بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرقية والجهوية أُس البلاء وسبب الداء ... بقلم: يس محمد يس
نشر في سودانيل يوم 14 - 07 - 2011

يعد هذا المقال بمثابة دعوة للنقاش نطلقها من على صفحات صحيفة الشاهد الغراء في أمرٍ يهم كل أبناء الوطن خاصة مثقفيه وقادته . ونهدف إلى تسليط الضوء على العلاقة بين العرقية والجهوية والحروب في السودان وكذلك علاقة الحروب بالتمييز العرقي سلباً كان أو إيجاباً . ولعل مناقشة هذه المفاهيم الرائجة ، التي يطلقها البعض وتتلقفها بعض المجتمعات لتخلق منها مادة تضر بتماسك الوطن وتقود إلى التباعد الوجداني بين بنيه وبالتالي ضعف الإنتماء والتشاكس والحروب ، أمر في منتهى الأهمية . ولا جدال في أن هذا الجدل يتطلب جرأة المثقفين والمفكرين للخوض في أمور تعتبر من الأمور المسكوت عنها . ونود هنا إختبار جرأة وجدية المفكرين والمثقفين ومدى إهتمامهم بأمر غاية في الأهمية لمستقبل بلدهم وتخليصه من الحروب والفتن وذلك بدعوتهم لإثراء النقاش البناء الذي يخرج المثقفين من الإتهام القائل بضعف تاثيرهم وكسلهم الفكري تجاه معضلة تمثل العامل المشترك لكل مشكلات السودان الحالية . وأعتبر هذا المقال كنداء يفتح مزاد النقاش الهادف والبناء ويرمي حجراً على هذه البركة الساكنة ويقودنا إلى حلول ناجعة ونافعة تنتهي بنا إلى وطن متجانس تزول عنه الفروقات النفسية والإجتماعية ويحترم كل بنيه وكل جهاته ويمضي واثقاً إلى الأمام وفقاً لأسس مدروسة وثابتة وراسخة .
من البديهيات أن الأنسان لا يختار لغته ولا لونه أو عرقه ولا حتى أصله ونسبه ، يولد بملامح ولون موروث تلعب فيه الجينات التي خلقها الله وليس بني البشر الدور الرئيسي في تحديد شكله ولونه وملامحه التي تميزه عن الآخرين ، فشطارة الإنسان أوماله أوحسبه ونسبه ليس لها أي دور في تشكيل ملامحه التي هي من خلق قوي مقتدر ... وما دام أن الإنسان لا يد ولا دور له في تحديد لونه أو جنسه أو قبيلته أولغة أمه (Mother Tongue) وليست له القدرة على ذلك ، فعلام التباهي بالألوان والأعراق واللغات ولماذا نتطاول على الآخرين بما لا نملك وبما لا يد لنا فيه ، فهذا ما أختاره الله لنا ، وهذه هي إرادته جلت قدرته فقد جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف لا لنتفاخر ، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى َلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ولا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) . خلقنا الله سحنات وألوان وقال لنا "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وليس الاكثر بياضاً أو جمالاً أو مالاً . فما وهبنا له رب العباد من صورة خارجية لا تضيف لنا نقاطاً ولن تزيد في رصيد سباقنا نحو لقب الأكرم عند الله إنما الأمر كله متعلق بما يكتسبه الإنسان بيده وعمله وسلوكه ، فالسلوك المكتسب يأتي دائماً كانعكاس طبيعي لتنشئتنا وتربيتنا وثقافتنا والطريق الذي نختار إما شاكراً وإما كفوراً ، فالتقوى هي معيار التفاضل بين البشر وهي وحدها التي ميز الله بها بين بني البشر فهي سلوك مكتسب وتهذيب للنفس وطاعة لله وإتباعٌ لأوامره وإجتناب لنواهيه .
