(1) مر علينا يناير هذا العام حزيناً وكيباً ليس كسابقيه فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر فالانفصال الذي رسم معالمه شريكي نيفاشا افسد علي الشعب السوداني الاحتفاء بطرد المستعمر وارساء دعائم الدولة السودانية بقيادة ابو الوطنية الامام عبد الرحمن المهدي ورفاقه الميامين بنضال وتضحية نادرين فقد صبروا وصابروا علي اعداء الخارج والداخل وقتها كان مجرد الكلام عن الاستقلال والسودان للسودانيين دعوة حق اريد بها باطل علي حد قول خضر احمد في مذكراته فلم تجد ترحيباً داخلياً ولم تحظي بالتايد الخارجي فقد اورد د. يوسف فضل في مرافعته عن الامام عبد الرحمن بمناسبة عيده المئوي (لم يجد الامام عبد الرحمن المهدي ترحيباً من القاهرة وقوبل بحملة صحفية منكرة ونعت فيها الامام بشتي النعوت) فقد كان مخاض الدولة السودانية الحرة والمستقلة عسيراً لدرجة ان ابو السودانيين قال بعد ان رفرف علم السودان خفاقاً وسط تكبيرات وهتافات الجموع عاش السودان حراً مستقلاً باكياً : ( الان ان لي أن ارتاح قليلاً فقد شهدت أول نصر لشعب السودان ). سطر هذا الموقف الرائع في حق الامام عبدالرحمن الصادق الشاعر القومي عكير : وكت الوطن قال ضعت يا بومروه مين غيره برز دافعاه غيرة وقوه زين سهم القدر لندن طعنها جوه رفعت كلمتك علماً علي ترقوه وقال ايضاً في ذم المنادين بالوحدة تحت التاج المصري : مسكين يا وطن البنقذوك محتاج وهم الضيعوك ابناك ناس التاج بدل ما يتوجوك يا مصدر الانتاج دائرين يعملوك تاجاً تحت لي تاج تمر علينا زكري الاستقلال المجيدة هذا العام وقد ضيعت معانيه وطمست معالمه وسرقت احداثه ولم يبقي منه الا الاسم واجيالنا المعاصرة لا تعرف عنه الا ما طالته يد المؤرخين المغرضين ليخرجوا لنا جيلاً منبت الجزور مجزوز الاصل يقول د. محمد عمر بشير في سفره مشروع الدولة السودانية الديمقراطية قضايا واشكاليات البناء الوطني الصادر عن الجامعة الاهلية 2005 ) :التاريخ في كل المجتمعات التعددية بما فيها السودان لحقه تزوير كثير والاجيال الحالية في السودان لا تعترف بأزمتها بالصورة الحقيقية والمدارس لا تعلم هذا التاريخ بطريقة علمية وإيجابية ان هنالك من يطمس هذا التاريخ وما فيه من سلبيات لتحسين صورة الماضي وهنالك من يزور التاريخ بهدف الدفاع عن عقيدة وكثيرون من الذين كتبوا تاريخ السودان السياسي تجاهلوا تاريخ المجموعات وتاريخ الطوائف الدينية وكانت النتيجة هذه الصورة المشوهة في كثير من الاحوال لها التاريخ). (2) لاشك ان بلادنا تمتلك كل مقومات الترقي والنهضة فإنسانها ذو سمتته وخصوصيته الفريدة ومساحتها مليون ميل مربع (قبل الإنقاذ) مترامية الاطراف وواسعة الارجاء (عاشر دول العالم ورابع دول افريقيا واول دولة عربية ) متنوعة المناخ والتقسيمات الجغرافية تقطنها اصول عرقية متعددة ( العربي ، الزنجي ، النيلي ، النوبي ، الحامي ، النوباوي – البجاوي ...الخ) تعيش علي ظهرها اكثر من 570 قبيلة وتتكلم عشرات اللغات واللهجات وتتعايش فيها عشرات الثقافات وانماط التدين والعادات ومع كل ذلك يسودها الفقر والجهل والمرض متذيلة كل القوائم والتقارير الامنية والتنموية الاقليمية والدولية ولم يسن لها حتي الان كتابه دستور دائم وذلك لعدم مراعاة هذه الوضعية وعدم الاستجابة للتنوع والتباين والاختلاف وكنتيجة منطقية غاب السلام والامن والتنمية والاستقرار . وتكالب عليها الاعداء - الاعداء الحقيقيون- هم اولئك الذين يسعون لفرض رؤية تعبر عن هويتهم الضيقة الاقصائية النافية حتي للأخر الملي والمذهبي والحزبي ويضمرون العداوة والبغضاء للديمقراطية والحكماء والمخلصين من ابناء الوطن وتشويه سمعتهم بصورة منظمة وبالتالي لا يتوانون في تفتيته والتفريط في إنسانه وارضه وموارده . فتناقص من اطرافه الفشقة وحلايب وغيرها بل فقد السودان هذه الايام اكثر من ثلث اراضيه ونصف موارده وخمس مواطنيه . والمسئول الاول والاخير عن ذلك سوء ادارة التنوع والقفز علي حقيقته والانفراد والعناد والاحادية وذلك غصباً عن حركة التاريخ وفي سابقة غريبة في ظل موجة التوحد والتكتل التي تسود العالم ، قسم السودان باسم راية الاسلام وتقرباً الي الله زلفي والرقص علي جماجم الابرياء وزغاريد اعياد الشهداء والغريب في الامر النظر لانفصال الجنوب باعتباره حدث عادي في محاولة لانتزاع من الشعب السوداني حتي عامل الدهشة والاحساس وتحويل الانفصال الي نصر عظيم يستدعي الاحتفالات والمهرجانات والبكاء طرباً علي حد قول الخال فشر البلية ما