خلال الأسبوع الماضي وجدت وزارة المالية الاتحادية ووزيرها على محمود نفسهما تحت دائرة ضوء كثيفة بعد اتخاذ الوزير لقرار بحبس واحتجاز الزميل بالقسم الاقتصادي بصحيفة (السوداني) ابوالقاسم ابراهيم لعدة ساعات ومن ثم إطلاق سراحه لاحقاً. القصة بدأت بحصول الزميل ابوالقاسم على عقد عمل مدير سوق الخرطوم للأوراق المالية والذي حدد مخصصات مدير السوق بواقع مرتب اجمالي يبلغ 18 الف جنية سوداني بجانب عدد من الامتيازات الاخرى من بينها مرتب 4 اشهر كبدل لبس ومرتب 5 اشهر للعيدين بجانب البونص وتذاكر السفر له ولخمسة من افراد اسرته وهي امتيازات ضخمة، ولعل ما اثار التعليقات هو أن مرتب مدير السوق يزيد عن مرتب رئيس الجمهورية البالغ قدره 9 الف جنية ويزيد أكثر من ضعف مرتب نائب الرئيس البالغ قدره 7 ألف جنية. حينما عرض ابوالقاسم الوثيقة على الوزير اقر بصحتها، إلا أن النقطة الأساسية التي اعترض عليها كان سؤاله عن الجهة التي منحته الوثيقة وتسريبها له ثم طلب من طاقم حراسته احتجاز الصحفي ونقله في العربة المخصصة لطاقم حراسته ثم نقل لمقر حماية الشخصيات الدستورية ثم لإدارة الاعلام بجهاز الامن والمخابرات الذين ذكروا لابوالقاسم ان أفراد الحراسة نفذوا تعليمات صدرت اليهم وان الجهاز ليس لديه مانع أو غضاضة في نشر أي تفاصيل مرتبطة بهذا الأمر وقاموا باطلاق سراحه بعد ساعات من الاحتجاز. هذا المشهد يبدو معكوساً فربما اهتم جهاز الامن بتفاصيل تسريب الوثيقة ويحرص على معرفة كيفية تسريبها باعتبارها ترتبط بالجانب التأمييني لوثائق احدى الوزارات السيادية، أم الوزير فيكون مهتم بالرد والتعليق على مبرارات ودوافع تخصيص مخصصات مالية بهذه الضخامة لمدير سوق الأوراق المالية، وما حدث هو العكس تماماً الوزير يقوم بإصدار قرار الاعتقال والتحفظ ويباشر شخصياً مهمة الاستجواب، أما جهاز الأمن فيقوم بالاعتذار عن الاحتجاز ويعرب عدم وجود ما يمنع نشر القضية. ربما توقع الوزير مرور الأمر بسلام ودون ضوضاء ولكنه وجد نفسه في عين عاصفة صنعها (بيده لا بيد ابوالقاسم) فانتقل لتبرير الأمر وبلا حياء بأن الوثيقة سرقت من مكتبه، وما كان يمكنه السكوت على هذا الأمر. ويبدو أنه مصر على توجيه القضية صوب هذا الاتجاه وهو ما يظهره تعليقه (الفج) في مؤتمره الصحفي الذي عقده بمجلس الوزراء يوم الخميس 19 مايو 2011م حينما اعتبر أن الحديث العقد (قضية انصرافية) أما القضية الاساسية "فهو ليس المحتوي وانما المهم أنه مستند دولة تحصل عليه الصحفي من مكتبه بطريق غير مشروع"، وهو تعليق يوضح إصراره وتعمده حرف القضية عن مسارها الأساسي وتوجيهها لما يعتبره أمر (أساسي) بمعرفة كيفية خروج الوثيقة من مكتبه. وبعيداً عن مجادلة الوزير في مدى صحة واقعة السطو على وثائق مكتبه من عدمها، فإننا نمضي معه في ذات المنطق ونسلم بأن الوثيقة مسروقة فإن ذلك يفتح عل الفور باب تساؤولات أكثر من اجابته على الاسئلة، فهذا يعني أولاً وجود خلل تأميني وثانياً وجود قرينات اخريات لهذه الوثيقة المسروقة ربما تزيد اهميتها عن هذا العقد، وهو ما يشير لاهمال وقصور يتحمل الوزير تبعاته السياسية ويستوجب عليه تقديم استقالته من منصبه، اسوة بما قام به كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات في واقعة مشابه حينما تحصلت قناة (الجزيرة) القطرية على وثائق متعلقة بالمفاوضات الفلسطينية حينما اتضح أنها تم تسريبها وسرقتها من داخل مكتبه. أما الاحتمال الثاني لرواية سرقة الوثيقة فهي أنها مختلقة من قبل الوزير م لتبرير مسلكه تجاه ابوالقاسم ولحرف القضية عن مسارها. وبالتالي فإذا عجز عن اثبات واقعة السرقة هذه فيكون ملزم اخلاقياً بتقديم استقالته بسبب لجوئه لتقديم معلومات غير حقيقية وتعمده تضليل الرأي العام، وكما اسلفنا سابقاً فإن اثبات واقعة السرقة نفسها يستوجب عليه تقديم استقالته نتيجة لتحمله للمسؤولية السياسية. توجد تبعات سياسية اخرى إذا تأكد صحة العقد ومحتوياته من وزير المالية أو غيره من المسؤولين ستؤدي لهز صورة الحكومة عموماً ووزير المالية على وجه الخصوص حينما يكتشف الشعب أن الاوضاع الاقتصادية الكارثية جراء انهيار الميزانية بعد مرور خمسة ايام على اجازتها وانقاذها بقرارات موجعة ومؤلمة على الشعب وسط تصفيق نواب البرلمان، يتحملها لوحده ووقعت على رأسه وأن الحجارة