلاء يرون ان السودان خلافا لمستمرات أخرى، يمكن ان يتبع خطى سيلان والهند في تأسيس نظام حكم لبرالي علماني. بل ان بعض البريطانيين قد عمل من أجل ذلك صراحة.
يقول K.D.D Henderson في كتابه:
(The Making of The Modern Sudan)
(Newbold faith in the Western democratic institutions as the best alternative instrument has been questioned by many in the Sudan, British and the Sudanese, alike, who look doubtfully at the precedents of Egypt, Syria, and Persia, but there is a quality in the Sudanese which gives reasons that they may follow in the foot steps of Ceylon, India and Pakistan (members of the Commonwealth), rather than in those of not stable states of Middle East)
(ان إيمان نيوبولد بمؤسسات الديمقراطية الغربية كأفضل وسيلة بديلة، قد نوقش من قبل العديدين في السودان بريطانيين وسودانيين على السواء، وجميعهم لينظرون بكثير من الشك إلى التجارب السابقة في مصر وسوريا وبلاد الفرس. لكن هنالك ميزة في الشعب السوداني تعطي أسبابا ترجح أنهم قد يتبعون خطى سيلان والهند وباكستان (الأعضاء في الكمونوليث) أكثر من أتباعهم خطى تلك الدول غير المستقرة في الشرق الأوسط)
وحيث ان الحركة السياسية السودانية قد إنقسمت في بداية تكوينها حول محورين كبيرين هما المشروع الإستقلالي ذو التوجه الديني والمشروع الإتحادي ذو التوجه العروبي، فانه لم يكن أمام الإدارة البريطانية في السودان، والتي لديها من الأسباب ما يجعلها ترفض كلا المشروعين، لم يكن أمامها سوى تشجيع أو حتى فرض المشروع الحداثى العلماني إذ اقتضى الأمر. فهي لم تكلف نفسها مشقة فتح السودان، لتسليمه لابن المهدى أو لملك مصر. وإنما فتحته ليرتبط بها سياسيا وإقتصاديا، عبر النظام الديموقراطي وعبر الكومونويلث.
وكان طبيعيا أن تتجه الإدارة البريطانية إلى المتعلمين المتخرجين من مدارسها الحديثة لتأسيس تيار سياسي ثالث ينادي بإستقلال السودان بعيدا عن مصر وبعيدا عن ابن المهدي. غير أن التاريخ يثبت لنا أن المتعلمين قد خذلوا التوجه السياسي البريطاني في السودان مرتين. مرة حين اختاروا التوزع بين التيارين الكبيرين، الإتحادي العروبي والإستقلالي الديني كما يتضح من حركة (مؤتمر الخريجين). ومرة ثانية بانخراطهم وقيادتهم للثورة ضد الوجود الإنجليزي في وادي النيل تجاوبا مع الثورة الوطنية المصرية ما بين عامي 1919و1924.
هكذا بدأت السلطات الإستعمارية البريطانية في البحث عن بديل للمتعلمين ليقوم بعبء الدعوة للتيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي ضمن الحركة السياسية السودانية. ومما له أهمية خاصة جدا في فهم الحركة السياسية السودانية في الوقت الراهن، أن نعي بوضوح أن الفئة الإجتماعية السياسية الثانية التي وقع عليها إختيار السلطات الإستعمارية لتقوم بعبء الدعوة للتيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي ضمن الحركة السياسية السودانية، هي فئة ساكني (الهامش الجغرافي) والأطراف (الهامش الجغرافي). فمن المعروف تاريخيا أن الإدارة الإستعمارية حين يئست من فئة الخريجين، قد تحولت إلى زعماء القبائل في الشمال والشرق والغرب والجنوب، ودفعتهم دفعا إلى تكوين (الحزب الجمهوري الإشتراكي) لينادي بإستقلال السودان بعيدا عن مصر وابن المهدي.
ولم يكن هذا الإختيار أمرا عشوائيا، فقد كانت الإدارة الإستعمارية تعتقد أن مصلحة الخريجين (المتعلمين)، كفئة إجتماعية تشكل نواة لبرجوازية صغيرة، قادرة علي إدارة البلاد، كانت تعتقد أن مصلحة هذه الفئة ترتبط بالحداثة والديموقراطية والعلمانية وإضعاف النفوذ الطائفي. ولما عميت هذه الفئة عن مصلحتها، بحثت الإدارة الإستعمارية عن الفئة الثانية التي ترتبط مصالحها بالحداثة والديموقراطية والعلمانية وتتناقض أهدافها مع أهداف التيار الإتحادي العروبي والتيار الإستقلالي الديني، فلم تجد سوي أهل (الهامش الجغرافي).