المتغطرسين في العالم ومنهم النازيين أتوا لنا بفكر جديد يناقض مبادئ الإسلام وكل الديانات السماوية التي تحض على المساواة بين بني البشر . أسس الفكر النازي نظرياته على أفضلية الجنس الآري وتفرده وتفوقه على بقية الأجناس ، فهم يرتبون الناس على هواهم إبتداء من مرتبة الأعراق العليا (الآريون) ونزولاً حتى يصلون إلى مرتبة الأعراق الدنيا وهم الزنوج والعرب واليهود (الذين تصنفهم النازية كطبقة تحت البشر) . فلو اعتقدنا أو رضينا نحن السودانيون بأفضلية قبيلة على قبيلة أو أفضلية صاحب البشرة القمحية أو المصفرة أو بمعنى أدق صاحب البشرة الأقل سواداً في مجتمعنا على صاحب البشرة السوداء الداكنة نكون قد طبقنا حرفياً أهم مبدأ من مبادئ الفكر النازي التي تقسم البشر حسب العرق . طبعاً لن نرتضي نحن السودانيون بمبادئ النازية التي تصنفنا كطبقة تحت البشر كما لا نرضى نحن كمسلمين أيضاً تقسيم النازية للناس إلى أعراق راقية عليا بيضاء البشرة كالآريين ، وأعراق دنيا وهم الزنوج والعرب واليهود ، علماً بأن النازية تؤمن بأن تَفوُّق العنصر الآري الأبيض على كل الشعوب الأخرى يعطيه حقوقاً مطلقة كثيرة كالسيادة عليهم جميعاً في كافة المجالات الحياتية . فالآريون يعتقدون بأنهم أفضل منا لأنهم من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر والأصول العرقية الراقية ، فهذا هو منطقهم ، فإن شاطرناهم هذا المنطق وهذا المبدأ وأقتنعنا بأفضلية صاحب البشرة البيضاء على بقية الألوان الأخرى والقبيلة (أ) على القبيلة (ب) سنضع أنفسنا بالضرورة ، كما أسلفت ، في أدنى القائمة (تحت البشر) فمبادئ ديننا الحنيف لا تقر ذلك فعندما سب أبا ذر الغفاري بلال بن رباح وقال له يا ابن السوداء عنّفه رسول صلى الله عليه وسلم وقال له : يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية . نحن كسودانيين نعد من ذوي البشرة السوداء حصراً وجاء إسم دولتنا بناء على لون بشرتنا . ولا ولن نعترف إطلاقاً بأننا طبقة تحت البشر الآخرين ولا نوافق على تفوق الآريين علينا في شيء بل نحن نتفوق عليهم بالتقوى . إذن فلماذا نستخدم نفس منطق النازيين لنتعالى به على أخوتنا الأكثر منا سواداً والمختلفون عنا قبلياً ... خاصة وأننا لسنا من البيض ، وما دام الأمر كذلك إذن فكيف يحق لأسود أن يتهكم على أسود بسبب لونه؟ فالأختلاف بيننا في القبيلة ضئيل جداً والإختلاف بيننا في اللون كمجتمع سوداني ضئيل جداً بل هو مجرد إختلاف في درجات اللون الأسود فقط ، ومع هذا تجد أن "أبو سنينة يضحك علي أبو سنينتين" ربما الجهل وحده هو الذي يقودنا إلى الوقوع في مثل هذه الأخطاء الشنيعة نتيجة لقلة الإدراك وضعف البصيرة . أما من وجهة النظر الطبية والتشريحية فجميع بني البشر ينتمون لفصيلة واحدة تسمى Homo sapiens sapiens ولهم قلوب تؤدي نفس الوظائف وأمخاخ لها نفس الصفات الفيزيائية والكيمائية فالإختلاف بين بنى البشر يأتي نتيجة للتفاوت في القدرات الفردية أما الإختلاف بين المجموعات العرقية فهو لا يتعدى الشكل الخارجي أي الصورة وإن شئت قل "الديكور" أما في الجوهر فالجميع بشر والجميع سواسية " إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم" ، ونعلم إن الله هو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء .
إن أمراض المجتمع مثل ما أسميه هنا بمتلازمة التعالي العرقي ومرض الإحساس بالدونية العرقية الذي يعاني منه الكثير منا تمثلان هاجسا كبيراً يهدد وحدة الوطن وتجانسه وتضعف الإحساس بالإنتماء له وتضعف مقومات بناء الهوية المشتركة ، ولا شك بأن هذه الأمراض قد أسهمت بدور جوهري في تباعد أطراف الوطن عن بعضها البعض وأسهمت حتماً في تأجيج الصراعات في السودان وهي دائماً تتخذ منحى عنصري قبلي أكثر منه جهوي . فوطن متعدد الثقافات والأعراق واللهجات يظل عرضة للتشتت الإجتماعي والتباعد بين أعراقه ما لم نتدارك ذلك بالتصويب اللازم . فإن سمحنا للنفعيين بأضرام نار العصبية بين بني الوطن ومشينا بالتعالي بين الناس ناشرين الحقد على بعضنا البعض بسبب إختلافهم عنا في اللون أو اللهجة أو العرق أو الجهة فسوف يظل وطننا نهباً للصراعات الجوفاء وسيظل كما قال الحردلو لكثير من بنيه "ملعون أبوك بلد" ولن تجمعنا هوية جامعة وسيفقد وطننا تماسكه الذي ما زال هشاً وسوف لن يرضى بعضنا بالبعض كمواطنين متساوين ، قد يضمنا وطن واحد ولكن قلوبنا شتى وهمومنا تنحصر في كيفية نسج المؤامرات ضد بعضنا البعض بدلاً من التفرغ للتفكير بصورة جماعية في كيفية بناء الوطن والنهوض به ورفع مكانته . القفشات والنكات التي نطلقها عفوياً ونضحك لها دون وعي يحسها بعضنا في دواخله كإستخفاف بعرقه وقبيلته فبدلاً أن تضحكه هذه النكات ستوغر صدره بالغبن ضد بعض بنيه ، مما يقوده إلى كراهية الآخر ولربما ترجمت هذه الكراهية إلى عمل شيطاني يكون مطلقو النكات دون معرفة عواقبها هم السبب . أسألوا أصحاب النكات ماذا فعل معهم أهل الجزيرة عندما أنتشرت نكات أعتبروها تحط من قدرهم ؟ ولعله من نافلة القول أن نذكر بأن العصبية القبلية لا تؤثر فقط في سلوكنا اليومي المعتاد تجاه بعضنا البعض ولكنها تؤثر سلباً في موروثاتنا الحميدة الأخرى التي توارثناها كابر عن كابر والتي تعايشنا في وئام تحت ظلالها منذ أمد بعيد . جاء الأسلام ووضع العدالة الاجتماعية كأساس راسخ للدعوة التي تسلحت بمفاهيم عميقة نابعة من القيم السامية التي تاسست عليها الدعوة ، فالإسلام لا يقر تصنيف الناس إلى طبقات ولا يفاضل بينهم في أي من شؤون الحياة بل يعتمد المساواة بين الناس ويعتبرهم سواسية كأسنان المشط وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من دعا إِلى عصبيَّة وليس منَّا من قاتل على عصبيَّة وليس منَّا من مات على عصبِيَّة) . فالعصبية لا تقرها شريعتنا السمحاء ، إذن فإين نحن من هدي الشريعة في هذا المجال ؟ وهذا يقودنا إلى السؤال الهام ، هل نحن نتبع الشرع حقاً أم أننا نتخير من الشرع ما يناسبنا ونترك ما لا يتناسب وهوى أنفسنا ؟ .
