images (23)    شاهد بالصورة والفيديو.. خجل وحياء عروس سودانية من عريسها في ليلة زفافهما يثير اهتمام جمهور مواقع التواصل    شاهد بالصورة والفيديو.. خجل وحياء عروس سودانية من عريسها في ليلة زفافهما يثير اهتمام جمهور مواقع التواصل    شاهد بالفيديو.. قائد قوات درع الشمال "كيكل" يدخل في وصلة رقص "عفوية" مع (البنيات التلاتة)    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يظهر بأحد الملاعب العالمية ويتابع مباراة كرة قدم.. تعرف على الحقيقة!!    شاهد بالصور.. المذيعة نسرين النمر توثق للحظات العصيبة التي عاشتها داخل فندق "مارينا" ببورتسودان بعد استهدافه بمسيرات المليشيا ونجاتها هي وزميلتها نجمة النيل الأزرق    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يظهر بأحد الملاعب العالمية ويتابع مباراة كرة قدم.. تعرف على الحقيقة!!    باريس يقهر آرسنال ويتأهل لمواجهة إنتر في نهائي دوري الأبطال    بهدفين مقابل هدف.. باريس يقهر آرسنال ويتأهل لمواجهة إنتر في نهائي دوري الأبطال    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    عندما كان المصلون في مساجد بورتسودان يؤدون صلاة الصبح.. كانت المضادات الأرضية تتعامل مع المسيّرات    سقوط مقاتلة أمريكية من طراز F-18 في البحر الأحمر    ريال مدريد وأنشيلوتي يحددان موعد الانفصال    المسابقات تجيز بعض التعديلات في برمجة دوري الدرجة الأولى بكسلا    ما حقيقة وجود خلية الميليشيا في مستشفى الأمير عثمان دقنة؟    التضامن يصالح أنصاره عبر بوابة الجزيرة بالدامر    اتحاد بورتسودان يزور بعثة نادي السهم الدامر    محمد وداعة يكتب: عدوان الامارات .. الحق فى استخدام المادة 51    أمريكا: الهجمات بالمسيرات على البنية التحتية الحيوية تصعيد خطير في الصراع بالسودان    المضادات الأرضية التابعة للجيش تصدّت لهجوم بالطيران المسيّر على مواقع في مدينة بورتسودان    "آمل أن يتوقف القتال سريعا جدا" أول تعليق من ترامب على ضربات الهند على باكستان    في مباراة جنونية.. إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لجنة حدود السودان البريطانية – الفرنسية .. بقلم: باربرا ريس ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 30 - 01 - 2011

لجنة حدود السودان البريطانية – الفرنسية (1922 – 1923م)
باربرا ريس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: يقولون إن كل فتاة بأبيها معجبة. ومصداق ذلك في هذا المقال لباربرا ريس (والذي نترجمه هنا بتصرف شديد) عن التعاون (النادر الحدوث) بين بريطانيا وجارتها اللدود فرنسا في عملية ترسيم حدود السودان الغربية (أو قل تقسيم الكعكة بين الدولتين الاستعماريتين العريقتين) . فالكاتبة هي ابنة الرائد (الكابتن) اوستن شالسي جيمس (1895م – 1970م)، والذي لعب دورا مهما في عمل اللجنة البريطانية – الفرنسية المشتركة التي أنيط بها ترسيم حدودنا الغربية في عامي 1922 – 1923م. نشرت السيدة ريس مقالها في مجلة "دراسات السودان" البريطانية في عددها الثاني والأربعين والذي صدر في يوليو 2010م.
يكتسب المقال بعض الأهمية في الظرف الحالي الذي يتحدث الناس فيه عن ترسيم الحدود بين دولة السودان (الشمالي) ودولة السودان (الجنوبي) وعن أهميته، وكأن الحدود بين السودان وجيرانه الآخرين قد تم ترسيمها بصورة نهائية! كذلك نلحظ اليسر والسهولة التي تمت بها عمليات الترسيم على أرض الواقع دون الحاجة لعشرات اللجان التي لا تجتمع إلا لتنفض، ولا غرو إذ أن بعض الأقاليم التي يعين لها الآن جيش جرار من الحكام والإداريين والموظفين كان يحكمها شخص أو شخصان، وبكفاءة مماثلة (على أقل تقدير)!
