المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البروفسور عثمان سيد أحمد في رحاب الله وفضاءات التاريخ ... بقلم: إمام محمد إمام
نشر في سودانيل يوم 31 - 03 - 2011

شغلت تطورات أحداث الثورات والانتفاضات الشعبية العربية المتسارعة، الكثير من وسائل الإعلام المختلفة، بُغية تغطية تدافعها بكثير من التفاصيل، لما أحدثته من حراك سياسي واسع، وزخم ثوري وانتفاضٍ قوي، وتداعيات مثيرة، ومآلات عديدة، في العديد من دول العالم العربي، فكان بعضها قد دنا قطافها، كما حدث في كل من تونس ومصر، والبعض الآخر لم يحن قطافها بعد، مثل ما يحدث في ليبيا من أحداث دموية، وما يحدث بدرجاتٍ متفاوتةٍ في اليمن، وتوسع حراكها ليشمل بعض الدول العربية بدرجات متباينة، مثل ما حدث ويحدث في البحرين وسلطنة عُمان والكويت والأردن وسورية والسودان والمغرب والجزائر وموريتانيا وغيرها. وأحسب أن الانشغال بأخبار هذه الثورات والانتفاضات الشعبية العربية ومتابعة تطورات أحداثها، بطريقة لم تشهدها المنطقة العربية من قبل، غيّب الكثير من الأخبار المهمة التي ما كادت تغيب أو تُغيب عن الإعلام السوداني والعربي والإعلاميين السودانيين والعرب، محلياً وعربياً، وشغلت الناس عن سواها، ولا سيما بني وطني داخل السودان وخارجه، من ذلك خبر وفاة أستاذ الجيل البروفسور عثمان سيد احمد إسماعيل البيلي وزير التربية والتعليم والتعليم العالي السوداني الأسبق يوم الاثنين 14 مارس 2011، سمعت خبر الوفاة متأخراً، ووصلني نعي الناعي لوفاته بآخرة، وما كنا ننشغل، ونحن تلاميذه، عن مثل هذا الحدث الجلل، والمصاب الفادح، والخطب الأليم، فإن غيّب الموت عالمنا الكبير وأستاذنا الجليل، وجب علينا الإكثار من الدعاء له بأن يتقبله الله تعالى قبولاً طيباً حسناً، ويلهمنا جميعاً أهله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه ومعارفه داخل السودان وخارجه الصبر والسلوان. فالموت علينا حق، وهو من القضاء المبرم الذي لا فكاك لنا من حدوثه، ولا خيار لدينا من تفاديه، إذ أنه مدركنا أينما كنا، ولو كنا في بروج مشيدة، تصديقاً لقول الله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". لذلك إن قول الشاعر الجاهلي زياد بن معاوية الغطفاني الذبياني، المعروف بالنابغة الذبياني، في اعتذارياته للملك النعمان بن المنذر:
لكلفتني ذنبَ امرئٍ وتركته كذي العُرّ يُكوَى غيرُه وهو راتعُ
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنك واسِعُ
وأعتبر النقاد أن وصفه للنعمان بأنه كالليل يدركه أينما يكون، هو أحسن ما قالت العرب شعراً في الاعتذاريات، بحجية أن الليل لابد أن يدرك الإنسان، وأحسب أن الليل لم يعد ذلك الأمر الذي لا يمكن تفاديه، باعتبار أن وسائل النقل الحديثة أتاحت للمرء إمكانية التنقل دون أن يدركه الليل، ولكن الموت هو الذي يدركنا، وإن خلنا أن المنتأى عنه واسع. هذا لا يقلل من شعر النابغة الذبياني، الذي قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لوفد بني غطفان إنه أشعر شعرائهم، فالشاعر ابن بيئته.