علينا أولاً أن نعترف بكل شجاعة كدولة بوجود مثل هذه الأمراض (متلازمة التعالي العرقي ومرض الإحساس بالدونية العرقية) التي نتهرب من نقاشها ونستحي من الإفصاح عنها ولكنها تظل موجودة بيننا شئنا أم أبينا نحسها ونكتمها في أنفسنا ونغذيها بمشاهداتنا وتعاملاتنا اليومية والتي على تربتها تنمو بذرة الفتنة ويكبر معها بارود الحقد ليصبح جاهزاً للتشكيل يتخطفه أصحاب الغرض ليصنعوا منه قنابل موقوتة وجاهزة لتفجير خاصرة الوطن حيثما وأنى شاءوا . من البديهي أنه لن يستطيع المرء إيجاد حلول لأي مشكلة تعترض طريقه ما لم يعترف بوجودها أولاً ، فإذا تم تشخيص المرض فسيكون العلاج واضحاً وليس صعباً ، طالما أن لكل داء دواء يستطب به ، خاصة وأننا نعيش في مجتمع عرف بالتسامح والإنفتاح على المعرفة وعرف كذلك بتمتعه بمستوى كبير من الوعي وبقدرته على تقبل النقد وتبديل قناعاته السالبة بقناعات موجبة . لكنه في حاجة إلى عمل جاد يقوده إلى مصاف الصفاء الفكري ويبعد عنه الجهل والتشويش والدرن الفكري خاصة مع إنعدام أي جهد من المثقفين والقادة عموماً في هذا المجال
فإذا نظرنا إلى المجموعات التي حملت السلاح وكونت تنظيمات عسكرية حاربت الدولة في السابق أو المجموعات التي ما زالت مستمرة في حمل السلاح نجد أن هذه المجموعات تشترك جميعها في كونها مجموعات عرقية ذات أصول أفريقية لا تنتمي إلى المجموعات العربية بل لديها إحساس عميق بالتمييز الإجتماعي ضدها بدءاً بالجنوب الذي بدأ التمرد في العام 1955م حينها لم ينل السودان إستقلاله بعد ولا توجد وقتها فوارق في التنمية بين أقاليم السودان ولا توجد قوانين شريعة إسلامية رغماً عن ذلك وجد التمرد دعماً قوياً من أبناء الجنوب ، ثم جبال النوبة ، والنيل الأزرق ودارفور وإنتهاء بالشرق . رغم أن هذه المجموعات تنتمي جهوياً لمناطق جغرافية متباينة وتعيش إلى جانبها ، إذا استثنينا الجنوب ، قبائل ذات ثقافة وأصول عربية ، لكن هذه المجوعات الأفريقية تمردت بصفتها العرقية الأفريقية فقط ولم تطلب دعم المجموعات العربية التي تعيش معها في نفس المناطق الجغرافية وتشترك معها في كل الظروف الحياتية وتتقاسم معها نفس المعاناة ونفس الآلام والآمال بل أن القبائل ذات الثقافة العربية أصبحت هدفاً رئيسياً لهذه الحركات المسلحة ، إذن الأمر ليس خاصاً بالتنمية والخدمات إنما هو صراع قائم على منطلقات عرقية بحتة . ونعلم أن الإستقطاب العنصري الذي يعزف على وتر التهميش والتعبئة العرقية هو أسهل أنواع الأستقطاب لأنه يأتي من ذوي القربى الذين يتحدثون نفس اللغة ويعيشون نفس الظروف مما يسهل إزكاء نار النعرات القبلية وإثارة حمية الجاهلية والعصبية النتنة . لا شك أن الإستقطاب العنصري يقود المستقطب إلى كراهية كل ما يمت للعروبة بصلة بل قاد الاستقطاب الحاد والطرق العنصري المتواصل هذه المجموعات إلى إعتبار القبائل ذات الأصول العربية التي تقاسمت معهم العيش في هذه المناطق منذ قرون ماضية ليسوا أصحاب أرض بل هم مجرد مجموعات دخيلة يجب إعادتها إلى أوطانها ... طبعاً لا أحد منهم يعرف وطناً غير الوطن الذي ولد فيه آباؤه وأجداده . هذا الفكر المتخلف لا يصمد أمام أي نقاش موضوعي ولكنه نتاج للتطرف والكراهية التي ولدتها الأمراض الإجتماعية التي ذكرناها سابقاً والتي يجب أن نبحث جميعاً عن دواء يكفينا بلاويها . في معظم أو كل البلدان الأوربية والأمريكية يحق لمن عاش في البلد أكثر من عشرين عاماً الترشح لرئاسة الدولة وبعضها يشترط الميلاد في الدولة . السؤال الهام الذي يفرض نفسه ، هل تعي الدولة هذا البعد ودوره في الصراعات القائمة حالياً ؟ وما هو دورها في إزالة المفاهيم الخاطئة التي لا تقودنا إلا إلى التباعد والتناحر والحروب . ألم تسأل الدولة نفسها هذا السؤال البديهي لماذا هم يكرهوننا ؟ أو بالأحرى لماذا يحاربوننا ؟ وأين هي الدراسات الإستراتيجية التي تشرِّح الأزمة وتغوص في أسبابها وتبحث لها عن حلول ؟ وهل يوجد سؤال يهم السودان أكثر من هذا في الوقت الحاضر ؟ وأين هي المعالجات وإقتراحات الحلول ؟ فالمعطيات لا حصر لها وهي واضحة كما الشمس في كبد السماء .
