القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إهْدارُ الدَّمِ والقانونُ الجنائيُّ .. بقلم: د.أمل فايز الكردفاني
نشر في سودانيل يوم 17 - 07 - 2011


إهدار الدم لغة : جاء في القاموس المحيط :
(الهَدَرُ، محرَّكةً: ما يَبْطُلُ من دَمٍ وغيرِهِ، هَدَرَ يَهْدِرُ ويَهْدُرُ هَدْراً وهَدَراً وهَدرتُهُ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ، وأهْدَرْتُه. فَعَلَ وأفْعَلَ بِمعنًى. ودِماؤُهُم هَدَرٌ، محرَّكةً، أي: مُهْدَرَةٌ. وتَهادَرُوا: أهْدَرُوا دِماءَهُم).
إهدار الدم غير الشرعي ، هو نفي حرمة دم شخص على وجه الكفر دون قضاءٍ، قربة إلى الله تعالى، فيجوز لكل مسلم قتل المهدر دمه على أي حال وجده ، دون أن يقاد به ، أي دون أن يقتص منه وبلا دية.فهو إبطال لحق الشخص في الحياة. ومن أهم خاصيتين فيه أنه يتم دون حكم قضائي وأنه يصوَّر على أنه مثابٌ عليه.
اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلَّم بإهدار الدَّم:
حكم إهدار الدم كان حقاً خاصاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي فإن خاصية عدم وجود القضاء تنتفي في ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن ما يصدر عنه يعتبر في حكم القضاء . وخصوصيته تأتي من أن إهدار الدم بغير قضاء يعني أن المهدر دمه قد قُضيَ باليأس من أوبته مرة أخرى أو استمرار شره المستقبلي، وهذا كله من أمر الغيب لا يعلمه إلا الله ، ألم تر كيف أن الرجل الصالح قتل غلاماً لم يرتكب إثماً فاشتدَّ ذلك على سيدنا موسى فلما حان الفراق بين الرجلين أنبأه الرجل الصالح بتأويل ما لم يسطع عليه صبراً ، وأخبره بأن حكمه لم يكن من نفسه وإنما بأمر من عالم الغيب العزيز الجبار .(وللاستزادة فيمن أهدر رسول الله، يرجع إلى العديد من أمهات الكتب كالتمهيد لابن عبد البر المشار إليه وفتح الباري (8/11) ، عون المعبود (9/131)، نيل الأوطار (8/171)، المستدرك على الصحيحين (3/760).. وغير ذلك.
فحق إهدار الدَّم إذاً ؛ حق مخصوص للأنبياء لأن فيه قطعٌ من أمر الغيب، ولا يجوز أن يمتد إلى من لا يعلم الغيب بوحي منه سبحانه وتعالى ، ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يعتدوا على هذا الحق المؤثر ، ولم يبِن لنا – من خلال المراجع المتاحة في هذا الشأن- أن أي من الصحابة ولا الخلفاء الأربعة الراشدين قد أفتى أحدهم بإهدار دم لفرد ما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد استخدام هذا المصطلح إلا عن عمر بن الخطاب حين حاول رجل اغتصاب امرأة فرمته بحجر فمات ، فلما جيء بها إلى سيدنا عمر بن الخطاب قال بهدر دم الرجل ، أي أن الفتاة مارست حقها في الدفاع الشرعي فدم الرجل مباح (أنظر في ذلك :شرح الزرقاني 4/21، والتمهيد لابن عبد البر(21/257). ويدل ذلك على أن القتل يجب أن يكون بقضاء من ولي الأمر أو في حالات الدفاع الشرعي ، وغيرها من أسباب الإباحة. ولذ جاء في المبسوط للسرخسي (24/72) : "ولا يجوز إهدار الدماء المحقونة ".
ويختلف إهدار الدم عن التكفير ، في أن التكفير قد لا يتضمن دائماً إهدار دم ، فالتكفير سابق على إهدار الدم وقد يكون أحد أسبابه، وقد لا يتضمن التكفير أصلاً إهدار دم لا بقضاء ولا بغير قضاء حتى بالنسبة للردة المجاهر بها ، نسبة لاختلاف الفقهاء في ذلك ، ولمزيد من معرفة أدلة الرافضين لقتل المرتد يمكن الرجوع إلى المؤلف القيِّم لأستاذنا القاضي الدكتور عشماوي والذي فنَّد فيه ؛ وبقوة علمه الذاخر الثر؛ حجج الذين يقولون بقتل المرتد حجة حجة وبينة بينة.وأما الاختلاف حول التكفير نفسه ففيه مطولات كثير ، انظر منها (ظاهرة الغلو والتكفير – د.ناصر عبد الكريم العقل – دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع-بدون تاريخ).
