كنت قد شرعت في كتابة هذا المقال بنية الرد على مقال نشر بصحيفة سودانايل، بعنوان "بعض أخطاء اللهجة العامية السودانية" للأستاذ الفاضل فيصل محمد فضل المولى إلا أنني انتهيت إلى كتابة رأييِّ فيما يراه البعض أخطاء و منهم الأستاذ فيصل، و هو رأي سمعته من قبل من بعض السودانيين. و معيارهم الذي يستخدمونه لقياس صحة عامياتنا من عدمه هو معايرة اللفظ أو التركيب المعني بما يقابله في العربية الفصحى و أحياناً يفعلون ذلك بالقياس لعاميات عربية أخرى من دول غير السودان و غالباً ما يأتي هذا في سياق إنتقاد أو سخرية بعض العرب من بعض قولنا مثلما أورد الأستاذ فيصل " ويتعجّب المصريون كذلك من كثرة استعمالنا للفعل قام، فنحن نقول: " فلان قام مشى السوق، وبعد داك قام ركب الحافلة، وقام قعد في الكرسي وأكثر ما يدهشهم هو قولنا: قام قعد ". هذا الرأي الذي يرى في بعض طرق تعبيرنا أخطاء رأي غير موفق من وجهة نظري و سأشرح لاحقاً لماذا أرى ذلك. كذلك بتطبيق هذا المعيار للصحيح و الخطأ على عاميات العرب المختلفة سنجدها تعج بتعابير أقل ما توصف به أنها أخطأ وفق هذا المنهج لأن كثير من منها أتى من الهندية و الفارسية و لغات أخرى و رُكِّب في لحمة العربية وهو لا يشبه في لفظه اليوم لغاته التي منها أتى و لا يشبه العربية التي يدعون، لكنه بلا شك يمثل إثراءً و إضافة جديدة لعربية اليوم و على سبيل المثال كلام أهل اليمن و اكتظاظه بمفردات هندية و فارسية و إنقليزية و غير ذلك و هم أهل العربية العاربة وفق نظرية ما في التاريخ العربي. لكل لغة منطقها الخاص الذي يبرر طريقة التعبير و الكلام فيها و وفق هذا المنطق تتألف بلاغتها التعبيرية. و ما يكون بليغاً في لغة أو لهجة قد يبدو ركيكاً في سواها، و دوننا التقديم و التأخير بين الصفة و الموصوف و الفعل و الفاعل و الذي يختلف كثيراً في العربية عنه في لغات أخرى كالإنقليزية و اللغات السلافية. فجملة مثل (رجلٌ طويلٌ، أسمرٌ و وسيم) تأتي معكوسةٌ تماماً حين ترجمتها لأيٍ من اللغات المذكورة، حيث يتم أولاً حشد كل الصفات ثم يأتي الموصوف في آخر الجملة. و مثل هذا كان يوقع بعض المترجمين في ركاكة بائنة فيما أذكره من بعض كتب قصص و روايات مترجمة كنا نقرأها صغاراً، زمان كانت القراءة و احدة من ممارسات معتادة في هذا البلد. العربية عندما هبطت هذا البلد الأمين لم تجده خلواً من لغات و ثقافات سابقة و من طرق للحياة و للتعبير عنها، إذاً و الأمر كذلك فقد إنبنت العاميات العربية في السودان* على قاعدة لغات أخرى لها منطقها المغاير أو المختلف على أهون تقدير و جمع هذا على ذاك خلق هذه الطريقة الجديدة في التعبير و النظر و التي هي أشبه يإسقاط لا واعي لموروث لغوي عريق على واقع لغوي حاضر. من مثل هذا التداخل ينشأ نوع من الإثراء للغة الجديدة في نسختها المعدلة و يتكون نوع من البلاغة الخاصة التي قد تبدو ركاكة إن هي قيست بمعيار آخر. و هذا القياس و المعيار فوق أنه غير عادل فهو غير صالح للتطبيق في هذه الحالة. و لأبين رأيي هذا أقول أن عدم صلاحية هذا القياس يأتي من كون المقيس يختلف في الحالتين، فالعربية الفصحى في نسختها الأقدم هي التي أنتجت هذا المعيار الذي به تقاس و هو يصح عليها وفق ما رأى أهلها الأولون و وفق ما تواضعوا عليه – برغم الأصوات التي تنادي بتحريرها من بعض قواعدها و إطلاقها للتلاقح مع اللغات الأخرى و مع الواقع المعاصر –. من الناحية الأخرى فالدارجيات العربية في السودان نسخة أخرى قامت على خلفيات ثقافية تختلف