ما زلت عند رأيي الخاص أن المشهد السياسي السوداني في تطورٍ متسارعٍ، لا يزاحمه في هذا التسارع المتطور سوى المشهد السياسي العربي، بدءاً بتونسوالجزائر، ومروراً بمصر واليمن، وانتهاءً بلبنان. ومن نافلة القول، الحديث عن أن انتفاضة الياسمين في تونس أحدثت حراكاً سياسياً، لم تقتصر تداعياته على تونس الخضراء، بل امتد إلى كثير من الدول العربية، فأفردت معارضاتها أذرعتها غير القوية، وهددت حكوماتها بالويل والثبور، وعظائم الأمور، ظناً منها أن رياح التغيير قد هبت، وأن الغضب الساطع آتٍ. وبدأت البحث عن آليات الثورة أو الانتفاضة الشعبية، في إطار البحث عن إمكانيات تغيير الأوضاع السياسية الراهنة، والأنظمة الحاكمة القابضة على رقاب العباد والبلاد، كل ذلك من خلال ما شهدته تونس في بضعة أسابيع، نتيجة لتراكمات ومرارات وتظلمات سياسية وحقوقية طوال عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. كانت شرارة الانتفاضة الشعبية في تونس حادث انتحار الشاب التونسي محمد بوعزيزي عبر إحراق نفسه ضجراً ويأساً وقنوطاً، واحتجاجاً على سوء وضعه المعيشي، فامتدت عدواه إلى الجزائر، حيث حاول أكثر من خمسة أشخاص إنهاء حياتهم بإضرام النار في أجسادهم، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية التي فاقم سوءها قرار الحكومة الجزائرية بزيادة أسعار السلع الأساسية، مما جعل الحياة شاقة في ظل الغلاء المعيشي الفاحش، والبطالة المستفحلة، فتزامنت هذه المحاولات الانتحارية مع الغضب الشعبي الذي بدا واضحاً جلياً في المظاهرات الاحتجاجية، مما استدعى الحكومة الجزائرية إلى التراجع السريع قبل أن يجف مداد قرار زيادة أسعار بعض السلع الأساسية، بإلغائه في محاولة لتهدئة الأوضاع المستفحلة، واستتباب الأمن، واستقرار البلد. وكذلك حدث في موريتانيا محاولات انتحارية مماثلة. أما في مصر فقد تكررت محاولات للانتحار أقدم عليها أكثر من خمسة اشخاص، لأسباب متباينة، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية. وكذلك بدأت الجماهير المصرية ضمن هذا الحراك السياسي الراهن الذي أحدثته تداعيات انتفاضة الياسمين الشعبية في تونس، تسيير المظاهرات الاحتجاجية، في إطار البحث عن إحداث قدرٍ من التغيير، فإن لم يكن تغييراً على غرار ما حدث في تونس، على الأقل تحريك البركة السياسية الراكدة، لإحداث انفراجات منشودة في الأوضاع السياسية والحقوقية في مصر، إضافة للتعبير عن احتجاج آلاف المتظاهرين المصريين في بعض المدن المصرية، على تدني مستويات المعيشة، والظروف الاقتصادية الصعبة. ولم يكن اليمن المضطرب بعيداً، سياسياً واقتصادياً، عن هذه الأجواء الانتحارية، فقد حاول أحدهم إحراق نفسه بينما هدد آخرون بالإقدام على إحراق أنفسهم، احتجاجاً على الأوضاع السياسية والحقوقية في اليمن، حتى أوروبا لم تسلم من موجة حالات الانتحار أو التهديد بالإقدام على الانتحار، حيث شهدت مدينة مرسيليا الفرنسية، محاولة انتحار طالب فرنسي بإحراق نفسه لأسباب مجهولة، ولكن بعض وسائل الإعلام الفرنسية أشارت إلى أن هذه المحاولة الانتحارية للطالب الفرنسي نتيجة لتداعيات ما فعله محمد بوعزيزي بإحراق نفسه احتجاجاً على سوء وضعه المعيشي. وأحسب أن الكثيرين ظنوا أن السودان بعيداً عن محاولات الشروع في الانتحار بإحراق بعض الشباب