ولم يكن أهل (الهامش الجغرافي) في ذلك الزمن بأحسن حال من المتعامين. فهم أيضا قد فات عليهم فهم مغزى محاولة الإدارة الإستعمارية خلق تيار ثالث منهم. وقد أثبت هذا الفشل الإستعماري المتكرر، أن النفوذ الطائفي في السودان من التجذر والعمق بحيث إستطاع أن يهزم أماني الإمبراطورية البريطانية حول مستقبل السودان. إلا أن المحاولة نفسها تظل ذات مغذي خطير. فهذه التجربة تؤكد إرتباط مصالح أهل (الهامش الجغرافي) والهوامش بالعلمانية، بناءا علي أن غالبية أهل (الهامش الجغرافي) لا يدخلون ضمن التصنيف العرقي – الثقافي العروبي أو التصنيف الديني الإسلامي. وقد تجلت هذه الحقيقة ساطعة قبل الإستقلال بالنسبة للجنوبيين، وبعد الإستقلال بالنسبة لأهل جبال النوبة وشرق السودان وغربه، فبدءوا في تكوين أحزابهم وروابطهم وإتحاداتهم السياسية بعيدا عن التيارين الكبيرين، الإتحادي العروبي والإستقلالي الديني.
ومع كل هذا الفشل الذي لازم محاولات النهوض بالمشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي وسط الحركة السياسية السودانية، إلا أن هذا المشروع قد إنتصر في نهاية المطاف ولم ينل السودان إستقلاله أول عام 1956 إلا تحت رايته. غير أن انتصار الإتجاه الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي عشية الإستقلال، لم يجيء نتيجة لقوة التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي وسط الحركة السياسية السودانية. وإنما جاء نتيجة لتطورات ضخمة ومتغيرات خطيرة، قادت لإنتصار هذا الإتجاه السياسي الذي أخذ السودان إستقلاله تحت رايته. فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر فيما يخص العلاقات الإتحادية - المصرية، عشية إستقلال السودان. حيث بدأ الإتحاديون يتملصون علنا من الدعوة للإتحاد مع مصر وبدأت الصحف المصرية الرسمية تهاجم الزعيم الإتحادي إسماعيل الأزهري. وكما أوضحنا سابقا فإن الإتحاديين لم يستسيغوا أو يهضموا مطلقا الخطاب السياسي الجديد لمصر الناصرية بسبب تجذر حركتهم في عمق الطبقة الوسطي التجارية في المدن السودانية، والتي قامت في ظلها الصلات القوية بين القيادة الإتحادية والساسة المصريين قبل قيام الثورة في يوليو عام 1952. فإذ تذكرنا بان العلاقات المصرية الإتحادية كانت في ظل العهد العلماني في مصر والذي أفرزته الثورة البرجوازية التجارية في مصر، فإننا يمكن أن نتفهم بسهولة أن عناصر الطرد بالنسبة للإتحاديين بعيدا عن مصر الناصرية كانت أقوي من عناصر الجذب عشية إستقلال السودان.
وهذا التطور يعني بالضرورة تقاربا إتحاديا - بريطانيا، خاصة إذا تذكرنا بان غالبية المتعلمين (أعضاء مؤتمر الخريجين) كانوا إتحاديين. لهذا يمكن أن نري بسهولة بأن بريطانيا قد وجدت ضالتها في هذا التباعد الإتحادي – المصري. فقد كانت بريطانيا في الأصل تراهن علي المتعلمين من السودانيين، والذين درسوا في المدارس التي أنشأتها الإدارة الإستعمارية في السودان. وكانت بريطانيا تأمل في ان ينهض هؤلاء بالدعوة لنظام الحكم العلماني المرتبط ببريطانيا عبر الكومونويلث. وبعد أحداث ثورة 1924، فقدت بريطانيا الأمل في هؤلاء المتعلمين.
غير أن متغيرات الأحداث قد أعادت الأمل مرة أخرى للإدارة الإستعمارية البريطانية، في دور ليبرالي علماني يلعبه هؤلاء المتعلمون لتحقيق سياستها الرامية إلى (قيام سودان، حسن الحكم، مستقل عن مصر، وفي علاقات ودية مع بريطانيا، وخاضع للنفوذ البريطاني)
وخلال العامين 1953.1952، يبدو أن البريطانيين قد اقتنعوا بان إسماعيل الأزهري والإتحاديين هم الأقدر والأكثر أمانا على تنفيذ تلك السياسة البريطانية مقارنة مع عبد الرحمن المهدى و(حزب الأمة). فقد ورد في المذكرة التي نعتبرها اخطر وثيقة توضح بجلاء إتجاهات السياسة البريطانية والسودان على أعتاب الإستقلال .. ورد فيها ما يلي: (ومن المفترض أنه لا يهم حكومة صاحبة الجلالة البريطانية سواء جاء إستقلال السودان على أيدي الحزب الوطني الإتحادي أو حزب الأمة. وقد ظللنا نؤيد هذا الحزب الأخير لأنه يمثل القوة الرئيسية للسودانيين الذين يعلنون تحيزهم للإستقلال. وهنالك في حقيقة الأمر عدد من الحجج المؤيدة للرأي القائل باحتمال أن يكون الإستقلال عن طريق الوطني الإتحادي اشد خدمة لأهداف الحكومة البريطانية في السودان عن احتمال الإستقلال عن طريق حزب الأمة)