عن تلك، و لها قوالبها التعبيرية المختلفة و ما تم أشبه باستلاف تعابير جديدة و صبها في قوالب قديمة و هو ما ينتج ما يراه البعض ركيكاً أو غير معقول و ما نراه نحن تفرداً بلاغياً يحسب للعاميات السودانية لاعليها. للتدليل على عدم صحة المنهج الذي يخلص إلى ما يسميه أخطاء في العامية السودانية نقول أنه لا يتعمق في رصد دلالات الكلمات و المعاني الجديدة التي استوعبتها الكلمة في بيئتها السودانية و هذا الأخذ السطحي يأتي من جهل ببلاغة و قواعد العاميات السودانية إن أحسنا الظن أو من خفة التناول والإسراع للنقد و البحث عن المثالب، و الأمر قد لا يخلو من شئ من تقليل الذات تجاه نموذج يرونه أعلى. فيما يلي نورد كلمة واحدة تجد النقد السلبي و توصف بخطأ الإستخدام حسب ما أورد الأستاذ فيصل على سبيل المثال، و هي كلمة ساكت و خطأ القياس يأتي من عدم التعمق في الإستخدام الدلالي لكلمة ساكت بأشكاله المختلفة التي تأتي حسب السياق و الحال المعبر عنه. فاستخدام لفظة ساكت يأتي على عدة معاني و هي معروفة لمتحدثي الدارجيات العربية في السودان و أول هذه المعاني إستخدامها في معنى الصمت و السكوت و هو ما يشابه لفظها و مبناها فتقول "هو ساكت أي لا يتحدث". و معنى آخر كما في قولنا "فلان قاعد ساكت" في سياق الرد على سؤال مثل "ماذا يعمل فلان؟" و ساكت هنا تفيد عدم العمل و هي لا تشير للكلام أو الصمت بأية حال في هذا الموضع، و مثال آخر قد يسألك سائل "لماذا تفعل هذا الأمر" فتجيب "ساكت" أي بلا سبب أو أنك تود أن تدلل على نوع من العبثية في الأمر وهنا ليس أبلغ من قولة ساكت. كذلك قولك "شغال ساكت" قد تعني شغال بلا مقابل أي تطوعاً أو بلا أجر. نخلص من هذا إلى أن بلاغة التعبير الدارجي السوداني خلقت من فسيخ السكوت شرباتاً كثيراً، لذا من العسف إن لم نقل عدم الأمانة أن نسخر من قولنا "بتكلم ساكت" فالمعني واضح ويفيد أن الشخص المعنِي يتكلم لغواً أو يقول قولاً لا طائل منه و هو تعبيرٌ بليغ في قياسنا لا قياسهم. وردت حوالي ثلاثة أو أربعة تعابير في المقال المشار إليه للتدليل على الأخطاء في عامياتنا منها كلمة ساكت و قد استخدمتها هنا كنموذج للتدليل على رأيي و منها ما اقتبسته أعلاه عن استخدام الفعل قام و هو أمر لا يحتاج كثير جهد للرد عليه بل أن الأستاذ فيصل قد فعل ذلك بنفسه في قوله " وأستاذي محجوب يرى أن استعمالنا للفعل قام استعمال فصيح، لأنه لا يأتي بمعنى الوقوف فحسب بل يأتي أيضاً بمعنى فعل أوعمل، وله في ذلك شواهد كثيرة!". لعلني لست في حوجة لأن أقول أن ما أراه في هذا الشأن هو عين ما أراه منطبقاً على كل اللغات و اللهجات فموقفي هذا غير مبني على حساسية الإنتماء أو تقديس ما هو سوداني، بل على العكس من ذلك فدارجية الوسط اليوم تحتشد بمفردات و تعابير تحتاج لإعمال النقد فيها. هامش: * قصدت أن أقول العاميات العربية في السودان و ليس العامية و ذلك لوجود عاميات عربية كثيرة و متباينة لحدٍ بعيد في السودان بما لا يصح معه جمعها تحت مسمى واحد. ملحوظة و تنويه: و أنا أهم بإرسال هذا المقال وجدت بسودانايل مقال للناقد المتمكن الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا يرد على المقال المعني "بعض أخطاْ ...." و وجدت تشابهاً كبيراً بين ما كتبت و ما كان قد كتب لا سيما في المدخل الذي اتخذه كلانا للنظر للموضوع و هذا للحد الذي جعلني أتردد أولاً في إرسال هذا المقال، لكن القارئ سيلاحظ بلا شك إختلاف التناول. Hisham Hanafi [[email protected]]