بسم الله الرحمن الرحيم هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه .. شعار أيديولوجي أعادنا كرةً أخرى إلى يوم صفين،، يوم أن رفعت المصاحف مكراً وخديعة في وجه إمام العادلين رضي الله عنه ،في ظل هذا الشعار البارق تقاطر شباب السودان ملبيين النداء لوطنٍ قيل لنا إن الأحزاب فرطت في ترابه ( أيها الشعب الكريم إن قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصوناً للعرص والكرامة، وترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة ،وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية في قيادة الأمة لتحقيق أدنى تطلعاتها في صون الأرض والعيش الكريم)، وبعاطفةً فجة وعقول مقفلة،صدق الشباب هذه الفرية البلغاء وتوشحوا كلاشينكوفات الدفاع عن وطنٍ أوهمونا بأنه مستهدف ، حتى أضحي من يقول بغير هذا الشعار متهمٌ في وطنيته وموصومٌ بالعمالة والخيانة، وبسبب هذا الغلو هجر البلاد أهل التفكير الموضوعي والنظر الثاقب ، وتوارى من بيننا ذوو الحكمة والرأي النجيح،واتسعت بهذا الهجر دوائر العيش خارج التاريخ ، وغشيتنا غيبوية من الدروشة السياسية أعمت العيون عن رؤية التنوع الذي فطرنا الله عليه،وكان للأسف خيارنا الارتكان إلى شوفونية مدمرة اختزلنا بسببها تحدياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مفهوم فضفاض أسميناه المشروع الحضاري،ذلك المشروع الهلامي والوهم الرغبوي الذي أطلقنا له العنان بغباءٍ مدمر لينخر في جسد وحدتنا الوطنية حد التفتت والتمزق،فبانت لنا الحقيقة سافرة في التاسع من يوليو ،يوم الحصاد النكد والصاب الذي لا يساغ ، يوم أن وكز الواقع منسأة وطن حدادي مدادي ، فخر على وجهه صعقاً ،ليعلن عن خريطة جديدة جلبت الإحباط إلى كل بيت سوداني واشمأزت منها النفوس، بما في ذلك نفوس الذين كابروا وزايدوا وغلوا إلى حد رفعهم شعار تقرير مصير الشمال عن الجنوب، ويدلك على إحباطهم هذا، ذلك الاحتفال التعويضي الذي أرادوا به التغطية على ضيق أفقهم السياسي وفشلهم الذريع في إدارة التنوع السوداني. نعم إن الوحدة الوطنية منذ فجر الاستقلال ظلت تتهددها مسألة الهوية التي لم نتفق على سماتها حتى الآن ، ولكن على الأقل كنا فيما مضى نتساوق فيما بيننا كسودانين ونتوافق على أن الصراع بيننا صراع سياسي ، إلى أن أطلت علينا الإنقاذ برأسها فماهت بين الدين والسياسة وبين الوطنية والأيدلوجيا بصورة نفرت القريب قبل البعيد ، وبهذا الغلو الصارخ عقدت صراعاتنا ونزاعاتنا ،وشعر البعض منا جراء ذلك بأن هناك تمايزاً يتخذ من الدين والأيدلوجيا معياراً فارقاً بين أهل البلد الواحد، وقد تجسد هذا الشعور بالممايزة في تعصب المفاوضين الجنوبيين في أبوجا وميشاكوس ونيفاشا مقارنة بالمرونة التي اتسم بها أسلافهم في مؤتمر المائدة المستديرة واتفاقية إديس أبابا المؤودة، ذلك أنه من المعلوم ضرورةً أن الغلو يورث الغلو ، والتطرف لا ينتج إلا مزيداً من التعصب. نعم بهذا التطرف في الفكرة قسَّم الفاشلون بلاداً فاخرت التاريخ بامتدادها وتنوع مناخاتها ونباتها ، وأهلها وحيوانها، مزقوها يوم أن استعصموا بايديولجيا صمدية