لم يحدث أن تعاونت بريطانيا مع فرنسا في أمر ما إلا في أخريات القرن التاسع عشر. عندما تقدم الدبلوماسي الفرنسي "فرديناند دى لسبس" بفكرة حفر قناة السويس، قرر رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (بنجامين دزرائيلي) أن يساهم في المشروع أملا في جني ثماره المرتقبة والمتمثلة في تسهيل وتنمية التجارة البريطانية مع مستعمراتها في الشرق. كانت بريطانيا قد وجدت لها "موطئ قدم" في كل من مصر والسودان. وفي أعقاب الحرب الكبرى اتجهت أنظار وعقول الأوربيين إلى أفريقيا، ووجدت كل من فرنسا و"ممتلكاتها الأفريقية" المتمثلة في تشاد الفرنسية و يوبانجي شاري (الاسم السابق ل جمهورية "أفريقيا الوسطى". المترجم) ، وبريطانيا و"ممتلكاتها الأفريقية" المتمثلة في "السودان الإنجليزي المصري" نفسيهما في حاجة عاجلة لترسيم الحدود بين تلك الأقطار التي يحكمانها، فقامتا بتكوين لجنة مشتركة سميت باسم لجنة الحدود البريطانية – الفرنسية، وترأس الجانب الفرنسي فيها العقيد (الكولونيل) بولينير، بينما ترأس الجانب البريطاني الرائد (الكابتن) اوستن شالسي جيمس، كرئيس مناوب لتلك اللجنة. بدأت اللجنة عملها بمسح كامل للمنطقة.
كان الرائد جيمس قد التحق بخدمة شركة المساحة الهندسية الملكية عام 1917م؛ وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولي قاد "مجموعة المراقبة السادسة" ، بينما كان لقائد الجانب الفرنسي العقيد بولينير تأهيل مماثل في فرقة المساحة بسلاح المهندسين الفرنسي. قام الرائد. جيمس بتدوين مذكراته الشخصية (في جزئين) عن فترة عمله في تلك اللجنة المشتركة خلال عامي 1922م و 1923م. حاولت هنا اقتطاف أجزاء معينة من تلك المذكرات تعطي فكرة معقولة عن خلفية نشاط تلك اللجنة من وجهة النظر البريطانية.
المذكرات الأولي:
تناولت المذكرات الأولى الجزء الخاص بترسيم الحدود بين السودان وتشاد. كانت دارفور على الجانب السوداني من الحدود؛ وكان هناك اتفاق سابق على أن يكون وادي هوار حدودها الشمالية، وذلك بناء على خط طول وعرض معلوم. شملت الرحلة الميدانية الأولى للجنة عبور نهر النيل والتوجه غربا. وصل الجانب الفرنسي إلى كرنكي (شمال شرق الجنينة بدارفور) يوم الثاني من يناير 1922م، وبدأوا العمل على الفور. قسم الرائد جيمس العمل بين ضباطه وجنوده، فتوجه هو إلى جهة الشمال، بينما أمر الشاويش برستو وآخر يسمي برايس بالتوجه جنوبا. ويبدو أنهم كانوا محل تقدير وحفاوة الأهالي في المناطق التي زاروها (فيما عدا قليل من الأماكن المعادية) ، فلقد ملأوا أمتعتهم بالمنتجات المحلية من بيض ولبن. كان الجانبان البريطاني والفرنسي أثناء تجوالهما يتبادلان الرسائل في ما بينهما بواسطة البريد (المنقول على ظهور الإبل أو الخيول فيما نحسب. المترجم) وفي حراسة مشددة من قبل رجال الشرطة. تبادل الجانبان أكثر من سبعين مراسلة بينهما في أثناء ذلك الطواف. تتطلب عمل أفراد اللجنة الصعود على الجبال أو القلاع، وحيث أن غالب أجزاء المنطقة كانت صحراء، إلا أن فقد كان ليلها كان باردا وعاصفا.
خلال ذلك الشهر توزع أفراد الجانبين على الخط المتفق عليه، وبحسب ما دونه الرائد جيمس في مذكراته كان هو الأوروبي الوحيد في تلك الأصقاع. لاحظ الرائد أن منطقة جبل بري "موبوءة" بالقرود التي كانت تملأ الفجوات بين صخور الجبال، مما يدلل على أن تلك المنطقة لم تكن صحراء جرداء بالكامل، بل كانت مغطاة بطبقة (رقيقة) من العشب. لاحظ الرجل أيضا أن الجمال كانت هي وسيلة التنقل بالنسبة للفريقين، مما يشير على أن الصحراء كانت تغطي غالب المنطقة التي طاف عليها الفريقان.