يضحك. (3) لقد تعود الشعب السوداني ان يسمع في كل محنة يمر بها في ظل حكم الإنقاذ كلاماً خارج النص ويري خلاف ما يسمع ام محاولة لتغبيش الوعي ومدارة لكفوة والتستر علي كارثة بقضية انصرافيه كمن يؤشر يمين ويلف شمال او تبرير ممجوج لا يدخل دماغ راعي الضأن في البادية ويظل يكرر في وسائل الاعلام ولعل اعلان القضارف للشريعة يدخل في النوع الاول (إذا اختار الجنوب الانفصال سيعدل دستور السودان، وعندها لن يكون هناك مجال للحديث "المدغمس" زي السودان بلد متعدد الديانات والأعراق واللغات، وسيكون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع والعربية هي اللغة الرسمية) فماذا كنا نحكم قبل عقدين من عمر الإنقاذ ؟لقد افرغت الشريعة من معناها ومضمونها بكثرة التندر بها إعلاميا ومظهرياً ( نسمع جعجعة ولا نري طحيناً ) بل قد نري العكس فقد اصبح مجرد التحدث عن دستور اسلامي او الشريعة علامة لحرمان الشعب من حقه في الحفاظ عن ثقافته وممارسة عقائده ومؤشر لقمعه وانتهاك كرامته وتقنين الشمولية والكبت والقهر ومصادرة الحريات واستنزاف خيرات بلادنا ونهب مشاريعه الخدمية وتجويعه والتلاعب بقوت شعبه وتركيع سيادته وكل هذه التعديات السافرة تتم باسم الاسلام وكل ما يفعل يجافي أمر الله . فبات واضحاً وضوح الشمس ان شريعة السماء تتخذ ستاراً لأزلال الشعب وبسبق الاصرار والترصد وجعل السودان خاضعا وخانعا للإمبريالية العالمية تنفذ المخططات الصهيونية بوعي وبلاوعي .فليحكم ويتحكم من يشاء في السودان ولكن لا يتخذ شرع الله مبرراً للفشل والاخفاق ولا يحكم باعتباره ظل الله في الارض لان في ذلك تجني علي الدين وافتراء علي الله كذًباً. هل تكديس مليارات الجنيهات وقتل مئات الالاف وتشريد ملايين النازحين واهدار الكرامة الانسانية خاصة تلك التي تتعلق بالمرأة والتلاعب بالقانون نصاً وتطبيقاً وغسيل للأموال والشركات الوهمية واسواق المواسير ونهب المشاريع التنموية العريقة والاختلاسات التي دونتها تقارير المراجع العام التي تقول بوضوح ان كمية الاموال المنهوبة في تزايد مستمر والضغوطات التي تتعرض لهاهيئة المظالم والحسبة العامة بهدف تغيير مسار العدالة والقروض الربوية القاسية ، وملامح الفساد في شوارع الخرطوم التي لا تخطيها الا عين بها رمد والسخرية من الشعب السوداني وقواه السياسية (ما يسخرون الا من انفسهم ) والتحدي واستفزاز الشعب للخروج للشارع (فأخذتهم العزة بالإثم ) والتجبر والطغيان ورفض النصح ( ما اريكم الا ما اري ) هل هذا امر الله ام امر الشيطان؟؟ فمن اين يستمد هؤلاء شريعتهم المنسوبة زوراً وبهتاناً للإسلام ؟؟ فالإنقاذ تعيد للأذهان تجربة مايو الغابرة في مغبة التطبيق العقابي المشوه للشريعة في مجتمع مهدد بالمجاعة فقد تعودنا ان نسمع شعارات ولم نراها علي أرض الواقع بل طبقت بشكل ينافي مقاصد الشريعة ومورست باسمها شتى أنواع الظلم والفساد فالقانون الجنائي الحالي المستمد حسب قولهم من الشريعة يعاقب علي جرائم تتعسر علي الشريعة ويأخذ الناس بالشبهات نعمإن الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق للمسلم، كما انها اشد علي الحاكم من المحكوم وتقوم علي الحرية ومخاطب بها في المقام الاول ضمير المسلم لحماية المجتمع وتعمل علي تهذيب النفس وترتبط بالإيمانوليس الاكراه . ان ادخال المصطلحات الفقهية والتظاهر الاعلامي بجلد النساء بدعاوي المظاهر الفاضحة واستعراض المواقف الصورية والتركيز علي الاعراض وتجاهل الاموال التي نهبت والتي رصدتها عشرات التقارير عن حجم الفساد التي يترتب عليها افساد البلاد والعباد يرتقي مرتكبها الي الدرجات العليا جزاء بما فعله من جرم مقدر ويطبق علي الفقراء والضعفاء وكل ذلك ما هو الا طلاء لخدعوا به الجهلاء والمرضي الذين يسبحون بحمد النظام اناء الليل واطراف النهار وليوهموا عامة الناس ويخدعوهم ان ما يفعلونه هو الشريعة ( كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) فعندما يري المسلم البسيط جلد فتاة بمجرد انهم قالوا انها ساقطة يحسب انهم صادقون ويظن ان هذه هي الشريعة ولإيابه لأهدافهم وتشوههم للدين فهل الدين كله قتل وجلد وارهاب للناس واخافتهم وازلالاهم ورفع درجة الهلع والخوف وسط الشعب فاين مقاصد الشرع ؟ واين مبادي الاسلام في الحكم والاقتصاد والعلاقات الدولية ؟ ؟؟ انهم يشوهون للشريعة ويضعونها في تناقض مع العصر وكرامة الانسان وحرياته والرحمة والعدل والمساواة وبذلك ينسبون سلوكهم وجهلهم بالدين للإسلام . اللهم احفظ ما تبقي من السودان