جعلت أهل السودان يدفعون ثمن الوهم العروبي باهظاً ، في الوقت الذي جفلت فيه العروبة منهم نحو مصالحها غاضةً الطرف حتى عن فلسطين وأهل فلسطين ، وقل مثل ذلك عن الأيدلوجيا الإسلاموية التي كلفت أهل السودان من بين كل مسلمي العالم أرضاً عزيزة على النفوس ،وأفقدتهم شعباً فرَّ منهم فرار المعافي من الجزيم، وهو ذات الشعب الجنوبي الأسود الذي قال عنه أحد العارفين من متصوفة السودان (إن السود نفوسهم نقية كماء المزنة الهتون .. فطوبى لمن آخاهم) ،والحقيقة أن الشعوب التي لا زالت على الفطرة هي فعلاً شعوبٌ سريرتها نقية، ومودتها وفية، هذا إذا ما علمنا أن التحضر يفسد الوجدان والمزاج ، ويقتل الأثرة والعطاء، بل يزرع في النفوس الأنانية والشوفينية وحب الذات. إننا بالحق بتعصبنا الأرعن لذاتنا سلمنا الجنوب هديةً إلى إسرائيل ودول الغرب التي تتخذ من المنهج البرغماتي أداةً للعمل السياسي، يدلك على ما أقول: الندم الذي بدى على وجه الأستاذ راشد عبد الرحيم وهو يداخل مع الأستاذ أتيم قرنق وأحد المسؤولين الأسرائليين في برنامج حواري بثته قناة البي بي سي العربية، فحين قال الأستاذ عبد الرحيم أن أي علاقة بين إسرائيل وجمهورية جنوب السودان تعتبر تهديدا للأمن القومي السوداني، بادره أتيم قرنق بالقول: إننا دولة ذات سيادة ولست أنت من يحدد لنا علاقاتنا مع دول العالم. هكذا انصدم أهل المشروع الإسلاموي في أطروحتهم المتعصبة التي آثروا فيها التكتيك على ما هو استراتيجي. وليتهم علموا أنهم بتعصبهم لمشروعهم الأيديولوجي هذا أضروا بالإسلام من حيث أراداو أن يخدموه، وحجموا دعوته من حيث أراداو نشرها بين الأمم. جنوب السودان في حقيقة الأمر هو المؤهِل الأساسي السابق لتصنيف جمهورية السودان على أنها بلد الموارد وسلة غذاء العالم المرتقب، هذا إذا ما علمنا أن 80% من غابات السودان القديم وغطائه النباتي تقع في الجنوب، وأن 60% من ثروته الحيوانية والسمكية موجودة في الجنوب ، فضلاً عن الإحتياطي النفطي التجاري المتوفر في منطقة الإستوائية، فالجنوب في الحقيقة كان يمثل الأمل الواعد للسودان والسودانيين، فإن فاتنا هذا الأمل بسبب تخبطنا السياسي، فالواجب الأ نتركه بغبائنا للإسرائليين ولدول الجوار من الأفارقة ويجب أن نسعى في هذا الصدد لإقناع الجنوبيين بأفكار التوأمة التي طرحها السيد الصادق المهدي، بدلاً من افتعال المشكلات أو إيواء المناوئين لحكومة الجنوب، وقبل ذلك ولأجل استقرارنا والمحافظة على ما تبقى من أرض الوطن فإنه يجب الوقوف بتأني أمام سؤال الهوية الذي ظل منذ الاستقلال معلقاً بلا إجابة، أو على الأقل كانت الإجابات التي سرنا على نهجها في كل سياستنا بشأن هذا السؤال خاطئة، ودليل خطئها أنها أوصلتنا إلى هذه النتيجة المرة ، وحريٌ بنا في هذا الصدد أن نجابه الواقع بدلاً عن الجفول والتشاغل عن هذه القضية المحورية الهامة (قضية الهوية)، ذلك أنه بدون حسم مسألة الهوية والإجابة على الأسئلة المشرعة بشأنها فإن العوامل التي أدت إلى فصل الجنوب تظل حاضرةً بيننا، وبتداعي الزمن قد تفعل فعلها في تمزيق ما تبقى من أرض الوطن ، وفي رأيي أن مسألة الهوية