[email protected] ( 1 ) ما أكثر الشّجَن الذي تثيره نسائمُ الرّبيع العربي ، عصفاً عاصفا في الذاكرة السودانية . بعضُ أصحاب الرؤى الخاطفة، يرون أن براءة السودان الآن، مِن مِثل هذه العواصف، تعزّز رؤية "المتأفرقين الجدد"، إذا جاز لي التعبير، في الضفة الأخرى، يرون الربيعَ عربياً محضا، فلا صلة له بالقارة الأفريقية، ولا صلة للسودان به. هي رؤية اختزالية تراجعية فيما أرى ، إذ نحن في الحقيقة الماثلة، لا نزال على توزّع انتمائنا وهواجسنا، عربيا وافريقيا وإسلاميا. تتخفّى قواسم هذه الانتماءات المشتركة بين فينة وأخرى، ولا نتبيّن من بينها، إلّا ذلك المفضيَ إلى الانشطار والتمايز السلبي ، ثم يكون اشتعال النزاعات وإهراق الدم، ورخص الانسان في النهاية، هو ما نجني.. لعلكَ لو نظرتَ في سنوات الحرب الباردة، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، لرأيت قواسمَ أخرى جمعت ذلك العالم الذي سميناه "العالم الثالث"، وقد قويَ عودُه وهو ينمو بين قطبين كبيرين، هما الإتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدةالأمريكية. كنّا في مؤتمر "باندونق" عام1955 ، والذي شارك فيه وفدٌ سوداني ترأسهُ اسماعيل الأزهري، وقد ربط منديلاً أبيضَ على السارية أمامه في قاعة مؤتمر "باندونق" ، مبشراً بتوجّهِ السودان إلى استقلاله القادم. ذلك أمرٌ أقلقَ مضجعَ مصر، وتململ منه جمال عبد الناصر، وهو يرمق الأزهري غير بعيدٍ منهُ، وكبار زعامات العالم النّامي من حوله: شوإن لاي وسوكارنو وتيتو. في الأفق الأفريقي وغير بعيد، يتطلع كينياتا ليحقق لكينيا حلم الاستقلال، وسيكوتوري في غينيا ينصت لما تقول "باندونق"، أمّا كبير غانا كوامي نكروما، فكان يرى لأفريقيا نهضة قادمة. الأزهري وحده الذي حمل إصراراً ليكون رأس الرمح لحراك القارة نحو استقلالها من ربقة الاستعمار، الواضح منه والمُلتبس. بعد استقلال السودان في 1956 ، لحقت به كينيا وغانا وغينيا ويوغندا والكونغو. ثم بلغت القائمة ثلاثة وخمسين بلدا أو أربعة وخمسين بعد التاسع من يوليو 2011 .. لكن ومنذ نيله استقلاله عام 1956، ما عرف السودان استقراراً ، بل من بين أكثر من سبعين انقلاباً عسكريا شهدته القارة الأفريقية منذ الستينات وإلى الآن ، كان نصيبنا نحو ثلاثة انقلابات، ومن نزاعات القارة الأفريقية الأطول، نلنا قصب السبق بنزاع الشّمال والجنوب، ودخلنا موسوعة جينيس للأزمات والنزاعات، وَعَرفَنا العالم إلى أقصى أقاصيه ، وبفعل إعلامٍ وَسَمناه بالظلم، ذلك البلد الذي يعتمد تصفياتٍ عرقيّة وإقصاءاً مؤسساً أطراف أصيلة، واستخفافاً بالحريات وركلاً مِن خلاف لمعارضة تتضعضع في لعبة السياسة . ينسى الناس كبارهم وغمارهم أن للسودان حسنات ومنجزات ، برغم اضطراب مسيرته، وذلك حين ننظر فيها، نحن أصحابها ، فنكاد أن ننكرها ، "وكأنّي ما كأني.." ، على غناء القُرَشيّ والشّفيع . ( 2 ) لن أبعدَ في حديثي هذه المرّة عن الرّياح العاصِفات في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وأين يقف السودان منها ؟ لا يقبل العاقل أن يستثني السودان من مثل هذه الهبَّات العاصفة، بذريعة أنّه البلد العربيّ البعيد من الشرق الأوسط، المنزوي في طرفٍ ناءٍ، فلا هو في القلب منه مثل سوريا ، ولا هو في الشمال الأفريقي بمثلِ موقع ليبيا . ألم يكن انتماؤنا عربياً حين فتحنا صدورنا بعد حرب يونيو1967، واستقبلت الخرطوم زعماء الهزيمة، وألهمهم شعب السودان النبيل صمودا تجسّد في لاءات اعتمدوها في الخرطوم فكانت من علامات القضية العربية الناصعة اللمعان ؟ أجل، ربحتْ إسرائيل المواجهة العسكرية ، أما الدبلوماسية فقد كسبتها الخرطوم إذ أعادت قمة الخرطوم قضية الشرق الأوسط ملفاً تعالجه الأممالمتحدة ويتولاه كبارُ السّحَرَة في المجتمع الدولي. ما عاد الأمر مواجهة بين ضدين حول رقعة أرض وحفنة لاجئين. ولكنك تنظر معي أيضاً، كما نظر صديقنا الشاعر السفير محمد المكي ابراهيم، في مقال له مؤخرا، في ألوان علم البلاد، فتراه وقد بدّله النميري اوائل السبعينيات إلى ألوان عربية ، لن يجدي معها انكار تماهينا مع أصحاب هذه الألوان، ثقافة ولغة ووجدانا. والنميري يا هذا هو أول رئيس جمهورية في السودان ، لا نغمطه هذا الحق وإن عرفنا أنه جاء يحكم على ظهر دبابة. عزّز النميري، وخاصّة في سنوات حكمه الأولى، بعض مستحقات انتمائنا إلى الدائرة العربية. لا أطيل عليك بسرد حيثيات ستقنعك حتماً أنّ رأس السّوط ، بعد أن ألهب ظهوراً عربية من حولنا ، لن يعفينا فنركن إلى دعة مُزيّفة. لطالما سبق السودانُ جيرانه باختراقات سياسية لم يبلغوها إلا بعد سنوات، بل وبعد عقودٍ طويلة. ما وقع عندنا في أكتوبر 1964 من ثورةٍ شعبية أنهت حُكماً عسكرياً امتد لسنوات، ثم ما وقع في ابريل 1985، هبة قوضت حكم النميري العسكري، بعد ستة عشر عاما من حكم الفرد القابض، وقد أوشك أن يستعلن نفسه خليفة للمسلمين في السودان ، يجلد هذا ويقطع ذاك من خلاف ، بل وأجاز بما رآه أكثر العقلاء باطلاً منكرا، إعدام شيخ بلغ من العمر عتيا، واتهمه بالرِّدة . ( 3 ) لم يكن السّودان بدعا في انقلاباته العسكرية، ولا كان له قصبُ السّبق في ابتدارها ، فقد سبقه إلى موسوعة "جينيس" للإنقلابات العسكرية، جنرالات في سوريا انقضّوا على ديموقراطيات هشّة ، ورسّخوا ممارسة صارت وباءاً عمّ أنحاء العالم الثالث في أغلب بلدانه. لكن الذي افترعه السودان، هو الطريق الذي تتخلص فيه الشعوب من ديكتاتورييها القابضين، ممن جاءوا على ظهور الدبابات وتحكموا في مصائرها. لقد أنجز الشعب الأعزل في الخرطوم عام 1964 انتصارا على حكمٍ عسكري ، أنجز بعده طريقا إلى الديموقراطية ، ما عمّر غير سنوات قليلة ، فوثب عسكريون من جديد وعلى ظهور دباباتهم ، لا ليحموا الحدود من معتدٍ أجنبي ، بل لتأسيس حكم عسكري جديد، يأخذ بيد الشعب إلى التحرر والنماءِ، حسب زعمهم . ولكن لم تكن سنوات النميري الشمولية، وقد بلغت عقدا ونحو نصف