ما يمارسه الفرد لا شك سينعكس على المجموعات المتباينة المكونة للوطن وبالتالي على الدولة طالما أن الدولة تتكون في الأساس من مجموع هذه المجموعات البشرية . فالدولة التي تحترم نفسها يجب أن تضع المعايير اللازمة التي تكفل معاملة جميع مواطنيها وفقاً لمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في الحصول على التعليم والعلاج والتوظيف وخلافه ولا تفرق بين مواطنيها عرقياً ولا جهوياً وتحول دون محاباة القريب والحسيب . فواجب المواطنة يفرض علينا كمجتمع أولاً وكدولة ثانياً معاملة جميع أبناء الوطن كمواطنين يتمتعون بحقوق وواجبات المواطنة ليحسوا بأنهم هم أبناء الوطن حقاً وبأنهم متساوون في الحقوق والواجبات ولا فضل لأحد على أحد إلا وفق مبدأ التنافس الشريف العادل الذي لا تلعب فيه المحاباة أي دور في الإنحياز لأحد على حساب أحد ، فعلينا أن نعمل لوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وأن نولي الأمر لأهله وإلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. يجب أن لا ندفن رؤسنا ، كمجتمع وكدولة ، في الرمال وعلينا أن نواجه مشاكلنا بكل جرأة وموضوعية لكي نصل إلى الحلول الناجعة والنافعة . فالدول الراشدة لا تُبنى بالمحاباة ولا بتولية الأمر إلى غير أهله فلا بد من العمل الجاد من أجل تجاوز المفاهيم الضيقة ، فهذه هي أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى بقاء العالم الثالث كعالم ثالث يمارس نفس مفاهيم المحاباة والعرقية البالية والمتخلفة المتوارثة عن الأجداد منذ قرون ما قبل التاريخ والتي تؤخر ولا تقدم وأنه لا زال يمارس نفس هذه التقاليد التي عفا عليها الزمن في حين نجد أن العالم الأول بمجتمعاته وحكوماته قد تجاوز هذه المفاهيم الضيقة منذ زمن بعيد ومضى يبحث في الكيفية التي تمكنه من تحقيق أقصى درجات الرفاه لشعوبه ، وبقينا نحن نتنابذ بالألقاب والأعراق ونقاتل بعضنا بعضاً بسبب الجهة واللون والعرق ، عرب وزرقة ... قبيلتي وقبيلتك ... وشمالي وجنوبي ... ومركز وهامش . فحتماً لن تساعدنا هذه المفاهيم في بناء دولة ذات كيان قوي موحد الأهداف والتطلعات ولن تساعدنا في الوصول إلى الغايات التي نطمح . فنحن إن لم نتدارك بالتصويب مثل هذه المفاهيم المتحجرة فسوف لن نصل إلى الحد الأدنى من الإنسجام الضروري للتوافق الوطني المطلوب في هذا البلد وسنظل نراوح مكاننا ما أن نخرج من كارثة حتى ندخل في كارثة أخرى .