يجب حسمها عن طريق حوارات علمية معرفية جادة لا تتأثر بأهواء الأيدلوجيات ولا تلقي بالاً للعواطف التي طالما كلفتنا كثيراً ودفعنا ثمنها باهطاً ،فنحن في الواقع مجابهون بتحديات في جنوب النيل الأزرق وفي دارفور وفي جنوب كردفان وفي شرق السودان بل في وسطه وشماله، وقد تعقدت هذه التحديات باندياح القبلية مرةً ثانية بيننا بعد أن كنا قد تجاوزنا هذه المرحلة فيما قبل الإنقاذ وصعدنا في سلم التطور التاريخي إلى مرحلة الطائفية التي كان من المفترض أن تفضي بنا إلى مرحلة المجتمع المدني الحديث، لكن فشلنا السياسي للأسف هو الذي أعادنا القهقرى، وهذا ما ينبغي معه البحث عن التعثرات والبحث لها عن حلول معرفية جادة بعيداً عن الأيدولوجيات الواهمة التي أوصلتنا إلى هذا التمزق والتشتت، وفي نظري أيضاً أنه لا حل لمشكلاتنا السياسية ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية إلا بمجابهة قضية الهوية وجعل الواقع موافقاً لحقيقتها الموضوعية كما هي في التاريخ لا كما في تصورات وأحلام البعض منا، فيجب أولاً أن نجيب على سؤال من نحن؟ وما هي القواسم المشتركة التي تجمعنا ونجد أنفسنا متفقون عليها بلا جدال؟ وما هي عقيدتنا السياسية؟ ، هل هي تاريخانية أو لا تاريخانية؟ ، أم أنها مزيج بين هذا وذاك؟، وما الذي يجب تغليبه في هذه العقيدة البعد الروحي أم البعد النفعي البرغماتي؟، وما إلى ذلك من الأسئلة المشروعة المستوحاة من واقع فشلنا السياسي. إذا حسمنا قضية الهوية، فإن تجسيدها في الواقع العملي يتطلب منا العمل على كتابة دستور دائم يتم التوافق عليه عبر مؤتمر دستوري يشارك فيه الجميع، ليكون الأساس لإرساء نظام ديمقراطي لا يتخذ من الإجراءات الشكلانية غاية في حد ذاتها ،بل يركن إلى جوهر ومخبر الديمقراطية المتمثل في الحرية والعدالة الاجتماعية، وهذا للأسف ما فشل فيه المؤتمر الوطني والحركة الشعبية من قبل حينما حاولا إقناعنا بأن الديمقراطية عملية إجرائية محضة فكانت النتيجة التمزق الذي رأيناه بأم أعيننا، ولتفادي المزيد من التمزق ينبغي علينا أن نعمل جميعاً على حمل المؤتمر الوطني للعمل على التحول الديمقراطي الجاد ، بكافة الوسائل السلمية المتاحة، ذلك أنه بغير التحول الديمقراطي فإن قضية الهوية تصبح عرضة للأهواء وللاختزال وفق التكتيكات السياسية والمصلحة الآنية للحكام،وهذا حتماً سيتولد عنه شرر يشعل النار في ما تبقى من أرض الوطن. وفي ختامه أقول إن النفس تأسى، والقلب يحزن، والجرح قد لا يندمل من فقدان تلك البقعة الخضراء، التي طالما افتتنا بها وتغنى باسمها شعراء بلادي غناءً خلد في الذاكرة واستكن في الوجدان ،ولكن يبقى العزاء أن الجوار بيننا قائم والتداخل الثقافي والوجداني بيننا لن تمحوه السياسة ولن تؤطره الأيدلوجيات، فندعو الله أن يجعل من واقع هذا التداخل الاجتماعي والإرث المشترك بين البلدين نواةً لبناء سودانٍ موحد في المستقبل،على نحو ما حدث في اليمن السعيد وفي ألمانيا الاتحادية ، وما أضيق الدنيا لولا فسحة الأمل، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،. khalifa alssamary [[email protected]]