أجسادهم، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية أو احتجاجاً على الأوضاع السياسية والحقوقية، إذ أن السودانيين لم يُعرف عنهم اللجوء إلى أساليب الانتحار أو الشروع فيه كوسيلة من الوسائل الاحتجاجية، مع ذلك سارعت هيئة علماء السودان إلى إصدار فتوى بتحريم الشروع في الانتحار، ولكن على الرغم من هذه الفتوى، أضرم شاب سوداني في الخامسة والعشرين من عمره النار في جسده يوم الجمعة الماضي بالسوق الشعبي في أم درمان، ولم تعرف دوافع محاولته الانتحارية، وتُوفي متأثراً بحروقه يوم الاثنين الماضي. وربما تأثر الشاب السوداني الأمين موسى بظاهرة التونسي محمد بوعزيزي، فارتكب هذا الجُرم في حق نفسه. ولما بدأت تنتشر ظاهرة محاولات الانتحار في عدد من الدول العربية، سارع العلماء في التأكيد على حُرمة عمليات "حرق الأنفس". وكان الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية، قد جرم عمليات «حرق الأنفس» التي بدأت تنتشر بشكل واسع في عدد من الأقطار العربية، بعد أن بدأها أحد التونسيين الغاضبين ضد سياسات حكومته. وانتقد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بشدة اللجوء إلى «سفك الدم»، واعتماد هذا الأمر كأسباب للضغط وتحقيق المطالب. كما طالت انتقادات الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، من يروجون لعمليات "حرق الأنفس"، وتقديم منفذيها وكأنهم "شهداء". واللافت للانتباه، أن وسائل الإعلام العربية والأجنبية اعتبرت انتفاضة الياسمين الشعبية التونسية بمثابة ثاني أكبر ثورة شعبية في العالمين العربي والإسلامي، بعد الثورة الإسلامية في إيران التي قادها آية الله الخميني في فبراير 1979، مما أثار حفيظة الكثير من السودانيين، باعتبار أن أول ثورة شعبية في هذين العالمين العربي والإسلامي حديثاً كانت في السودان، وهي ثورة 24 أكتوبر 1964، والثالثة بعد ثورة إيران الإسلامية كانت الانتفاضة الشعبية السودانية في 6 أبريل 1985، فمن هنا كانت حفيظة هؤلاء السودانيين، ومن هنا أيضاً يجب البحث عن أسباب تجاهل وسائل الإعلام العربي والأجنبي لما حدث في السودان من ثورتين شعبيتين خلال ما يزيد عن أربعة عقود. وأحسب أنه مع رياح انتفاضة تونس الشعبية، صعدت المعارضة السودانية من لهجة تحديها للحكومة، وأعلنت صراحة أنها ستعمل جاهدة على إسقاطها، من خلال تنظيم مظاهرات شعبية، بينما تجدد الحكومة حرصها على الحوار مع المعارضة حول قضايا وإشكاليات الحكم في الشمال والتعديلات الدستورية، خاصة بعد أن بات من المؤكد انفصال الجنوب عن الشمال عبر انفاذ استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير حول جنوب السودان، ضمن استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام، وتأكيد حرصها على مشاركة المعارضة في حكومة ذات قاعدة عريضة، في الوقت نفسه، تحذرها من مغبة الحديث عن انتفاضة شعبية كالتي حدثت في تونس، باعتبار أن ذلك يمثل خروجاً صريحاً على القانون والدستور. ولكن المعارضة زادت من نبرة تحديها للحكومة، ودعت إلى اجتماع لرؤساء أحزاب تحالف الإجماع الوطني للبحث عن أساليب تصعيد حملتها ضد الحكومة، والاحتكام للشارع السوداني من خلال تنظيم الندوات السياسية والخروج في مظاهرات شعبية. وفي البدء شكك المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) في قدرة أحزاب