لقد كان رحيل أستاذنا الجليل البروفسور عثمان سيد أحمد حدثاً جللاً، ومصاباً فادحاً، وخطباً أليماً، ليس لأفراد أسرته المكلومة، ولا لعشيرته الأقربين المصابة، ولكن لكل أصدقائه وزملائه وتلاميذه ومعارفه داخل السودان وخارجه. ورحيل عالم جليل، وأستاذ عظيم، وإنسان نبيل، في قامة البروفسور عثمان سيد أحمد، فقد عظيم لبني السودان كلهم، لأنه علمٌ من أعلام السودان العظام، ومرجع من المراجع المهمة في علم التاريخ، وأحد معلمي الأجيال الأفذاذ. وكان أستاذي الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد، عالماً موسوعياً، ومفكراً إسلامياً نيراً، ومحدّثاً لبقاً، ومحاضراً عظيماً، ومعلّماً بارعاً. كان أستاذي – يرحمه الله تعالى – طيّب المعشر، كريم الخصال، عذب الحديث، جميل الخطاب، عميق البيان. علمنا ضرورة الإصغاء، وأهمية الحجة والبرهان، ودربنا على حسن المجادلة، وقوة التبيان، والثبات على المبادئ. وكان أستاذي الراحل لا يعرف العبوس في وجه طلابه، ولا الغضب في غير موضعه، ولا الشدّة في غير اللزوم، ولا الصرامة في غير محلها، كان يترفق بنا، ويحنو علينا، وهذا ديدنه مع طلابه في جامعة الخرطوم وغيرها من الجامعات داخل السودان وخارجه. وكان يتسم بالتواضع في غير تكلفٍ، وبالرفق في غير تصنعٍ، وبالحزم في غير غلظةٍ. وكان اجتماعياً رفيقاً في تعامله مع الآخرين، وكان أباً حانياً مع طلابه في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، أستاذاً في الكلية، وعميداً لها، وأنا شاهدٌ على ذلك، باعتباري أحد طلابه في ثمانينيات القرن الماضي، ولم يكن في ذلك التعامل بشديد الغضب، ولا بحاد الطبع، ولا بغليظ القلب، بل كان رقيقاً معنا، عطوفاً علينا، حليماً إذا أخطأنا، بشوشاً حين يلقانا. كان في تواضعه الجمّ يلتزم آداب الإسلام، لا سيما وأنه الإسلامي حركةً وحراكاً، والمسلم ديناً وتديناً، والملتزم بالإسلام عقيدةً ملزمةً، وحركةً منفتحةً. كان تواضعه الجمّ، التماساً صادقاً، لمقاربة حاله هذه، من حال الذين قال فيهم ربنا سبحانه وتعالى في محكم تنزيله، وبديع آيه: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً". وأحسبه في هذا التواضع، وذلك الخلق القويم، يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه، درجات قائم الليل، صائم النهار". حديث صحيح (رواه أحمد بن حنبل وأبو داؤد والحاكم). وكان أستاذنا الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد يلزم نفسه في تعامله مع الآخرين، حكمة القول المأثور: "الدين المعاملة"، لما في هذا القول من معانٍ عظيمةٍ، وحكمةٍ بالغةٍ، على الرغم من علمه بأنه ليس بحديث نبوي، كما هو شائع بين الناس، ولكنه من كلام العلماء الذي لا يخلو من حكمةٍ سديدةٍ، ورؤيةٍ صائبةٍ، فلذلك حرص أيما حرص على أن تكون المعاملة عنده بحسن الخُلق، لأنها من مقاصد الأخلاق الإسلامية السمحة. وقد عهدنا فيه ونحن طلاب عنده، لين الجانب، ورفق المعاملة، وفي الوقت نفسه، لاحظنا فيه القوة من أجل الحق، والثبات على المبدأ، واستشفاف الجمال من كل شيء، وكأنه يتمثل في غير تكلفٍ قول شاعرنا السوداني الراحل إدريس محمد جماع:
هيّنٌ تستخفهُ بسمةُ الطفلِ قويٌ يصارعُ الأجيالا