أوضح أن التحليل للفعآليات السياسية السودانية عشية الإستقلال قد هداهم إلى أن الإتحاديين لا يستطيعون إلا أن يكونوا لبراليين بعد ان فقدوا حرصهم على العلاقة الخاصة مع مصر التي منبعها الخوف من هيمنة المشروع المهدوى الديني. فمن ناحية تحولت مصر إلى الإشتراكية، ومن الناحية الأخرى، هزيم (حزب الأمة) في إنتخابات عام 1953. وقد وردت هذه النتيجة حرفيا ضمن مزكرة الحاكم العام الضافية التي نقتطف منها هنا: (16 - بالنسبة للنقطة (أ) أعلاه هنالك دلائل، كما سبق وأوضحنا، بان عقل الحزب الوطني الإتحادي، وخاصة الختمية، يتجه نحو فكرة الإستقلال، وانهم لم يعودوا يلعبون اللعبة المصرية بحرص كما كانوا يفعلون من قبل)
هذا الإتجاه السياسي البريطاني مضافا إليه نفور الإتحاديين من سياسات مصر الراديكالية الجديدة، كل ذلك قد خلق تداخلا وخلطا في هذه المرحلة من تطور الحركة السياسية السودانية بين المشروع الإتحادي العروبي والمشروع الحداثى العلماني. ومن هنا جاءت هزيمة المشروع الديني المهدوى في أول إنتخابات تجرى في السودان أواخر عام 1953. فقد واجه الأخير منفردا قوي المشروع الإتحادي العروبي المدعوم من مصر، زائدا قوي المشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي المدعوم من بريطانيا، وكان لا مناص من الهزيمة.
توضح هذه الملابسات السياسية عشية الإستقلال بان التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي قد اكتسب قوة هائلة ممثلة في الإتحاديين دون أي مجهود يذكر من عناصره أو من الإدارة الإستعمارية البريطانية التي تدعمه. وهذا يعني بأن إتفاقية السودان لعام 1953 بين مصر وبريطانيا، قد سقطت وتجاوزتها الأحداث، خاصة في شقها الذي ينص علي إستفتاء الشعب السوداني بين الإستقلال التام أو الدخول في علاقة سياسية مع مصر. فلم يعد أحد يريد هذه العلاقة السياسية مع مصر. حتى الختمية لم يميلوا إلى مصر إلا بعد أن مالت أمريكا إلى (حزب الأمة) بعد الإستقلال بسنوات..
وأخطر هذه التطورات كانت هي سهولة نيل السودان إستقلاله، فبريطانيا السعيدة بهزيمة التيار الديني، والسعيدة أكثر بانفصام علاقة الإتحاديين مع مصر، كانت علي إستعداد للإسراع بإكمال إجراءات الإستقلال وإعلان جمهورية السودان المستقلة ذات الحكم الديمقراطي ألتعددي والتغاضي عن شرط الإستفتاء.
ومن هنا يتضح بأنه لا صحة مطلقا للقول بان إستقلال السودان قد تحقق بالمناورات والتكتيكات والمقالب السياسية. فقط، لم يكلف أحد نفسه تحليل ما حدث لمعرفة حقيقة ما حدث. والنتيجة الهامة التي نحرج بها هنا، فيما يلي موضوعنا، هي أن انتصار التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي قد جاء ظرفيا وأن نظام الحكم الديمقراطي قد ظل يعاني من هذه الظرفية طوال تاريخ الحركة السياسية السودانية. فقد أصبح قدر هذا النظام أن يكون محطة وسطي يستريح فيها المتحاربون ساعة ريثما يواصلون القتال. ولعل السبب الرئيسي وراء ذلكم الضعف الذي ظل يعتري نظام الحكم الديمقراطي، هو أنه لم يتحقق عبر إرادة ومجهود أصحاب المصلحة الحقيقية في قيامه من أهل (الهامش الجغرافي) والهوامش أو المثقفين العلمانيين في المدن. وإنما تحقق بشروط ظرفية وكناتج جانبي.
2 - في العصر الإستقلالي (1980.1956)
في بداية الأمر وبعد توقيع إتفاقية الحكم الذاتي أو ما عرف بإتفاقية السودان بين بريطانيا ومصر عام 1953، واثر الزخم السياسي الذي فجره الصاغ صلاح سالم في السودان، تيقن الإداريون الإستعماريون البريطانيون بان السودان سوف يتحد مع مصر. وكان هذا من جميع الأوجه هزيمة للخط السياسي الذي عمل من اجله هؤلاء الإداريون. فقد كانت هنالك ثلاثة مشاريع سياسية حول مستقبل السودان كما أوضحنا، هي المشروع الإستقلالي الديني المهدوى بقيادة السيد عبدالرحمن المهدى، الذي يرى أنه الوحيد الذي يطرح بديلا وطنيا للحكم الثنائي وهو المهدية الثانية. وكان هنالك المشروع الإتحادي العروبي المرتبط بمصر والذي ظل ألاقوى سياسيا منذ نشوء الحركة السياسية الوطنية. وكان هنالك المشروع البريطاني الحداثى العلماني الذي لم يحظ بتيار سياسي متماسك يقف وراءه.