المعارضة على قيام انتفاضة شعبية، ووصفها بالانتهازية عند حديثها عن انتفاضة تونس الشعبية. وسخر الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون التنظيمية من تهديدات المعارضة، وحديثها عن تكرار تجربة تونس في السودان، حيث دعا احزاب المعارضة للاتفاق على برنامج وطني بدلاً عن البحث عن عيوب ونواقص الإنقاذ. وذهب في استخفافه بتهديدات المعارضة إلى درجة استبعاد إمكانية حدوث المشهد التونسي كوسيلة لتغيير الحكم. وقال: "الشعب السوداني يعي جيداً مصالحه، ويعلم انه ليس هناك في الساحة السياسية عطاء أكثر من الإنقاذ". وهددها بتقليص مساحة الحرية المتاحة لها حالياً، وقال: "إنه ليس من المنطق أن نسمح لأحد بإخلال الأمن". وقال الدكتور نافع: "الداير يقلع الحكومة يقوي ضراعو". وكان الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي يلتزم الصمت في كثير من الأحايين في الفترة الأخيرة إلى درجة أن صمته هذا بدأ يثير الكثير من التساؤلات، ويُفسر تفسيرات عديدة من قبل الحكومة وغيرها، ولكنه بدأ يتحدث بعد الاستفتاء بحثاً عن جوامع تجمع السودانيين، حكومةً ومعارضةً، لحل مشكلة دار فور بعد أن تأكد انفصال الجنوب، ومحذراً من أن السودان سيمزق إلى ثماني دول وربما إلى أشلاء إذا استمرت الأوضاع الحالية. وبُعيد الجدل المحتدم بين الحكومة والمعارضة، نتيجةً لأحداث انتفاضة تونس الشعبية، تحدث عن أنه يشتم رائحة ثورة تونسية في السودان. وقال الدكتور حسن الترابي قبيل اعتقاله لصحيفة الأهرام المصرية: "إن المعارضة ستتحرك بعد ظهور نتيجة الاستفتاء، ضد النظام الذي يتحمل مسؤولية تمزيق البلد"، مضيفاً "أن الانتفاضة الشعبية ممكنة في السودان على غرار ما حدث في تونس"، مشيراً على "أن المعارضة في السودان الآن، بشقيها السياسي والعسكري، على خلاف توجهاتها مجمعة على ضرورة زوال النظام الحالي الذي يستخدم شعارات إسلامية لتبرير بقائه". وكان الدكتور حسن الترابي قد توقع اعتقاله من قبل السلطات على خلفية تصريحات صحفية تناقلتها وكالات الأنباء مفادها أنه يشتم رائحة «ثورة تونسية» في السودان. وقال:"لقد عرفت هذه البلاد انتفاضات شعبية في السابق"، مضيفاً أنه"من المرجح أن يحصل الشيء نفسه في السودان"، ومحذراً "من أنه في حال لم تحصل انتفاضة قد يقع حمام دم لأن الجميع مسلحون في السودان". وبدت تظهر تحركات احتجاجية وسط الشباب للتعبير عن سخطها على الأوضاع المعيشية. واتفقت الحكومة مع رأي الدكتور آدم موسى مادبو نائب رئيس حزب الأمة السابق، ومع الرأي السائد في الخرطوم أن المؤتمر الشعبي هو الحزب الوحيد الذي يمتلك رؤية واضحة ومحددة، ولدى قيادته الاستعداد للقيام بتضحيات كبيرة، ولمعرفة الكثير من قياديي المؤتمر الوطني قدرات الدكتور الترابي في إحداث الانتفاضات الشعبية في السودان، بدءاً من دوره المشهود في ثورة أكتوبر 1964، وكذلك دوره غير المنكور في انتفاضة أبريل 1986، على الرغم من أنه كان رهن الاعتقال، ومن ثم سارعت الحكومة إلى اعتقاله بواسطة السلطات الأمنية بعد يوم واحد من دعوة حزبه لانتفاضة شعبية، ما لم تلغ الحكومة قراراتها الأخيرة برفع أسعار الوقود وبعض السلع الأساسية. وجاء هذا الاعتقال حسبما ذكر المؤتمر الشعبي، ليس لما أوردته الحكومة من مبررات متباينة ومتضاربة وغير حقيقية، ولكن بسبب "معرفة السلطات بقدرة