كلما طال عهد الحكم واستطال أمده ، تعذر اقتلاعه . والكلام عن كل أنواع الحكم الجاثمة على صدور الناس ، الكاتمة لأنفاسهم في الوطن العربي وعالمنا الثالثي. الأربعون والثلاثون والعشرون سنة هي في الهم سواء والظلم واحد . وفي دراما الثورات هذه يبحث المتأمل عن فروقات بين الحكام على المستوى الشخصي ليرى مم يتكون هذا النوع من البشر . استشرى الفساد في عهد نظام زين العابدين بن علي وكان المحرك الأساسي لثورة الياسمين في تونس. كل شيء كان واضحاً في تونس ، لدرجة قرّبت صورة محمد البوعزيري محروقاً بكل تفاصيلها من أذهان الناس ، فلم يبق ما يُقال. كان فعلٌ فجّر الثورة هناك . ومن بعد ذلك جاءت ثورة مصر فقالوا أنه رغم كل شيء إلا أن الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك كان متواضعاً. ولما نضجت ثمار الثورة وتأهب الناس لقطافها وجدوا أن النظام السابق كان يرعى في الفساد من رأسه حتى أخمص قدمي تابعي السلطان وبطانته التي لا تشبع . أما عهد العقيد القذافي فيصلح مثالاً للحكم المطلق للفرد الواحد ، حكماً منزهاً عن النقد ، فهو يرى أن عظمته تتسع لهذا الحكم الأبدي لذا ترفّع عن الألقاب فليس هناك صفة رسمية للقائد الأعظم ، فلا هو رئيس دولة كغيره ولا هو رئيس جمهورية زائلة . والقائد هذه موجودة في أدبيات النازية ، فالفوهرر (أي راعي القطيع) ما هو إلا القائد هتلر وأمثاله. أما شبيهه المصاب بجنون العظمة والمحتفظ باللقب لأكثر من أربعين عاماً فيرعى حق هذا اللقب دون أن يتعظ من التاريخ . لا شك أنه كذلك يترفع بأحلامه العريضة من أن يلاقي مصير سميّه . بدأ أولاً بدور النبي المرسل من عند نفسه ، برسالته التي سعى إلى تقديسها في الكتاب المأخوذ من هوامش الكتب الأخرى دون تعمق وهو "الكتاب الأخضر" . فهو يخطف نصف الجملة من ذاك الكتاب ويكملها من بنات أفكاره دون رابط موضوعي بين الفكرتين ، فخرج الكتاب وكل ما فيه كلاماً غير مترابط ولا يخضع لأي قياس عقلي أو نقدي . فلا أحد عاقل يحتمل قراءته أو الكتابة عنه ، اللهم إلا الجمعية الموظفة بالمال لأغراض البحث كما يُدّعَي لهذا الكتاب المثير للسخرية. ولأن القذافي يعيش في أوهامه التي حاكها بنفسه ولنفسه فقد نفى ورجاله في بدايات الثورة أي تحركات للثوار . وكذبوا ما يراه العالم من صور حية تبث على الهواء مباشرة من موقع الاشتباكات بين شعب ليبيا وجنوده المرتزقة . ومازال في أوهامه يتحرى الكذب حتى تم كتابة كل شيء على لوح مسطور وهو ألا رجوع للأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة. أذاع مؤخراً وبنفس البيانات الكاذبة أنه استعاد سيطرته على مدن ليبيا من الثوار، ودعا رجاله للاحتفال والرقص على أشلاء الضحايا ، ولكن الصور الحية كذّبت زعمه وسيظل على هذه الحال إلى أن ينقلب شر منقلب. من مظاهر الكذب والتلفيق الإعلامي المتأثرة ببدايات ثورة ليبيا كان مظهراً واحداً شاذاً عن كل ما تناوله الإعلام العربي والعالمي عما جرى ويجري في ليبيا . ذاك هو مشهد مقدم برامج في تلفزيون السودان سأل ضيفه المتمكن جداً في الشأن الليبي هذا السؤال الغريب : لماذا قام الشعب الليبي بهذه الثورة والجميع يعلم أنه يرفل في بحبوحة من العيش؟ وما كان من الضيف إلا أن فغر فاه وقال له :لا لا لا !!! يرى المذيع المسكين أن الشعب الليبي يعيش في بحبوحة ويستغرب الثورة ، بينما ينقل لنا موفد قناة العربية تقريراً كاملاً من أحياء الصفيح "حي الأكواخ" في بنغازي بوضعه المزري كما هو دون زيادة أو نقصان ، وأقل ما يمكن أن يقال عن ذاك الحي أنه لا يصلح للعيش الآدمي . عن صحيفة "الأحداث" moaney [[email protected]]