عقد، لتقارن بسنوات الفريق ابراهيم عبود الست أو في مختلف جوانب أدائها. سبقَ السودانُ في عام 1964 ، هذه الهبّات التي يشهدها الشرق الأوسط والشمال الأفريقي الآن، بثورةٍ في الشارع السوداني فأجبرت الحكم العسكري إلى التداعي والانهيار. جاءت في أعقاب حكم عبود العسكري، حكومة تمثل صوت الشعب الثائر، وأرستْ سابقة في الشمال الأفريقي ، بل وفي القارة الأفريقية كلها ، لم نشهد مثيلاً لها . لم يكن الدرس الذي قدّمه السّودان درساً في الثورات فحسب، بل في كيفية إخراج سيناريو التخلّص من الديكتاتورية القابضة. ( 4 ) كنتُ أنظر في السِّفر الذي كتبه الأمريكي كليف تومسون، وقد كان مدرساً للقانون في جامعة الخرطوم، ساعة انطلاق شرارة ثورة أكتوبر من عام 1964 ، فسجل يومياتها في كتابه " يوميات ثورة أكتوبر 1964" والتي أنجز ترجمتها صديقنا العالم الحاذق، بدر الدين الهاشمي في أكتوبر 2010 ، وصدرتْ ضِمن مشروع "كتاب في جريدة" من صحيفة "الأحداث" في ذلك التاريخ، فوقفت طويلاً عند "خارطة الطريق" التي جرى تنسيقها في عفوية وعبر مفاوضات مضنية ، انتهت بخروج الفريق عبّود، وتنحيهِ نهائياً، ثم قيام حكومة مؤقتة رأسها سر الختم الخليفة، بعد أيام قليلة من قيام الثورة . كان الرئيس عبود، فيما حكى تومسون ، مشغولاً كل الانشغال بهيبة الجيش. لم يكن تردّده - وقد رأى الشعب يصرّ على رحيل نظامه- إلا بسبب حرصه على سلامة المؤسسة التي جاءت به إلي سدّة حكم البلاد لسنوات ست. كبار الضباط من حوله مارسوا ضغوطاً عليه، وقد شهدوا بأعينهم غليان الشارع بأكثر ممّا هو متاح لرئيس البلاد. نقلوا إليه الصورة ، ووقف ساعده الأيمن يميل إلى إنهاء الحكم العسكري . لم يكن اللواء حسن بشير نصر ممن يوالون الباطل، بعد ظهور الحق أبلجا، فوقف مع رئيسه الفريق عبود، لكنه استعان بضباط الرتب الوسيطة الأقرب لنبض الجيش وللشارع، فأنصت وأدرك أن الحكمة هي في اتباع طريقٍ، يتيح للرئيس الفريق عبّود خروجاً مشرّفا . لم يختر أن يواجه الرئيس مواجهة صريحة أو يستقيل، بل اكتفى بالتزام بيته، وكأنّه يعفي نفسَه من مهامهِ طواعية . ذلك كان من موجبات الرُّتبة التي يحمل علاماتها على كتفه، فهو لواء ويحترم رئيسه المباشر الفريق عبود. ( 5 ) تزايدتْ إلى ذلك، الضغوط على الفريق من ضابطين كبيرين مقرّبين للفريق هما الطاهر عبد الرحمن ومحمد ادريس عبد الله. اقتنع الفريق عبّود، لكنّهُ ولحفظ كرامة الجيش وسلامة وحدته، رأى وبعد قبوله حل المجلس العسكري ومجلس الوزراء ، أن يبقى هو رأساً للدولة حتى لا يقع فراغ دستوري فتعم الفوضى ، ثم طالب بأن تكون حقيبتا الدفاع والداخلية من نصيب الجيش ، لا لسبب إلا لصون الهيبة وضمان تماسك وحدة القوات المسلحة . كان ذلك ضروريا في حسابات الرّجل، حتى لا يطمع طامع في القيام بانقلاب مضاد، أو تنهار المعنويات وينفرط عقد الجيش، في بلد مساحته مليون ميل مربع . جرَتْ بعد ذلك جولاتٌ من تفاوضٍ مضني شاركت فيه قيادات من المجتمع