وكان الصراع على أشده بين مصر وبريطانيا، حيث كانت كل دولة تحاول أن تنصر المشروع السياسي الذي تسانده. وظل السيد عبد الرحمن المهدى والإستقلاليون ندا لدولتي الحم الثنائي. ولما اجتمع الصاغ صلاح سالم بجميع الأحزاب السودانية واتفق معها على الموقف الذي سوف تتخذه مصر أثنا المفاوضات مع بريطانيا حول مستقبل السودان، ثم تلي ذلك فوز الإتحاديين الساحق في إنتخابات الحكم الذاتي، فإن الإداريين البريطانيين قد تيقنوا من الهزيمة. وقد ورد التعبير عن هذا اليقين بجلاء في الرسالة التي بعث بها السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري لحكومة السودان في الثالث عشر من فبراير عام 1953 إلى وكيل حكومة السودان في لندن مستر سى . سى. ديفز. جاء في تلك الرسالة (إني اشعر باني هزمت، وهزمت معي السودانيين باستثناء السيدين ]على الميرغنى وعبدالرحمن المهدى[) . وترجمة هذا الشعور البائس إلى لغة هذا التحليل توضح بان هذا الإداري البريطاني يقول بأن المشروع الحداثى العلماني اليموقراطي قد هزم أمام المشروع الإتحادي العروبي والمشروع الإستقلالي الديني. كيف لا وهذا الإداري يرى بأم عينه بأن من كان يعتمد عليهم لإنهاض المشروع الحداثى العلماني قد توزعوا بين المشروعين الآخرين.
لكن ما فشل هذا الإداري الإستعماري في قراءته قراء صحيحة، هو ان الدعوة الإتحادية قد دخلت في مفارقة تاريخية بسبب ذلك التناقض الجوهري الذي نشا بين حزبها المعتمد على البرجوازية التجارية في السودان من جهة وبين الطرح السياسي الراديكالي لمصر الناصرية من الجهة الأخرى. وهذا ما أدركه الإداريون البريطانيون بعد إستقرار حكومة الإتحاديين في السلطة بعد انتخابات الحكم الذاتي.
وهكذا فإن النتيجة النهائية للأوضاع السياسية في السودان كانت هي انتصار المشروع الحداثى العلماني الديموقراطي بدون عمل ناجح من قبل الإداريين الإستعماريين وبلا تنظيم سياسي معلوم يقف خلفه. فقد هرب الإتحاديون من راديكالية مصر الناصرية، وهزم المشروع الإستقلالي الديني في الإنتخابات، وتحدد مصير السودان كجمهورية ديمقراطية تعددية علمانية.
3 - في عصر التحولات الكبرى ( 1980 – 2005 )
شهدت نهاية السبعينات من القرن العشرين تحولات كبرى علي صعيد العالم العربي كله. فقد أذنت هذه الحقبة بإنهيار المشروع القومي الإشتراكي العروبي. وبدأ أنور السادات في مصر خطوات المصالحة والتطبيع مع أعداء القومية العربية، إسرائيل وأمريكا. وانفرط عقد جامعة الدول العربية وتوزعت مكاتبها ما بين تونس وبغداد.
هذه هي الحقبة التي إستطاع فيها الدكتاتور نميري تكريس السلطة كلها في يده. فبعد أن تخلص من الوصأية الشيوعية في بداية السبعينات، ولم يجد صعوبة في إزاحة الضباط القوميين العرب الذين لم يستطيعوا أن يشكلوا مركزا للقوة داخل نظام نميري علي أية حال. في هذه الحقبة راهن نميري خارجيا علي صداقة الأمريكان بوساطة السادات وإقليميا راهن علي رضي السعودية ودول الخليج. وداخليا راهن علي مصالحة مشروع الدولة الدينية لاتقاء شر الشارع السوداني الذي له سابقة فريدة في إسقاط الدكتاتورية العسكرية عام 1964.
