رغم ازدحام الأيام الافتتاحية والمفتاحية لهذا الشهر بالمناسبات والأحداث الدولية والاقليمية والاجتماعية أيضاً، إلا أننا آثرنا أن نؤجل الحديث عن خارجيات الأمور الي الحديث عن محلياتنا وشؤننا الداخلية، ومنها الخبر السار بإطلاق سراح أحد أبرز المعتقلين من القادة السياسيين التاريخيين في السودان والعالم، وفقاً لمعيار الأقدمية القيادية والكسب السياسي علي أرض الواقع وليس في عالم النظريات. وذلك بالطبع حتى لا يقال عنا إننا لا نتابع أو لا نكترث للأحداث المحلية أو نقدم شؤون غيرنا علي شؤون أنفسنا ودواخلنا، كما أحتفي علي المستوى الشخصي بمناسبة إطلاق سراح الشيخ الدكتور/ الترابي لأنها بالنسبة لي شخصياً كرامة من كرامات حسن المصادفة والطالع، إذ تغمد الله بواسع ألطافه مجازفتي الأخيرة بالشخط في وجه السلطات الحاكمة أو الحابسة بمطالبتها بإطلاق سراحه فوراً ودون قيدٍ أو شرط، كما تقول البيانات السياسية. علماً أن مطالبتي هذه كانت آخر المناشدات المشدِّدة علي ضرورة إطلاق سراح الشيخ الثمانيني/ الدكتور/ حسن بن عبدالله بن دفع الله الترابي، لذلك يمكنني بملء الفم أن أقول إنني كنت القشة الأخيرة التي قصمت ظهر عبء المسئولية والحرج الثقيل الذي ناء بكلكل الحكومة في اعتقالها شيخاً ثمانينياً يحتاج سمعه الي ترجمان ينقل له كلام مكبرات الصوت المطالبة بإطلاق سراحه والهاتفة بحياته، أو القطرة التي فاض بها كيل المطالبات والمناشدات "الشعبية" و"الوطنية" وغيرهما من الفئات والطبقات السودانية. إطلاق سراح الترابي وأي معتقل سياسي آخر لا ينتمي الي تنظيم مسلح أو لم تضبط معه حين اعتقاله آلات أو أدوات ارتكاب جريمة من الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالحبس، يعتبر في نظري خارطة الطريق الي بناء أمة سليمة معافاة من الأحقاد والأضغان ومسببات وفيروسات الانتفاضات والانقضاضات التي تقلب الأرض والبحار والأجواء من حولنا، بينما نحن والحمد لله نائمون في العسل وكأننا قومٌ حولهم ماء لا عواصف ترابية أو بحرية، وهذه نعمة يجب أن نشكر الله عليها بتجفيف منابع إزالتها من المعاصي السياسية والسلوكية والقانونية، وبدلاً من أن نجعل الحوار مع الآخر حواراً أخيراً في باحات وزنازين الأمن يجب أن نجعله حواراً مفتوحاً "ع الآخر" مع من هب ودب ولم يستبد أو يرفع نخرته، وتلك الأصوات النشاز، كما نحب أن نسميها إيهاماً لأنفسنا بقلة خطرها وحقارة شأنها، تلك الأصوات بدلاً من أن نضرب عنها الطناش يجب أن نتعامل معها علي أنها مستصغر الشرر الذي يوقد ويشعل أعظم النيران في بيتنا والجيران. كما يجب أن نتفاهم مع أصوات التظاهر باللسان لا بالبمبان، يجب أن نرسل فرق الحوار المدججة بالفكر وطلاقة اللسان والحجة والمنطق الذي يسنده الواقع الي الجامعات والمعاهد والمدارس، لنقول لهم: يا جماعة الخير، لا تغرنكم النفس الأمارة بتقليد الموضة والسائد، فهي شنشنة نعرفها من أخزم وما قبل أخزم، لذلك إن كانت لكم مطالب محددة علي المستوى الفردي والجماعي، وحتى حلة، حلة، فريق، فريق، حارة، حارة، قولوها لنا في غير وجل، نقوم بتلبية ما استطعنا من مطالبكم وتقوموا أنتم بما لم نستطعه نحن من إحضار لبن الطير مثلاً، ولن نبخل عليكم بأي عونٍ أو معنوي في تسخير العفاريت التي تساعدكم علي جلب ولو قطرة من ذلك اللبن العزيز علينا جميعاً، وكان قدرتو جيبوا لينا معاكم، وإن كنتم أنتم بدوركم غير قادرين علي ذلك، فلن يأتيكم بلبن طير ولا حتى ماءٍ قراح القوات الدولية ولا الطائرات بدون طيار، انظروا الي اضطراب واقتتال من حولكم من الأقوام ووقوعهم في شرّ وحرج هرجهم ومرجهم، بينما أنتم تنامون وتصحون في قدورٍ وبراميل راسيات من العسل المصفى. وأخيراً، لقد ذدنا عن أمدرمان والأرض حشدٌ بمليشيات المؤتمر الشعبي القادمة من ليبيا وتشاد، ووقفنا صامدين والترابي والمهدي ونقد وسلفاكير وباقان وعرمان ومناوي فوق الأرض لا تحتها، واليوم أيضاً سيعهدنا كلٌّ من هؤلاء كما كان بنا العهد، كما قال العقاد لدى خروجه من الحبس السياسي، لذلك فليذهب الترابي طليقاً وليكد كيده، ولينظر هل "يذهبن كيده ما يغيظ"؟، ولن تحصل بإذن الله تعالى المضرة ولا العوجة والاعوجاج، وإذا اختار السلامة والمسالمة فأهلاً به وسهلاً في المنشية بالخرطوم والمسالمة بأم درمان ومرحباً بكل العائدين الي حضن السلام والاستقرار وصناعة الحياة لا صناعة الموت والحانوتية. وتهانينا وأمانينا للسودان بالسلام والأمان ولأسرة الترابي بعودة عميدها ومعتمدها الي داره وأنصاره معززاً مكرماً صحيح العقل والبدن وفي كامل حالته العقلية والبدنية المعتبرة شرعاً. ويا أيها الشيخ الترابي، نرجوك رجاءاً خاصاً أن لا تحملنا أو تجشمنا وأنت في هذه السن المتأخرة مشقة الدفاع عنك وركوب المصاعب في حواشتك من براثن النسور وأظلاف الأسود وحوافر الخيل، ومثلك اليوم يجدر به أن تضرب اليه أكباد الإبل يسأله الناس الدعاء بالأمن والسكينة لا الدعوة الي الثورة والفوران والغليان، نسأل الله السلامة من كل زلل وانزلاق والغنيمة من بر الطاعة والتسليم بأمر الله تعالى والتقلب في نعمته لا رفسها والانقلاب عليها.