حاسرُ الرأسِ عند كلَّ جمالٍ مستشف من كلِّ شيء جمالا
وُلد أستاذنا الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي في عام1930 . درس المرحلة الابتدائية والوسطى في مدينة عطبرة، حيث كان والده يعمل في سكك حديد السودان، أما المرحلة الثانوية فكانت في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، ثم كلية الخرطوم الجامعية التي تخرج فيها عام 1950، ثم أُبتعث للدراسات العليا إلى المملكة المتحدة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في تاريخ الدولة العباسية في عام 1956، وبعد عودته إلى السودان عمل محاضراً في كلية الآداب بجامعة الخرطوم. كما عمل عميداً للطلاب في عاميّ 1964-1966، ثم رئيساً لقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1966 – 1970)، وكانت له إسهامات واضحة في تطوير القسم. وأُضطر إلى الهجرة لنيجيريا، عندما فصل انقلاب مايو برئاسة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، مدعوماً في بدئه بالشيوعيين، عدداً من أساتذة جامعة الخرطوم، كان أستاذنا الراحل من بينهم، وكذلك أستاذي الراحل البروفسور عبد الله الطيّب – يرحمه الله تعالى-، وعمل الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد في جامعة أحمدو بيلو بزاريا (1971-1977)، وعندما حدث قدرٌ من الانفراج السياسي في العهد المايوي، عاد الفقيد إلى جامعة الخرطوم، حيث ترأس قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم للمرة الثانية (1978 - 1979)، ثم تسنم عمادة كلية الآداب في جامعة الخرطوم (1979-1980). وضمن سياسة الانفتاح المايوي، ومفاصلة مايو عن الشيوعيين، بصورة واضحة وأكيدة، عملت مايو على الاستفادة من الكوادر الأكاديمية المؤهلة، والكفاءات العلمية العالية ذات التوجه الإسلامي، خاصةٍ بعد المصالحة الوطنية، عُين الفقيد أميناً عاماً للمجلس القومي للتعليم العالي (1982 - 1980)، وأبلى في هذه الأمانة بلاءً حسناً، وطور في أقسامها، وعمل على تفعليها، مما دفع الرئيس الراحل جعفر محمد نميري إلى مكافأته، بتعيينه وزيراً للتربية والتعليم والتعليم العالي (1982- 1985). وبعد انتفاضة 6 أبريل 1985، أُضطر مرة ثانية للهجرة إلى قطر، حيث عمل في جامعة قطر منذ عام 1985، وشغل منصب رئيس مركز الدراسات الإنسانية في جامعة قطر (1985 - 1995)، وتجلّت خبرته الإدارية، وسطعت مهارته الأكاديمية، وتوالت إنجازاته العلمية في تلكم الجامعة. فلا غروّ أن عبرت الأستاذة الدكتورة شيخة بنت عبد الله المسند رئيس جامعة قطر عن خالص تعازيها لأسرة الفقيد. وقالت في تصريحات صحافية عقب وفاته، "إنه كان من العلماء العاملين في مجال علم التاريخ، وكان له تاريخ طويل، وإنجاز عظيم، خلال وجوده في جامعة قطر منذ عام 1985، وعمل رئيساً لمركز الدراسات الإنسانية في جامعة قطر، فكان قريباً من الجميع بنصائحه، وعلمه الشمولي"، مشيرة إلى "أن الفقيد كان قامة علمية كبيرة، وتتضح إسهاماته الخالدة في كل المواقع التي خدم فيها أمته بعلومه الزاخرة، وتواضعه الذي ميّزه في كل تلك السنوات". كما عمل الفقيد مديراً لمركز الشيخ محمد بن حمد آل ثاني لإسهامات المسلمين في الحضارة (1995 - 2011).