لم يكن نميري يعي أنه بإضفاء سلطته الدكتاتورية علي مشروع الدولة الدينية في السودان، قد أحدث أخطر التحولات السياسية في تاريخ الحركة السياسية السودانية. فهذه الحركة كما رأينا سابقا، قد ظلت محكومة بمعادلة دقيقة منذ نشوئها. هذه المعادلة لا تتيح تحقق أي مشروع سياسي من مشاريعها الكبرى الثلاث، بصورة كاملة. وذلك بسبب أن تحقق أحد المشاريع السياسية وبصورة كاملة، يعني السعي لإجتثاث المشروعين الآخرين وإدخال البلاد في دوامة العنف. وكانت تلك مغامرة ذات نتائج خطيرة لن تقل عن الحرب الأهلية. لكن ، ومن حسن الحظ ، أن نميري قد فعل ما فعل في ظل ضعف شديد كان يجتاح القوة المناوئة للدولة الدينية وذلك علي النحو التالي :-
ا/ كان التيار الوحدوي العروبي، في قمته الراديكالية، (ناصريون - قوميون عرب - بعثيون)، قد انهار مع إنهيار الحلم العربي القومي الإشتراكي علي يد السادات في مصر. وكان في قاعدته الوسطية (الحزب الإتحادي الديموقراطي)، مشلول وعاجز عن بناء معارضة فعالة في وجه تحقق مشروع الدولة الدينية، بعد أن فقد حليفه الطبيعي، في معارضة النظم العسكرية الدكتاتورية، وهو القاعدة الوسطية لمشروع الدولة الدينية نفسه، ونعني (حزب الأمة). فحزب الأمة حليف طبيعي للإتحاديين في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية. أما وأن تحقق الدكتاتورية مشروع الدولة الدينية، فان (حزب الأمة) سيكون هو الآخر مشلولا بسبب أزمته التاريخية التي تجعله موزعا بين الشمولية الدينية والديمقراطية وغير قادر على إتخاذ قرار واضح بالإنضمام لأحد المعسكرين. فهو ليس أمامه سوي المناداة بإسلام مخفف وعلمانية معدلة. وهو في مأزقه هذا لا يصلح حليفا في مقاومة الدولة الدينية.
وفي حقيقة الأمر فان هذا العجز في مقاومة الدكتاتورية العسكرية، هو موقف ظل الحزبان الكبيران يتبادلانه بسبب التعارض القائم أبدا بين المشروعين السياسيين الذين يمثلانهما. فقد رأينا كيف وقفت القيادة الختمية موقفا سلبيا من حركة مقاومة إنقلاب نميري عام 1969 في أول عهده عندما كان يرفع شعارات القومية العربية. فما كان يجمع بينها وبين الإنقلابيين آنذاك، أقوى مما يجمع بينها وبين أهل المشروع الديني. ونفس الظرف كان ينطبق علي (حزب الأمة) عندما غير نميري وجه سلطته العربي القومي بوجه إسلامي. فقد صار ما يجمع بين (حزب الأمة) والإنقلاب الديني أقوى مما يجمع بينه وبين التيار العروبي الإتحادي المعارض للإنقلاب.
ب/ كان الحزب الشيوعي السوداني لا يزال يلعق جراحه وتستغرقه هزيمته، منقسما غير قادر علي فعل شيء وقد فقد مواقعه وسط الحركة العمالية والحركة الطلابية معا.
ج/ كان المثقفون الليبراليون مشتتين كعادتهم وهم بين متفرج ساخر أو باحث عن ملجأ سياسي في أوروبا أو باحث عن عمل مريح في الخليج.
هكذا لم يجد مشروع الدولة الدينية وهو يتحقق لأول مرة منذ نشؤ الحركة السياسية السودانية علي يد جعفر نميري، لم يجد من يقف في وجهه سوي الواجهات السياسية لأهل الهوامش في الجنوب وجبال النوبة ودارفور. وبإزاء نظام دكتاتوري عنيف، وجد تبريرا لعنفه بواسطة الدين، لم يكن أمام هذه القوي السياسية الناطقة بإسم أهل الهوامش سوي حمل السلاح.
بالطبع لا مناص هنا من التعرض للزعم الواضح التضليل القائل بان الجنوب قد حمل السلاح قبل تطبيق الشريعة الإسلامية بعام كامل. كما ولا بد من أن ننوه للعقلية التي تبسط الأشياء، وضررها على الأدب السياسي السوداني. فكل الجيل المعاصر من السودانيين قد شهد نميري منذ منتصف سبعينات القرن العشرين وهو يصدر قرارات القيادة الرشيدة ويكون اللجان لتنقيح القوانين لتتماشي مع الشريعة الإسلامية ويؤلف الكتب مبشرا بنهجه الإسلامي. ولا يقبل عقلا ان تكون الحركة السياسية في الجنوب نائمة أو غافلة أو لم تكن تدرك ما يحدث في المركز. بل أن استباق التحول الكبير بعام كامل لهو شهادة لصالح دقة تقدير الجنوبيين للموقف السياسي في الخرطوم. وقبلها فعلها الجنوبيين حين استبقوا الإستقلال وفجروا ثورتهم الأولى عام 1955. ومثلما نسب العقل السياسي الشمالي تلك الثورة لسبب تافه، هو رفض كتيبة جنوبية من الجيش السوداني تنفيذ الأمر بالسفر إلى الخرطوم، فهو يميل إلى إرجاع نهوض الحركة الشعبية لتحرير السودان لسبب تافه آخر هو رفض إعادة تقسيم الإقليم الجنوبي لوحداته الإدارية السابقة لإتفاقية أديس أبابا 1972.