فلنأخذ الدروس والعبر من أكثر البلاد التي مارست العنصرية والتعالي العرقي في الماضي كجنوب أفريقيا إبان عهد الابارتايد البغيض والولايات المتحدة الأمريكية التي خاض فيها السود بقيادة مارتن لوثر كنج نضالاً جباراً توج بإزالة قوانين التفرقة العنصرية وانتزاع حقوقهم المدنية . وكافأهم الله بأن ولى عليهم أسود "باراك أوباما" يجلس الآن على قمة أعلى الهرم السياسي الأمريكي ، بل يجلس على قمة الهرم لأعظم قوة عسكرية وأقتصادية وعلمية في التاريخ المعاصر ، قوة لها الكلمة العليا والصوت المسموع بين كل حكومات العالم . أما جنوب أفريقيا التي تمثل أعظم قوة إقتصادية في أفريقيا فقد إنتزع السود فيها حقوقهم إنتزاعاً واستعادوا حكم بلدهم وتخلصوا من نظام الفصل العنصري إلى الأبد .بالرغم من أن مانديلا وأمبيكي وزوما وجاءوا إلى السلطة بالأغلبية عبر إنتخابات ديمقراطية حرة إلا أن آباءهم حتى وقت قريب يجرأون على الجلوس في المقاعد المخصصة للبيض في المحلات العامة وحافلات المواصلات والمدارس والمستشفيات ناهيك عن كرسي البيت الأبيض . حقا "تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير .
فلا بد أن تنتهج الدولة سياسة جديدة تعتمد المواطنة كأساس لنيل الحقوق والواجبات فعلاً لا قولاً وأن تعمل بصدق على تنزيل ذلك على أرض الواقع وتعضد ذلك بإزلة الغبن وإنصاف المظلوم وتحريم كافة أشكال العنصرية الظاهرة والمستترة برفع الوعي باستخدام كافة وسائل الإتصال الجماهيري المتاحة وسن القوانين الرادعة التي تقضي على هذه الظواهر السالبة . فإن كان العقلاء مسؤولين عن رسم سياسات الدولة فنذكرهم بضرورة رسم إستراتيجية مدروسة وسياسة فعالة جديدة تستهدف رفع وعي المواطن لتخليص الوطن من درن هذه العصبية والجهوية والقبلية النتنة ، فمساوئ العصبية القبلية لا تعد ولا تحصى إذ تبدأ بضعف الإنتماء ولا تنتهي بالحروب فقط ، لذا يجب أن تبدأ التوعية بالقبيلة وكياناتها كوحدة أساسية ينطلق منها التغيير بعد أن تتم تهيأتها لكي تعمل على تعميق وعي أفرادها بضرورة تعايشها مع القبائل الأخرى أفراداً وجماعات ، وكدور أساسي وإيجابي تلعبه القبيلة في دعم وحدة الوطن . بالفعل لا بالقول تستطيع الحكومة ، وأنها لقادرة إن حزمت أمرها ، على إنهاء كافة أشكال التمييز وتمهيد الأرضية الصالحة التي تُشعر جميع أبناء الوطن بأنهم سواسية ولا فرق ولا تفريق بينهم . يجب أن ندرس قضيانا بعمق وأن نعمل على معالجة أصل المرض بدلاً من الإهتمام والإكتفاء بمعالجة أعراض المرض فقط . وندعو كل حادب على رفعة الوطن أن يجاهر برأيه صراحة نقداً لسلوكيات المجتمع السالبة التي لا يقرها ديننا الحنيف وأن يرفضها قولاً وفعلاً ، تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها .
أختم بخطبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فِي وسط أَيَّام التشريقِ التي قال فيها ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَد وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَر إِلاّ بِالتَّقْوَى) .
يس محمد يس
Yassin Mohd Yassin [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.