المربوطة على البطون تقابلها جيوب منتفخة من الاموال، وهو ما سيفتح الباب بتساؤولات على شاكلة (ماخفي اعظم)، وطبقاً لذلك ترتبط صورة وزير المالية بعدم المصداقية والتي يحتاج لها خلال الفترة القادمة سيما بعد التاسع من يوليو لاجراء بعض المعالجات الجراحية المؤلمة والدقيقة على الاوضاع الاقتصادية اجمالاً. اعتقد أن قضية عقد مدير سوق الاوراق المالية مرتبطة بنقطة ثانية هي التي دفعت الوزير لانتهاج استراتيجية حرف القضية الاساسية لجعل المتابعين يركزون مع الاصبع الذي يشير للشمس بدلاً من رؤية الشمس التي يشير إليها الاصبع، لآن اظهار صحة العقد ومحتوياته ومخصصاته تمثل طعنة نجلاء ومميته للسياسات الاقتصادية التي اعلنها وزير المالية بعد انهيار الميزانية بعد مرور خمسة ايام على دخولها حيز التنفيذ وما انتهجته من اجراءات قاسية حملت المواطنين اعباء فوق طاقتهم بعد زيادتها لاسعار المواد البترولية والسكر، ولجأ الوزير يومها لتقليل وقعها الحديث عن تقليل المنصرفات الحكومية وعلى رأسها مخصصات الدستوريين. إثبات صحة عقد مدير سوق الأوراق المالية ومخصصاته يؤكد الانتقادات التي وجهت لتلك السياسات باتهامها بتحميل المواطنين فوق طاقتهم دونما أن تمس الحاكمين وتحيل كل ما قيل عن تخيض وتقليل مخصصات الدستوريين لمجرد مسكن انتهى مفعوله بعد استخدامه، وما يعمق هذا الأمر هو السياسات التي تقود لتضخم الصرف الحكومي. من بين هذه النماذج ما يحدث حالياً حيث توجد مناقشات لتقليص الجهاز التنفيذي الاتحادي وما يقال عن إمكانية لجوئها لدمج الوزارات الاتحادية حتي لو كان على شاكلة احياء وزارة التخطيط الاجتماعي مجدداً بدمج وزارات (الشباب والرياضة مع الثقاقة والاوقاف) رغم خلو تلك الوزارات من أي انجازات ملموسة منذ استحداثها في عام 1994م وتفصيلها لتتوائم مع مواصفات نائب رئيس الجمهورية الحالي على عثمان محمد طه في ظل ظروف مختلفة عندما كانت الحكومة شعار (المشروع الحضاري) حتي أن هذه الوزارة فقدت بريقها وباتت بدون طعم بعد مغادرة طه لها واستمرت على هذا الحال حتي تشيعها لمثواها الأخير عقب التوقيع على اتفاق السلام الشامل في يناير 2005م. وبذات القدر يتم دمج وزارات تشظت من وزارتها الام قبل تكوين الحكومة الحالية من ال77 وزير عقب الانتخابات الاخيرة ويتم اقتراح تجميع الطاقة مجدداً لاشلائها التي قسمت بين ثلاث وزارات حالية (النفط، الكهرباء والمعادن) حينها بمنطق التخصصية وتجويد العمل ...!!. لكن رغم ذلك الاتجاهخ يوجد اتجاه موازي بالاعلان عن اضافة ولايتين جديدتين بدارفور بجانب ولاية ثالثة جديدة لغرب كردفان وهو ما يعني زيادة المنصرفات لتأسيس تلك الولايات هذا بخلاف جيوش دستوريها التنفيذيين والتشريعيين والتي ستدفع من الخزينة العامة. خلاصة المشهد أن الشعارات التي ترفعها الحكومة وتجتهد في تبريرها لا ترهق خصومها كثيراً في تفنيدها عندما تنفض ذات الحكومة غزلها بيدها، وتناقض بافعالها أقوالها ثم تقوم بتبرير هذا الأمر بمنطق وزير المالية بأن محتوي الوثيقة ليس مهم وإنما المهم هو معرفة كيفية سرقة الوثيقة .. السيد وزير المالية نحن في انتظار ميزانيتك الثالثة التي ستقدمها هذا العام بعد التاسع من يوليو القادم التي سيقابلها النواب بالتصفيق والقبول كما فعلوا مع السابقة، لكن يومها سنرفع لك في وجههك صورة من العقد ومحتوياته غير المهمة، ولا تعتقلنا يومها بتهمة الاستيلاء على ورقة بطريقة غير مشروعة، لقد فهمنا اسباب غضبتك لسرقة الوثيقة من مكتبك، ونطالبك أن تعاملنا بالمثل وتتفهم غضبتنا على اموالنا التي تنزعها من جيوبنا الخاوية بالضرائب والرسوم والاتوات والخدمات المدفوعة ونيران الاسعار الزائدة بسبب ما تنتهجه من سياسات اقتصادية وإكتشافهم أن اموالهم تلك بدلاً من توجيهها للتنمية والتعليم والصحة وغيرها تمنحها انت للبعض ثم تطالبهم بأن يشدوا الاحزمة على بطونهم والاستعداد للعودة ل (عوسة الكسرة) في ما تطلب من اخرين تفصيل جيوب كبيرة ليحملوا ما تجود عليهم من أموالنا ... أنهم غاضبون لانهم يعرفون جيداً الفرق بين الذين سقطوا في الطريق وعجزوا عن اكمال المسير بسبب الجوع وبطونهم الخاوية وبين اخرين ايضاً سقطوا وحال دون بلوغهم لخط النهاية بطونهم المليئة التي اصابتهم بالتخمة حتي اعجزتهم عن الحركة ... mahir abugoukh [[email protected]]