هكذا، أسباب تافهة معزولة عن أي سياق عام أو شمولية تاريخية. وحقيقة الأمر، أن عملية إعادة تقسيم الإقليم الجنوبي إلى الوحدات الإدارية القديمة، كانت جزءا أساسيا من مخطط متكامل، فطن له أول من فطن الجنوبيون أنفسهم. ولا يظنن أحد أن نميري قد استيقظ من نومه ذات يوم ليعلن فجأة إعادة تقسيم الجنوب. فقد إستمرت النقاشات والمجادلات حول إعادة تقسيم الجنوب لمدة عامين ونصف العام. وكان جوهر حجة الذين يعارضون التقسيم، هو الخوف من فرض الأسلمة القسرية علي الجنوب. وقد أورد ذلك روفائيل باداك في الورقة التي قدمها بعنوان: (الإنقسامات السياسية في الجنوب) علي النحو التالي :-
(إن اقتراح تقسيم الجنوب إلى إقليمين صغيرين أو أكثر ليس سوي الإستراتيجية الإستعمارية المألوفة " فرق تسد " والتي أضعف بها أعداؤه. وإذا كان للتقسيم أن يحدث (كما حدث بالفعل) فسيفقد الجنوب هويته الأفريقية الخاصة ويتراجع إلى مجرد تعبير جغرافي. وستضعف البلقنة في الجنوب عملية التحرر من المخطط الأكبر لنميري والأخوان المسلمين الرامي لأسلمة كل البلاد بما في ذلك الجنوب. فقد كان واضحا تماما في ذلك الوقت أن الرئيس نميري كان يعكف علي تطبيق السياسات التي رسمها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم. إذ أمسك الطلاب الجنوبيين بمفتاح المسألة عندما خاطب وزير التعاون عام 1981 مجموعة من الطلاب السودانيين في مدينة مانشيستر علي النحو التالي :
(نميري رجل مريض وقوته قد أستنفذت وسيسلم لنا الحكومة ]يعني الأخوان المسلمين وحلفاءهم[ لكنا قلنا له إن علية أن يسلمنا الجنوب كما وجده قبل 1972. ونحن نعرف كيف نتعامل معهم ]الجنوبيين [ وسواء رضي الجنوبيين أم أبوا، فنميري سيقسم الجنوب)
هذا فيما يخص جانب التخوف الجنوبي علي صعيد الهوية والثقافة والدين. ولكن كان للأمر جانبه الإقتصادي أيضا. فقد أورد نفس الكاتب ذلك علي النحو الاتي :
(كان الطلاب ]يقصد الجنوبيين[ علي قناعة لا تتزعزع من أن البلقنة ليست أمرا معزولا عن ما يحيط بها من أحداث، بل علي العكس من ذلك فهي جاءت في نهاية أحداث متتالية نم كل منها عن نية شمالية سيئه تجاه الجنوب. إذ طرح علي سبيل المثال عام 1977 اقتراح يجعل محافظة الوحدة التي تضم منطقة البترول في بانتيو، محافظة، علي أن تدار مباشرة من القصر الجمهوري. والخطوة الثانية كانت هي النزاع حول الحدود بين الشمال والجنوب في 1980 والذي كانت نتيجته ضم حقول النفط والمقاطعات الأخرى الغنية بالموارد في الجنوب إلى المحافظات الشمالية المجاورة. ولان الجنوبيين كانوا متوحدين في معارضهم لمحاولة تعديل الحدود، فقد أحبط المشروع. ويجادل الطلاب بأن نميري وحلفاءه الذين تأكدوا من أن وحدة وتضامن الجنوبيين هما عقبة أمام مخططاتهم النفطية، فكروا في وسيلة لإضعاف الجنوبيين بالهائهم بقضية تقسمهم وتشغلهم عن القضايا الحقيقية) .
سواء صح تحليل الطلاب الجنوبيين لسياسات نميري في ذلك الوقت أو لم يصح، فان إرهاصات أسلمة الدولة في السودان كانت واضحة لكل زي عينين منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين. وأن هذه الإرهاصات الواضحة كانت السبب المباشر لتجدد الحرب في الجنوب. فقيام الدولة الإسلامية يعني عمليا سد الطريق نهائيا أمام أي أمل في نهضة المشروع السياسي الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي في السودان، والذي به وحدة ترتبط مصالح السودانيين في الأطراف و(الهامش الجغرافي) والهوامش. وسد الباب نهائيا أمام تحقق أي مشروع سياسي هو الأمر الأدعى دائما لحمل السلاح. فمطالب هذه المناطق التي تعرف بالمهمشة تتلخص في ثلاث أمور:-
1- الحفاظ علي هويتها الدينية والثقافية
2- أخذ نصيبها من الثروة القومية
3- أخذ نصيبها من السلطة السياسية
وهذه المطالب مرتبطة ببعضها البعض لأبعد الحدود. كما أن تحققها مرتبط لأبعد الحدود أيضا بنوع السلطة المهيمنة في الخرطوم. وحيث أنها مطالب تتعارض مع المركزية الثقافية والإقتصادية والسياسية، فان تحققها يصير أعمق إستحالة كلما كانت الدولة في الخرطوم أكثر شمولية. أما إذ إرتبطت هذه الشمولية بالدين، فليس أمام هذه الأقاليم الطرفية من بد سوي حمل السلاح.