ويختلف إهدار الدم عن قتال المرتدين أو غير المسلمين في أن إهدار الدم هو وضع للشخص (المهدر دمه) موضع الخطر في كل مكان وزمان ، ولا يتقيد فيه بضوابط إعلان الحرب الشرعية .
إهدار الدم في العصر الحديث :
في هذا العصر، حيث يعبد الناس الله على حرف ، ويقرؤون القرآن لا يكاد يغادر تراقيهم وحلاقيمهم ، وحيث دبت الفوضى في العالم الإسلامي ، وأصبح الدين مطيَّة الأفراد والحكومات، فقد انبرى كل محبٍ للأضواء ، باستثارة الرأي العام وكسب المناصرين عبر إطالة اللحية وحفظ القرآن على سطح القلب وقشرة العقل ، ثم القيام باختلاس حقوق الأنبياء باستقصاء رجل سياسة أو فن أو علمٍ من المشاهير ، والإفتاء بإهدار دمه . فتثور ثائرة الجهلاء من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وتثور ثائرة الليبراليين على تهديد الأنفس باسم الدين ، وهكذا يجد شيخنا المبجل حقه من الأضواء، واضعاً من تم إهدار دمه في موضع التهديد وخطر القتل إلى آخر عمره من أي مهووس أحمق. كما أن بعض الحركات الإسلامية المتطرفة ، والتي يرهقها تبنيها لخطوط مواجهة راديكالية تخالف المنطق النسبي لقانون الحركة البشرية بتنوعها واختلافها ومن ثم قدرتها على التفاعل المثمر ؛ حيث تحاول هذه الحركات التنفيس عما في صدورها وعقولها من براكين ظلام جهلها عن طريق الإفتاء بإهدار دم من يخالفهم في الرأي أو التوجه أو الدين . وفي ظل هذا الضلال ، وكثافة ظلامه يختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل ، والمتعلق بالدين بالمتعلق بالهوى وأمراض القلوب.
لذا نجد أنه وفي خلال الخمس سنوات الماضية فقط ، صدرت حوالي خمسة آلاف فتوى بإهدار دمٍ بشكل هزلي ، حتى سمعنا بفتوى إهدار دم (ميكي ماوس) و (توم وجيري) ، وانتشرت فتاوى إهدار الدم الخطيرة بحق السياسيين والقانونيين كالسيد الصادق المهدي والسيد الترابي ، والبرادعي وأوكامبو وحاكم قطر ، ومن الأدباء والإعلاميين كعلاء الأسواني وأسامة أنور عكاشة ومؤلف المسلسل السعودي طاش وعمرو أديب .. الخ ، ورجال الدين كإهدار دم القرضاوي والبابا شنودة ، أما من الفنانين فحدث ولا حرج ، كالفنان عبد الله الرويشد ، وعادل إمام الذي أهدر دمه فقام هو بالمقابل بالإفتاء بإهدار دم من أهدر دمه كسخرية من هذه المهزلة ، وصدرت فتاوى أخرى أيضاً بإهدار دم الممثل عمر الشريف ، وصباح ، ورزان المغربي ونجوى كرم ، وغيرهم الكثير .أما إن انتقلنا إلى باكستان وأفغانستان وما جانبهم من ثقافات لسمعنا كل يوم بفتوى إهدار دم عمدة أو والٍ أو موظف أو جندي أو شرطي وهلم جرّا ..
خطورة فتاوى إهدار الدم :
لفتاوى إهدار الدم خطورة كبيرة ،ليس فقط على الأفراد الذين يتم إهدار دمهم ، بل أكثر من ذلك أنها خطر على المجتمع ككل ، فهي تلغي مؤسسية الدولة تماماً ، وتلغي سلطاتها الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ، حيث يستلب المتنطعون بالدين ما للدولة من سلطات لاستخدامها دون وجه حق لأجل إشباع رغباتهم الخاصة ، فإهدار الدم يلغي قوة القانون في الدولة ، وسلطة القضاء ، وتشريعات البرلمان ، كما أنه يقضي بغير قضاء ، حيث لا تتوفر أي ضمانات للمتهمين ولا تتوفر محاكمة عادلة ، ولا مناقشة لأدلة الإثبات والنفي ، كما أنه يمنح الأفراد سلطة غير شرعية لتطبيق القانون بأيديهم . هذا بالإضافة إلى المخاطر الاجتماعية ، حيث تخلق هذه الفتاوى عدم ثقة بمؤسسية الدولة بالإضافة إلى انتشار السلوك العنيف وجرائم الكراهية والتمييز الديني والعرقي والثقافي وبالتالي يؤدي إلى تفتيت لحمة المجتمع، كما أنه يؤدي إلى تحجيم حركة الفنون والآداب والإبداع بشكل عام ، ويؤدي إلى عرقلة حرية التعبير ومن ثم تطور الفلسفة والعلوم ، كما يمثل إهدار الدم خطورة على العقيدة نفسها حيث يكبح تطور الفقه الإسلامي. وإذا كانت الحكومة في الدولة تستغل فتاوى إهدار الدم لتمرير أجندة سياسية فإن ذلك يؤدي إلى ظهور المجموعات الدينية المتطرفة ووأد المناخ الديمقراطي الحر في الدولة وظهور عمليات الاغتيال السياسي. وإذا حاولنا استقراء النتائج السلبية لفتاوى إهدار الدم فإننا – في الواقع- لن نصل إلى نهاية ولن يسعنا زمان لذلك.