الرجل على تحريك الشارع". ومن هنا نجدد المطالبة بإطلاق سراحه، طالما دعت الحكومة إلى حوار جاد وعميق مع قوى المعارضة السودانية كافة. أخلص إلى أن الحكومة وهي معروفة بإجادتها لأساليب التكتيكات إلى الدرجة التي شاع بين مخالفيها أن قياديي المؤتمر الوطني علمهم الدكتور الترابي إبان طالبية الكثير منهم في مدرسته الفكرية والسياسية، أساليب التكتيكات، وأخفى عنهم حقيقة الاستراتيجيات، فلذلك عملت الحكومة على استقطاب بعض قياديي المعارضة إلى جانبها، وثنيهم عن تهديداتهم بإسقاطها، وذلك من خلال التعامل معهم بحكمة "شعرة معاوية"، فإن هم شدوها (المعارضة)، أرختها (الحكومة)، وإن هم أرخوها، شدتها. ولتأصيل فقه الدهاء السياسي لدى الحكومة، أحسب انه من الضروري بسط القول حول "شعرة معاوية" للمقاربة وليس للتشبيه، إذ ترجع قصة الشعرة الي وقت خلافة معاوية بن أبي سفيان، حيث كان معروفا بالدهاء السياسي والحكمة البالغة في تولي زمام الأمور، وحكم الرعية باللين تارة والقسوة تارة أخري، حسب ما يتراءى له من المواقف. والمقولة الكاملة هي"أني لا أضع سيفي، حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي، حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت كانوا إذا أمدّوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها". وفي تطورٍ ملحوظٍ، التقى الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير السيد الصادق الصديق المهدي رئيس حزب الأمة القومي مساء يوم السبت الماضي، حيث اتفق حزبا المؤتمر الوطني والأمة القومي على إجراء حوار جاد وعميق حول "الأجندة الوطنية"، وشكل الحزبان لجنة مشتركة لبحث مخرج قومي لا يستثني أحداً، ويشمل القوى الوطنية السودانية كافة. وبادر المؤتمر الوطني إلى إعلان عن جدول زمني للقاءات القوى السياسية، وتكييف الحوار معها للاتفاق على الأجندة الوطنية، ورؤيتها حول المشاركة في الحكومة ذات القاعدة العريضة. ووصف السيد الصادق المهدي بعد اللقاء المؤتمر الوطني بأنه أبدى روحاً طيبة في الحوار المشترك. ولكن تحالف قوى الإجماع الوطني قابل لقاء الرئيس عمر البشير والسيد الصادق المهدي بامتعاض بالغ، واعتبره المؤتمر الشعبي محاولة يائسة من المؤتمر الوطني لاختراق المعارضة، وشل حركتها. وأحسب ان هذه الخطوة الاستباقية للمؤتمر الوطني تجاه القوى والأحزاب السياسية المعارضة، تؤكد براعته في استخدام الأساليب التكتيكية، وتُظهر مدى ضبابية المعارضة في دعواها إلى إسقاط النظام، وتحديد آجال لهذا الإسقاط، حتى بدأ يسخر منها أصحابها قبل غيرها. وعجزها التام عن اصطفاف الشارع حولها. ولكننا ندعو المؤتمر الوطني في هذه المرحلة التاريخية لبلادنا، إلى الصدقية في دعوته إلى حوار جاد وعميق لقضايا الوطن وإشكالياته، والتعاون في ذلك مع جميع أبناء الوطن، والبحث عن جوامع تجمع السودانيين بعد انفصال الجنوب، حتى لا تحذو حذوه بعض أجزاء الوطن، وعندئذ لات ساعة مندم. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ". وقول الشاعر العربي عمرو بن الأهتم السعدي المنقري التميمي: وكلُّ كَرِيم يَتَّقِي الذَّمَّ بالقِرَى ولِلخَيْرِ بينَ الصّالحينَ طَريق ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجال تَضيقُِ لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَد بأَهْلِهَا