ويلخص الدكتور فرانسيس دينق وجهة نظر الجنوبيين فيما يخص الحفاظ علي هويتهم العرقية والدينية والثقافية بقوله (أما الجنوب مع تجاربه التاريخية المريرة، وموروث السياسة الإستعمارية للتنمية المنفصلة، في الإطار الحديث، ظل يقاوم بإصرار الاستيعاب العرقي الثقافي والديني ضمن التركيبة العربية الإسلامية للشمال. والجنوب، علي كل، لا يعارض الحقيقة المجردة للتكامل بين العناصر العربية والأفريقية، ولكنه يعارض الهيمنة السياسية للشمال، ويرفض دون مساومة فرض الشمال هويته الثقافية العرقية واللغوية والدينية علي القطر كله)
ويورد الدكتور فرانسيس دينق تداعيات تحول الدكتاتور نميري بالدولة السودانية كلها تجاه الأسلمة القسرية قائلا (واصل نميري برنامجه للأسلمة. أولا طلب من وزرائه وكبار المسئولين أتباع قواعد "القيادة الرشيدة" بامتناعهم عن تنأول المشروبات الكحولية وعن ممارسة كل أنواع المسير، وكون لجنة فنية لمراجعة كل قوانين البلاد وتعديلها لتتفق وتعاليم الإسلام. ثم بدأ التوتر في العلاقات بين الجنوب والشمال يتفاقم عندما تحول نميري ليحتضن المحافظين الشماليين ويتحالف مع "الإخوان المسلمين" لتطوير الأطروحات الإسلامية. اتخذت الحكومة المركزية مجموعة من الإجراءات في سياستها تجاه الجنوب، وعجلت بذلك الخطي نحو المواجهة.
أعطي برنامج نميري للأسلمة مبررا أقوي لاستئناف القتال ضد الحكومة، قبيل التكوين الرسمي للحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها. انتشرت مجموعات المتمردين في أنحاء جنوب السودان تحت مسمي (أنانيا) الثانية، إشارة إلى إعادة نشاط أنانيا الأولى) .
وبالمواجهة المسلحة بين الحركات السياسية الممثلة لأهالي الهوامش بقيادة (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وبين النظام الدكتاتوري الذي واجهته، جعفر نميري وقيادته الحقيقية في يد الحركة الإسلامية الراديكالية، بهذه المواجهة يكون السياق السياسي القديم القائم علي توازن القوة بين المشاريع السياسية التقليدية (مشروع الدولة الدينية ومشروع الدولة الإتحادية والمشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي)، قد شهد تحولا عميقا. فقد تراجعت القوة التقليدية، أنصار- ختمية - وبرزت قوة جديدة لتتولي إدارة الصراع السياسي الذي انحصر الان بين المشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي بقيادة (الحركة الشعبية لتحرير السودان) والمشروع الديني الإسلامي بقيادة (الحركة الإسلامية الحديثة).
هذا التحول العميق قد رصده أيضا الدكتور فرانسيس دينق عندما أورد: (لقد بلغ تطور السودان الحديث ذروته في رؤية نابعة من الجنوب تنازع رؤية من الشمال، مع حالات من بينها النوبة، الانقسنا، الفور، وبدرجة أقل البجا، ممن تعتبر هوياتهم أكثر أفريقية من الأقسام العربية السائدة المعروفة. تختلف الرؤيتان أيديولوجيا حول نظام الحكم، وبخاصة ما يتعلق يقضايا مثل الديمقراطية مقابل الحكم العسكري ودور الدين في الدولة) .
كما يؤكد في موضع آخر: (والآن تعبر الجبهة الإسلامية القومية والنظام العسكري في الخرطوم من جانب، والحركة الشعبية لتحرير السودان من جانب آخر، تعبران عن النماذج الأكثر حداثة للهويات التي تبلورت عبر فترات من تاريخ يحمل افتراضات عميقة الجذور) .
ويتفق عبد الوهاب الافندي مع ما وصل إليه الدكتور فرانسيس دينق، عن حالة الإستقطاب الناشئ الذي يشطر البلاد سياسيا وأيديولوجيا وثقافيا وعرقيا ودينيا إلى شطرين متباعدين. يقول عبد الوهاب الافندي: (إستطاعت الجبهة الإسلامية القومية ان تقدم نفسها علي إنها حاملة لواء القومية الشمالية متخذة بذلك دورا مماثلا للذي يلعبه جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب. وخلافا للانتهازية وإنعدام الرؤية عند السياسيين التقليديين، قدم كل من الطرفين لمؤيديه نظرة جريئة وواضحة حول الكيفية التي يتم بها تشكيل السودان) .
وهذا في تقديرنا إعلان بنهاية السياق السياسي القديم وبداية سياق سياسي جديد تحددت ملامحه. وأهم هذه الملامح حتى الان هو ان هذا السياق السياسي الجديد قد ولد في ظل إستقطاب حاد ومواجهه مسلحة. ولم يؤثر في هذا الوضع الجديد سقوط نميري. فليس نميري سوي واجهة إهترأت رماها رافعوها قبل أن تدوس عليها أقدام المتظاهرين في أبريل 1985.