إهدار الدم وموقف القانون الجنائي لسنة 1991 في السودان :
تعتبر فتاوى إهدار الدم تحريضاً على القتل ؛ وقد بين القانون الجنائي لسنة 1991 قواعد التحريض على الجريمة ؛ فنص على أحكام مختلفة منها ، فقد نصت المادة 25 على الآتي :
(1) التحريض هو إغراء الشخص لغيره بارتكاب جريمة أو أمره لشخص مكلف تحت سلطانه بارتكابها .
(2) مع مراعاة عدم تجاوز العقوبة المقررة للجريمة ، يعاقب من يحرض على ارتكاب جريمة وفقاً للآتي :
(أ) في حالة عدم وقوع الجريمة أو عدم الشروع فيها ، بالسجن مدة لا تجاوز خمس سنوات .
(ب) في حالة وقوع الجريمة أو الشروع فيها ، بالسجن مدة لا تجاوز عشر سنوات أو الغرامة أو بالعقوبتين معاً ، فإذا كانت العقوبة المقررة للجريمة الجلد ، يعاقب بالجلد بما لا يجاوز نصف العقوبة .
(3) من يحرض على ارتكاب جريمة ويكون حاضراً وقت وقوعها يعد مرتكباً لتلك الجريمة .
(4) من يحرض شخصاً على ارتكاب فعل معين ، يكون مسئولاً عن ارتكاب أي فعل آخر يشكل جريمة يرتكبه ذلك الشخص إذا كان الفعل الآخر نتيجة راجحة للتحريض .
ونحن لن نخوض في شرح هذه القواعد ، بل سنكتفي بتحديد موضع فتاوى إهدار الدم من أنواع التحريض ، وخاصة التحريض الخاص والعام .
التحريض الخاص والعام : اختلف الفقهاء حول مدى وجود ما يسمى بالتحريض العام ؛ فهناك نظرية تذهب إلى أن أي تحريض يعتبر تحريضاً خاصاً مادام قد وجه نحو مجموعة معينة أو طائفة معينة . وهناك رأي يقسم التحريض إلى عام وخاص ، فالتحريض الخاص ؛ هو ذلك الموجه إلى شخص معين أو عدة أشخاص أو فئة معينة ، مثل تحريض فرد من أفراد القوات المسلحة على التمرد أو على الخروج عن الطاعة (م 58 .ق.ج) .
أما التحريض العام ؛ فهو ذلك الموجه نحو جمهور غير معين أو غير معدود ، فهو تحريض على ارتكاب جريمة بغض النظر عمن سيتأثر بالتحريض ، ومن ثم قيام الجريمة . فالتحريض العام هو تأثير على إرادة احتمالية . وبالتالي فهو يتم علناً أو بوسائل واسعة الانتشار ، كما أن التحريض العام لا يخضع للقواعد العامة للتحريض ، وبالتالي لا يعتبر جريمة إلا إذا نص المشرع على ذلك بنص خاص، فيعد التحريض –في هذه الحالة- جريمة قائمة بذاتها ، ولولا هذا النص لأفلت المحرِّض من العقاب ،ومثال ذلك ما جاء بالمادة (63) والتي نصت على الآتي :
" من يدعو أو ينشر أو يروج لمعارضة السلطة العامة عن طريق العنف أو القوة الجنائية .. ".
وتعتبر جرائم التحريض العام من جرائم الخطر وليست من جرائم الضرر ؛ فهي تنشأ ولو لم يتم تنفيذ الجريمة أو يشرع في تنفيذها ، بل وإن لم يستجب لها أو ينفعل بها أي شخص.
فتاوى إهدار الدَّم :
هل تعتبر فتاوى إهدار الدم تحريضاً عاماً أم خاصاً ، وأهمية التمييز بين ما إذا كانت فتاوى إهدار الدم تحريضاً عاماً أم خاصاً ؛ تكمن في أن اعتبارها عامة يخرجها من القواعد العامة للتحريض . فإذا لم يرد بها نص خاص بها خرجت من إطار التجريم والعقاب . أما إن كانت تحريضاً خاصاً ( أي لفئة معلومة من الناس ) فإنها تدخل في إطار القواعد العامة للتحريض ، ومن ثم يتم العقاب عليها دون حاجة إلى نص خاص .