كان السكان المحليون يعيشون في مستوطنات (دائمة أو مؤقتة)، ويحكمهم سلطان أو شيخ، وكانوا – على وجه العموم- متعاونين إلى درجة كبيرة، بل كانوا يقومون – دون مقابل فيما يبدو- بتنظيف المنطقة التي كان يعتزم الرائد جيمس أن يعسكر وينصب خيمته فيها، التي يضع بداخلها سريره وكرسي (قماش) وطاولة صغيرة. وقد جاء في مذكراته أنه أقام معسكره في منطقة (وادي) في منتصف الطريق إلى كلبوس (كما يبدو من الخريطة المصاحبة للمقال تقع كلبوس هذه الآن في الجانب التشادي من الحدود. المترجم)؛ وكان يعمل بلا انقطاع من الساعة السادسة حتى العاشرة صباحا، ثم يواصل الطواف على ظهر جمله حتى السادسة مساء. صادف أن التقى الرائد جيمس خلال أحد تلك الجولات بالسلطان، والذي وصفه فيما بعد أنه "جنتلمان رائع" ذلك لأن السلطان أصر على أن يرافق (هو وحاشيته) الرائد في رحلة عودته لخيمته. أكرم الرائد السلطان عند وصولهما للخيمة بكوب من الليمون وفنجان من القهوة. رد السلطان التحية بأفضل منها، إذ أغدق على الرائد بمأكولات وفيرة من الدجاج والبيض والطعام المحلي، وفوق ذلك كله منحه كبشا ضخما!
شكا الرائد جيمس من النقص الدائم في الماء، وكتب في مذكراته عن الإحساس المريع بالعطش الذي كان اعتراه ذات مرة بعد ست ساعات من الطواف. عثر رجاله أخيرا على ثلاثة من الآبار قرب قرية سندي (على الحدود السودانية التشادية تماما قرب وادي هوار). فرح الرائد وقال: "من قال إن هذه البلاد ليس فيها ماء؟". ملأ الرائد – على سبيل التحسب- جميع مواعينه الفارغة بالماء، بيد أنه وجد مصدرا غنيا بالماء في منطقة أخرى هي أندور (تقع في تشاد حاليا)، وهي منطقة تكثر فيها طيور النعام.
في يوم 21 يونيو 1922م وجد الرائد نفسه في هرور في منطقة ناس Nas)) الواقعة تحت السيطرة الفرنسية. وجب عليه في تلك المنطقة تسوية كثير من الصراعات المحلية دونما عون من أحد. لم يقبل السكان في "ناس" مد يد التعاون معه والعمل في خدمته، أو حتى بيع الأغنام له. نصحت السلطات الرائد جيمس بإجبار السكان على البيع، بيد أنه تحاشى تنفيذ الأمر لعلمه أنه في منطقة ليس له على الناس فيها سلطان، فهي مستعمرة فرنسية.
تطلب عمل الرائد جيمس أن يتسلق الجبال ليلا ليستهدي بالنجوم، وكان يرافقه أحيانا زميله الفرنسي العقيد بولينير في جولاته مشيا بالأقدام على الرمال الناعمة. وصف الرائد بعض المناطق في سفوح هضبة جبل مرة بأنها أراض خضراء خصبة. في هذه المنطقة أخبره السكان المحليون بأنهم بريطانيون "هكذا في الأصل" ولإثبات صدقهم أهدوه بقرة ما أن تسلمها حتى لاذت بالفرار! مرت على الرائد أوقات عز فيها وجود الطعام، فكان الأرز (القليل) هو الطبق الوحيد. إن تصادف مرور أحد الأعياد الإسلامية وهو بين السكان المحليين، فإنه كان يهبهم ثورا يذبحونه ويطعمونه، بيد أنه لم يكن يسمح لجنوده المسلمين غير نصف يوم كعطلة دينية.
وصف النواحي الغربية من تلك المناطق، بأنها كئيبة جرداء قاحلة، لكنه عندما عاد من رحلته تلك كان له رأي آخر. كتب أنه رأي قرية "مليط" (الواقعة في خط طول 26 شرقا و خط عرض 12شمالا)، وأشاد بجمالها وبنخيلها (سبق محمد سعيد العباسي الذي نظم: حياك مليط ...الخ. المترجم) ثم مر على "كتم" ، فوصفها بأنها بحق جنة من الأشجار الخضراء مخبوءة بين سلسة من الجبال العالية، وتطل على وادي مليء بأشجار النخل الباسقة؛ وكتب أن ما حول مدينة "النهود"، خلافا لما هو الحال في أكتوبر، تجد الخضرة تكسو الأرض والشجر. وجد الرائد في المناطق الأكثر مدنية استراحات جيدة. ففي استراحة مدينة الأبيض وجد غرفة نوم بأثاث أبيض اللون، وشاهد القطار لأول مرة بعد مرور تسعة شهور!