وهذا هو حسب إعنقادنا، السبب الذي جعل الحركة الشعبية تأبى إلقاء السلاح والعودة إلى حظيرة الشرعية إبان فترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989). فمرة أخرى تثبت الحركة السياسية الجنوبية مقدرتها القرائية الصحيحة للخارطة السياسية والتحولات الكبرى التي اعترتها خلال عشر سنوات من عام 1975 إلى عام 1985. فالحركة الإسلامية كانت أقرب ما تكون للسلطة والدولة الإسلامية أقرب ما تكون للتحقق. وكان واضحا لمن يريد أن يري بان (الجبهة الإسلامية القومية) تسيطر تماما علي الأوضاع طوال الفترة الإنتقالية التي أعقبت سقوط سلطة جعفر نميري. وكان واضحا بان المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة سوار الدهب يأتمر فعلا بأوامر (الجبهة الإسلامية القومية). فقد رفض ذلك المجلس رفضا باتا إطالة أمد الفترة الإنتقالية لعام آخر وأصر علي إجراء الإنتخابات بعد عام واحد من سقوط الدكتاتورية، مما يلبي تكتيكات الجبهة الإسلامية التي ظلت وحيدة في الساحة السياسية طوال العشر سنوات الأخير من حكم نميري، بينما عانت بقية الأحزاب التشريد والنفي والقمع.
كان موقف (الحركة الشعبية لتحرير السودان) صحيحا من الناحية السياسية وهي ترفض إلقاء السلاح والإنضمام لترتيبات الفترة الإنتقالية. فقد كان الأمر في الخرطوم، تماما كما وصفه الدكتور شريف حرير: (الفريق سوار الدهب رئيس للمجلس العسكري الإنتقالي، ودكتور الجزولي دفع الله رئيس مجلس الوزراء الإنتقالي وعمر عبد العاطي النائب العام، من المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية. وهكذا فقد سيطرت الجبهة بشكل ما وجمعت بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية خلال الفترة الإنتقالية. وبينما غابت رؤية هذا الملمح عن العديد من اللاعبين لم يغب ذلك علي الجيش الشعبي. ومن هنا جاء رفضه الإنضمام إلى الترتيبات الإنتقالية وإصراره علي أن الإنتفاضة سرقتها نفس العناصر التي توجه نحوها الغضب الشعبي)
لقد خرجت الحركة الإسلامية الحديثة بمكاسب ضخمة من جراء مشاركتها في سلطة نميري. فقد إستطاعت أن تسيطر علي مفاتيح الإقتصاد السوداني كله، وان تخترق الجيش وجهاز الأمن، وان تعد وتدرب كوادرها إستعدادا لاستئناف مسيرة الدولة الإسلامية. وقد أثبتت الحركة الإسلامية قوتها وفعآليتها في ميدان خطير. فقد إستطاعت أن تخرب وتفشل كل الجهود الرامية لإقناع الحركة الشعبية بإلقاء السلاح والعودة للحظيرة السياسية ضمن النظام الديمقراطي بعد عام 1986، سواء في كوكادام عام 1886 أو في أديس أبابا 1988 وذلك لعلمها بان الحركة الشعبية لن ترضي بأقل من فصل الدين عن الدولة وإقامة الدولة الحداثية العلمانية، وهذا ببساطة ضياع لكل المكاسب التي تحصلت عليها الحركة الإسلامية، لا سيما وإنها قد نالت من المقاعد البرلمانية ما جعلها القوة السياسية الثالثة في البلاد بعد (حزب الأمة) و(الإتحادي الديمقراطي). ومن ناحية أخري فان الحكة الشعبية لتحرير السودان ما كان من الممكن تلقي سلاحها إلا بإتفاقية تضمن إيقاف التغول علي السلطة بإسم الدين.

وحين اجترحت الحركة الإسلامية الأزمة في موضع الإحتقان ونفذت إنقلابها العسكري آخر يوم من يوليو عام 1989، كانت حالة الإستقطاب السياسي بين الدولة الدينية والدولة العلمانية والتي بدأت مع توجهات نميري الإسلامية، قد جعلت كل عناصر الحركة السياسية السودانية محددة لموقفها سلفا ما عدا (حزب الأمة) الذي ظل موزعا مشتتا بين الدولة الدينية التي أقامتها الحركة الإسلامية في الخرطوم بقوة السلاح وبين الدولة العلمانية الديموقراطية التي اتفقت المعارضة علي تفاصيلها في إسمرا عام 1995. مرة يكون حاضرا هنا، ومرة يكون حاضرا هناك.
هكذا فان قيادة مشروع الدولة الديموقراطية الحداثية العلمانية قد إنتقلت إلى يد (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، مثلما إنتقلت قيادة مشروع الدولة الدينية إلى يد (الحركة الإسلامية الحديثة). وإذ كان مشروع الدولة الدينية قد حدثت له نقلة نوعية كبيرة علي يد الحركة الإسلامية الحديثة، فان مشروع الدولة الحداثية العلمانية، هو الآخر قد شهد نقلة نوعية ضخمة علي يد الحركة الشعبية لتحرير السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.