والواضح أن فتاوى إهدار الدم هي تحريض عام ؛ لأن التحريض لا يقع تأثيراً على إرادة محددة ، ولا يكفي كونها موجهة إلى المسلمين ليكون تحريضاً خاصاً . ونرى أنه ووفقا لمبدأ سلطان القانون ، وما أقره جمهور الفقهاء من سلطان ولي الأمر وحده بالتجريم والعقاب ، فإن على المشرع أن يتدخل ، بتجريم أي تحريض عام على القتل أو ارتكاب جريمة من الجرائم منعاً للفوضى . وبالتالي تجريم إصدار أي فتوى بإهدار دم ، وإذا كانت جهة ما (دينية) ترى أن شخصاً قد اعتدى على الدين بما يصح فيه معاقبته فما عليها حينئذٍ سوى اللجوء إلى حكم القانون من خلال القضاء النظامي المنبثق عن مؤسسية الدولة .
إهدار الدم والمؤسسة الدينية :
كانت الكنيسة تمثل المؤسسة الدينية التي تحتكر تحديد وصياغة المفاهيم الدينية وإصدار الأوامر البابوية المقدسة ، وقد أدى ذلك إلى نتيجتين هامتين : النتيجة الأولى كانت نتيجة إيجابية ، وهي السيطرة على الحركة المسيحية وتثبيت دعائم الدولة الدينية ، إلا أن النتيجة السلبية كانت هي أن هذه السيطرة أدت إلى العقم في تطوير القواعد ، بل وإلى الصراع بين الدين والعقل ، وما نتج عن ذلك من محاكمات مجحفة وغير عادلة تجاه المفكرين والعلماء ، ولا أدل على ذلك من محاكمة جاليليو بالهرطقة حين قال بعدم مركزية الأرض ، مخالفا المفاهيم المقدسة التي تعتبر أن الأرض هي مركز الكون .
أما في الإسلام فإن المسجد لا يمثل مؤسسة دينية تحتكر هذه المفاهيم ، بل أن الإمام مالك – كأحد أكبر الأئمة – لم يكن يمثل الإسلام ، بل كان يمثل مفهومه الشخصي للإسلام ، ولذلك فإن الأخذ بأي رأي مخالف له لا يعد كفراً ، وعلى ذات النحو فإن فتوى شيخ بمكة لا تلزم سواه ومن اقتنع بها ، إذاً ففي الإسلام يعتبر كل مسلم مؤسسة قائمة بذاتها ، وقد أدى ذلك أيضاً إلى نتيجتين إحداهما إيجابية والأخرى سلبية ، فالنتيجة الإيجابية أن عدم وضع مؤسسة إسلامية واحدة يؤدي إلى تطور الفقه الإسلامي وانتشاره واتساع مداركه ، وتنوع الأحكام فيه بحيث تتلاءم مع خصائص كل مجتمع على حده. أما النتيجة السلبية فهي اختلاف المفاهيم والأحكام المستنبطة ، وعدم إمكانية ضبطها والسيطرة عليها ، بحيث تختلف هذه المفاهيم باختلاف درجات الوعي وباختلاف الحالة النفسية والعلاقات الاجتماعية لكل فرد ، وبالتالي إمكانية تبني كل فرد إتجاهاً دينياً مختلفاً على الآخر ، مع خطورة اقتناعه بتملكه للحقيقة المطلقة ، وهكذا تنتج فتاوى إهدار الدم دون القدرة على ضبطها ، كما أن المحاولات الكسيحة التي يقوم بها بعض المشايخ بحيث يحاولون إنشاء مؤسسات دينية تحت مسميات عدة ، كالهيئة أو المنبر أو المؤتمر أو التجمع أو الرابطة أو خلافه ، لا يسندها صك رباني يخولها احتكار المفاهيم الدينية ، وإنما هي محاولات إما متنطعة نافية ومقصية لغيرها بشكل نرجسي ، أو أنها بريئة إلى درجة السذاجة بحيث تحاول أن تنصب من نفسها وصياً مصلحاً ومقوماً لما تراه من وجهة نظرها الأحادية اعوجاجا أو حياداً عن جادة الصواب . وفي كل الأحوال فإن هذه المحاولات -نرجسية كانت أو بريئة- لا تقدم ولا تؤخر . ولا يمكننا أن نتقبلها كآلية لضبط فتاوى إهدار الدم . ولذلك فإننا نرى أن الأصوب من كل هذا هو الخضوع الكامل لمؤسسة الدولة ، وأن الآلية الحقيقية لمناهضة فتاوى إهدار الدم هي آلية القانون الجنائي الذي يجب أن يكون صارما وواضحاً في نصوصه المجرمة والمعاقبة عليها.والله من وراء القصد. وإلى الله ترجع الأمور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.