ما أن وصلوا إلى الخرطوم حتى تلقتهم عاصفة رملية أخرت موعد قيامهم بالعودة بالقطار والباخرة إلى القاهرة.
المذكرات الثانية:
بدأت عمليات المسح الأخرى في شهر أكتوبر التالي، ولكن هذه المرة في الجنوب والذي تختلف طبيعة جغرافيته بالكلية عن ما شاهده الرائد في رحلته العام السابق. كان عليهم ترسيم حدود السودان مع يوبانجي شاري (إفريقيا الوسطى). كانت مهمة اللجنة الرئيسة هي الاستعراف على الحدود التي تفصل الماء المتدفق على نهر النيل من ذلك المتدفق على نهر الكونغو. وصف الرائد جيمس "ديم الزبير" بأنه مكان مثمر فيه الموز والبرتقال والليمون والأناناس. كان موكب الرائد جيمس مكونا من خمس وسبعين عربة (مقطورة)؛ ومعهم رجل شرطة . حدث أن أصابه أحد بطلق ناري في رجله، وكان في حالة سيئة من الألم الممض. أصابت الحمى الرائد نفسه (هكذا تقول الكاتبة. المترجم) في بداية الرحلة، بيد أنه تحامل على نفسه وواصل رحلته خلال الغابات، حيث لم ير إلا نوعا من القرود ذات أوجه زرقاء. استقبله ورفاقه في راجا سلطانها بجوقة من عازفي الأبواق. ساءت حالة الشرطي المصاب، ولم يكن هنالك من طبيب قريب، فتولى الرائد جيمس تطبيبه بإعطائه كمية كبيرة من عقار الكينيا بالفم مع قليل من اللبن (وكانت ستعطى بالحقن لو كان هنالك طبيب). سجل الرائد جيمس أنه انزعج كثيرا في تلك المنطقة الوفيرة المياه من وجود نوع من الحشرات الصغيرة بكميات سببت لهم كثيرا من الضيق، بيد أن ذلك لم يفت في عضده، إذ سجل بفخر شديد في مذكراته ما نصه: "لقد عثرت على نهر كوكا، ونتيجة لذلك فإني أشعر الآن بما يشعر به كل مستكشف ناجح".
في تلكم الأيام يبدو أن أحد رجال شرطة الرائد جيمس من الأفارقة كان قد تناول شيئا سبب له التسمم والجنون. تدخل الرائد جيمس وأخذ بندقية الشرطي المريض منه خوفا على حياته (عبء الرجل الأبيض! المترجم). يروي الرائد أنه كان يحمل دوما بندقيته كي يصطاد بها حين تلوح له الفرصة، فأصطاد وهو على صهوة جواده ما شاء له الله من الغزلان والإوز البري، وذات مرة سقط من ظهر الجواد فكسر أصبعيه! في تلك الأيام كان يرسم حدود السودان مع الكونغو الفرنسي، وسمى ذلك الجزء من السودان "بحر الغزال" قائلا: "لقد وجدت الفاصل الذي منه يتدفق خوران، أحدهما نحو الكونغو، والآخر نحو النيل... لقد اكتشفت مصدر خور يسير في اتجاه نهر دايفو في الكونغو الفرنسي. إن هذا يضع الحدود نحو خمسة عشر ميلا نحو الشرق".
في قرية انقافورا (في "أفريقيا الوسطي" الآن) قابل الرائد جيمس الفرنسي ياسوم سيف، ومن ثم العقيد بولينير. تناول الرائد والعقيد طعام الإفطار سويا ثم بدأ العمل في تحديد المواقع، وفي القياسات والحسابات دون توقف حتى الساعة الثامنة مساء. تناولا طعام العشاء ثم عاودا العمل حتى ما بعد منتصف الليل بأكثر من ساعة. رغم ذلك استيقظ الرائد جيمس وواصل الحسابات والقياسات حتى - كما سجل في مذكراته -: "صار رأسي يلف ويدور كالحلزون"! في غمرة ذلك العمل المجهد أصابت الحمى العقيد الفرنسي فأقعدته، وصار لزاما على الرائد جيمس القيام بالعمل وحده. كتب الرائد أن ذلك العمل كان أكثر من طاقته، وأنه لا قبل له بكل ذلك العبء الضخم، وسب آلة القياسات (المنتجة من الشركة الشهيرة المسماة نوح). مر عليه عيد الميلاد (الكريسماس) وهو مستغرق في العمل، ولكن ما أن أقبل العام الميلادي الجديد حتى صرح الكابتن أنه لم يعده بمقدوره الاستمرار في تل المهمة، فالحمى قد هدته رغم انتظامه في تناول الأسبرين والكوينين.