عرفت الفقيد منذ أن كنت طالباً في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، وتوثقت صلتي به من خلال عملي متعاوناً في أجهزة الإعلام، مقدماً لبعض البرامج في الإذاعة والتلفزيون، وصحافياً في صحيفة "الصحافة" عندما كان رئيس تحريرها الأستاذ فضل الله محمد. فقد استضفت أستاذي الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد في هذه البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وأجريت معه حواراً مطولاً في جريدة "الصحافة" آنذاك، أضف إلى ذلك أنني كنت مسؤولاً عن الإعلام في أول رابطة لطلاب كلية الآداب في جامعة الخرطوم، إذ لي شرف تأسيسها مع عدد من رسلائي طلاب الكلية. وأحسب أنه من غريب الأمور في جامعة الخرطوم حينذاك، أن تكون هناك روابط للطلاب في كليات الطب والهندسة والاقتصاد والزراعة.. إلخ، ولم تكن هناك رابطة لطلاب كلية الآداب. فكانت المبادرة من لجنة منتدى الفلاسفة في الكلية الذي كنت مسؤولاً عن الثقافة والإعلام فيها، بإشراف أستاذنا الجليل الدكتور كمال حامد شداد الذي شجعنا على تأسيس هذه الرابطة. وكان الفقيد عميد الكلية آنذاك فتحمس للفكرة، ومن ثم أجرينا الانتخابات لتكوين اللجنة التنفيذية للرابطة، وفازت لائحة منتدى الفلاسفة المدعومة من قبل الاتجاه الإسلامي. وكنت همزة الوصل في كثير من الأمور بين اللجنة التنفيذية للرابطة وعميد الكلية، إذ أن العميد كان غير راضٍ عن تصرف رئيس الرابطة في أحد الاجتماعات المشتركة، لأن صوته علا أمام العميد، بصورة أزعجتنا جميعاً، لأنها لم تكن مبررة، فبروح المعلم المربي، أراد معاقبته على هذا التصرف بحرمانه من مقابلته في شؤون الرابطة، دون إصدار عقوبة، وفقاً للوائح، على أن أباشر التعامل معه في شؤون الرابطة. وبالفعل أتاحت لي هذه العلاقة الطيبة فرصة التقرب من أستاذنا الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد، وتوثيق الصلة به، حتى بعد مغادرته الكلية، كنت على اتصالٍ به، سواء عندما كان في الأمانة العامة للتعليم العالي أو وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، وأفادتني هذه العلاقة الطيبة في مساري المهني الصحافي آنذاك. فلا ينكر جهده معنا نحن طلابه إلا جاحد، من حيث تقديمه لنا، سديد النصح ولطيف المتابعة، حتى بعد تخرجنا من الجامعة، وأحسب أن الكثير من طلابه يرددون معي، قول شاعر العربية أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ:
لَهُ أَيَادٍ عَلَىَّ سَابغَةٌ أُعَدُّ مِنْها وَلا أُعَدِّدُها
فقد درسنا على يد أستاذنا الراحل البروفسور عثمان سيد أحمد في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، مادة التاريخ الإسلامي، وحببنا فيها أسلوبه السهل الممتنع في التدريس، وحثّه لطلابه على المشاركة الفاعلة خلال المحاضرة، لتأكيد الفهم، والوقوف على أساليب المناقشة العلمية، والمجادلة الأكاديمية. وكان لا يحب النزاع، ويكره الصراع، وتعلمنا منه ذلك أيضاً، فأدركنا بعد حين أنه في ذلك، كأنه يستشهد بالمتنبئ في قوله:
ومُراد النفوس أصغر من أن نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
وفي خاتمة هذه العُجالة أُناشد إدارة جامعة الخرطوم وعمادة كلية الآداب فيها، بإطلاق اسم الراحل على إحدى قاعات كلية الآداب، وتنظيم حفل تأبينٍ له، وفاءً لما قدمه أستاذنا الراحل لجامعة الخرطوم وللتعليم العالي. فهو الآن في رحاب الله تعالى، وفي فضاءات التاريخ المنصف. وأحسب أنه من الضروري أيضاً أن تبادر الدولة، على تكريمه وتخليد ذكراه عرفاناً بدوره، وتقديراً لجهده في التعليم العالي والبحث العلمي، تصديقاً لقول الله تعالى: "هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ"، وتأسّياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لم يشكر الناس، لم يشكر الله عز وجل" (رواه: أحمد بن حنبل وعيسى الترمذي).
وختاماً أسأل الله تعالى أن يتقبل فقيدنا البروفسور عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي، قبولاً طيباً حسناً، وأن يغفر له مغفرة واسعة، وأن يسكنه فسيح جناته مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا، ويلهم أهله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وطلابه ومعارفه وبني وطنه الصبر الجميل.
"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".
Imam Imam [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.