المدني، بينهم أكاديميون ومهنيّون وزراعيون وعُمّال، وقد كان لهم الدور الأبرز ، وقياداتٌ من أحزاب سياسية تقليدية راسخة، من اليمين ومن اليسار ومن الوسط . في الجهة المقابلة من مائدة التفاوض، رجال قريبون من الفريق عبود وبعضهم يمثل الجيش، شبابه الأقرب لنبض الشارع العريض . كان هاجس العسكريين حفظ الهيبة التي أرادها عبّود لقواته المسلحة . أعلن خروجه من القصر ، بضمانات قليلة .. وقعت تطوراتُ سياسية والإدارة الجديدة في الخرطوم تسعى لتثبيت أركان ثورتها . قبل عبّود بحلٍ وسط . ظلّ بعد تشكيل حكومة الثورة، رأساً للدولة بصلاحيات محدودة ليوم وبعض يوم ، غير أن الرؤية لا تزال ملتبسة والشارع على اضطراب والجيش على تردد. فيما تزايدت الشكوك هنا وهناك، بادر الفريق بإعفاء عددٍ من الضباط دون أن يراجع وزراء الثورة وحكومتها. حكى ك.د.د. هندرسون، وهو يتناول هذه الحقبة من تاريخ السودان في كتابه "جمهورية السودان" (لندن، 1965)، كيف تصرف عبّود وكيفَ آثر، تجاوزا للخلاف مع الحكومة الجديدة، أن يتنازل عن رئاسة الدولة، وأذاع بيان التنحي بنفسه في منتصف نوفمبر من عام 1964. بعد حصوله على ضمانات تحفظ هيبة الجيش وتماسكه، سلم الرجل السلطة بكاملها لمجلسٍ للسيادة، تشكّل من أعضاء خمسة ، وذهب عبود إلى بيته في هدوء. كان الرجل وكل رجاله معه ، مستعداً للمحاسبة الجنائية، أما السياسية فتلك قصة أخرى. . ( 6 ) بعيداً عن تقييم فترة حكمه ، وما شابها من حرب شعواء ضد المواطنين في جنوب السودان، وقمع عنيف للمعارضة وصل أقصى درجاته في مواجهة طلاب جامعة الخرطوم ثم الشارع العريض كله بعد ذلك، كما لم تخلُ فترة حكمه كذلك من بعض حماقات جرت في أكثر الأحوال دون علمه، فقد أرسى الفريق عبّود مثلا نبيلاً لتنحٍ ، حفظ للشعب كرامته وللجيش هيبته . كان هندرسون في كتابه المشار إليه يرى في نزاهةِ وسموِّ خلق الفريق عبّود ، شبهاً بالجنرال محمد نجيب في مصر، مع ملاحظة قصر فترة نجيب في الحكم، وطولها نسبياً في حالة الفريق عبّود. أنظر حولك عزيزي القاريء ، فترى كيفَ تعامل زعماءٌ وقادةٌ في الشّرق الأوسط وفي الشّمال الأفريقي، مع شعوبهم ومع قواتهم المسلحة. ما كان حرص عبود على كرسي سلطة، ولا على ثروات يستجمعها له أو لأسرته، بل كانت عينهُ على استقرار البلد، وعلى سلامة المؤسسة العسكرية وهيبتها، وهو القائد الأعلى للجيش. كان مستعداً لمن يريد أن يحاسبه أن يفعل . بعد أشهر قليلة، كان الرجل يتجوّل مواطناً عادياً، يُمارس مجاملاته الاجتماعية ويزور الأسواق ، مثل عامة الناس، ولم يفقد احترام شعبه له حتى لحظة رحيله. ترى مَن وعَى هذا الدّرس الذي قدمهُ السودان لرؤساءٍ كانوا فراعنة وقياصرة من حولنا ، فرّوا من قصورهم إلى بلدان أجنبية ، أو لاذوا بأجحارهم جرذانا مطاردة ، أو تشبثوا بكراسيهم يقاتلون شعوبهم، قتال المؤمنين للكفرة ؟ رحم الله الفريق عبود ، فله مكانة مقدرة في ذاكرة السودان. الخرطوم – 16 يونيو 2011