في تلك المنطقة رأي – وللمرة الأولي- الأفيال، وقاوم إغراء صيدها ببندقيته، إذ أنه كان قد اتخذ على نفسه عهدا بأن لا يقتل حيوانا قط، رغم أن الضباع كانت تهاجم معسكره قرب نهر كيمبي، ويبدو أنها طمعت في حميره! في تلك المنطقة كان يضع رجلا في "السودان" وأخرى في "الكونغو الفرنسي".
في قرية بري (على نهر بري) صادف طبيبا سوريا، وكان هذا من حسن حظه، فلقد كان مصابا بنوبة أخرى من الحمى وكانت ذبابة التسي تسي قد فعلت فعلتها في أذنيه. عالجه الطبيب ونصحه بلبس سروال (بنطلون) طويل بدلا عن الرداء القصير الذي كان يلبسه، وأن يرتدي قميصا من قماش ثقيل نسبيا فوق "فنلة داخلية" من القطن. لم تنجح تلك الاحتياطات من إصابة الرائد بالدوسنتاريا والملاريا معا! أراه الطبيب السوري تحت المجهر الضوئي شرائح لطفيل "مرض النوم"، وكذلك عرض عليه بعض الحالات المتأخرة للمصابين بذلك المرض. أصابه الوهن لدرجة أنه لم يعد قادرا على المشي، وصار يحمل. سجل أن عملية "الحمل" هذه كانت كابوسا شديد الوطأة على نفسه. سجل في مذكراته أيضا أنه شاهد أعداداً كبيرة من النحل في تلك المنطقة، وكذلك شاهد "وحيد القرن" والذي وصفه بأنه "حيوان مخيف قبيح المنظر". في تلك الأيام تركه الطبيب السوري وهرع لقرية "راس ديلي" حيث كان العقيد الفرنسي يرقد طريح الفراش.
من الإيجابيات التي ذكرها الرائد جيمس في رحلته، أنه أينما كان يحل بجنوده، كان الأهالي يقيمون – على عجل- سوقا قريبا منهم. سجل في مذكراته: "اشتريت منهم لطباخنا ذات مرة ست دجاجات ودستة بيض وثلاثين كيلو من الدقيق، وكل ذلك نظير خمسة قروش وأربعة زجاجات فارغة! يا لها من صفقة رابحة"!
أخيرا تم إنجاز ترسيم الحدود، وبقي عليه رسم الخريطة النهائية. كان ذلك في مايو من عام 1923م. كان عليه العودة شمالا عبر "موجا" وأراض تغمرها المياه حتى يصل إلي "يامبيو" ، حيث كان هناك مفتش للمركز قام بدعوة الإنجليز من مرافقيه لبيت "إنجليزي" صميم لحفل شاي، حيث ارتدى الجميع ملابس بيضاء اللون. في يوم الأحد دلفوا للكنيسة حيث غنوا جماعيا الكورال الشهير " إلى الأمام أيها الجنود المسيحيين" بلغة الزاندي. أعجب الرائد جيمس بالمغنين من الصبية السودانيين وسلوكهم المؤدب الرائع.
لم يتبق للرائد جيمس إلا ثمانية وعشرين يوما حتى يصل إلى "الرجاف" ثم المركب. سافر ومعه العقيد الفرنسي إلى "مريدي" حيث لقي مفتش المركز، والذي سهل لهما طريق العودة إلى الخرطوم.
الخلاصة:
نجح الرائد البريطاني والعقيد الفرنسي في مهمتهما الخاصة بترسيم الحدود في مناطق واسعة من حدود السودان الغربية والجنوبية رغم غوائل المرض ومشاق الطريق. كانت تلك من المهمات القليلة التي نجح فيها البريطانيون والفرنسيون على التعاون المثمر بينهما.
بعد انقضاء خدمته في خدمة جيش حكومة السودان، يمم الرائد جيمس وجهه شطر سيلان (سيرلانكا حاليا. المترجم) للعمل في مصلحة المساحة فيها، وآب إلي موطنه عام 1940م ، وعمل بالجيش البريطاني حتى تقاعده في عام 1946م. رحل عن الدنيا عام 1970م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.