تظلنا خلال هذا العام الميلادي 2009 ، أو أوائل العام المقبل 2010 م ، ذكرى مرور مائتي عام بالتمام والكمال على وفاة رائد فن الكتابة والتأليف في السودان المعاصر ، ألا وهو الشيخ الفقيه والقاضي والكاتب والمؤرخ محمد النور بن ضيف الله ، الشهير بود ضيف الله ، صاحب كتاب: "الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان" ، والذي ولد بحلفاية الملوك في عام 1727 م ، وتوفي ودفن فيها في حوالي سنة 1809 م ، أو 1810 على نحو ما هو مذكور تاريخه بالتحديد في كتاب "تاريخ السلطنة السنارية" للحاج أحمد بن محمد بن علي الشهير بلقبه: "كاتب الشونة" ، الذي ذكر بالتحديد أن ود ضيف الله قد مات في ذلك التاريخ من جراء وباء الحمى الصفراء الذي كان قد تفشى في البلاد آنئذٍ. وإنما قلنا السودان المعاصر تحرزاً فحسب. ذلك بأن بلاد السودان قد عرفت الكتابة والكتاب والمؤلفين منذ زمان قديم لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى ، كما عرف أعداداً كبيرة ممن كانوا يمتهنون حرفة الكتابة ، فضلا عن تعدد وتباين اللغات التي كتبوا بها أولئك الكتاب ، والمواضيع التي ألفوا فيها على حد سواء. فقد لاحظ بعض الكتاب الكلاسيكيين من إغريق ورومان وغيرهم ، أن التعليم ومعرفة الخط والكتابة ، قد كانت شائعة في أرض السودان بين سائر الطبقات الشعبية ، بخلاف أرض مصر المجاورة التي كان الكهنة وحدهم هم الذين يحتكرون ذلك الامتياز. ولا أحد يعلم حتى الآن على سبيل المثال وعلى وجه التحديد ، بأية لغة كتبت مجلة لقمان الحكيم الذي يرجح أنه عاش في القرن العاشر ، أو أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد معاصرا لداؤود عليه السلام ، والذي تتواتر الروايات على أنه كان ينتمي إلى هذه البلاد ، مثل ما أنه ليس معلوماً عما إذا كان الملك المروي "أرقماني" الذي عاش وحكم في القرن الثالث قبل الميلاد قد ألّف مصنفات في الفلسفة التي تشير بعض المصادر الكلاسيكية إلى أنه كان ذا باع طويل فيها ، مروراً بالطبع بطائفة من الكتاب المفترضين خلال فترة سيادة الممالك النوبية المسيحية ، ثم المصنفات المفترضة أيضاً لكتاب فترة انتشار الثقافة العربية الإسلامية داخل البلاد ، والتي بدأت منذ القرن الهجري الأول ، الموافق للقرن السابع الميلادي وما تزال مستمرة إلى يومنا هذا. أعني تلك الثقافة التي أنجبت في بواكيرها في السودان أعلاماً أفذاذاً على شاكلة التابعي: "يزيد بن أبي حبيب النوبي" وأضرابه. لقد مرت على بلاد السودان فترات متطاولة من الاضطرابات والحروب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي المتمثل في عمليات النزوح والهجرات الداخلية والخارجية لأسباب مختلفة لعل من أبرزها وأقواها أثراً فترة الحكم التركي – المصري ، وخصوصاً ما عرفت بحملات الدفتردار الانتقامية في أول ذلك العهد ، فضلاً عن التجريدات العسكرية التي كانت توجه ضد ما كانت تعرف بالقبائل المتمردة أو العاصية والعربان الخ ، بالإضافة إلى سنوات الثورة والدولة المهدية (1881- 1898 م) ، وما شهدته من عمليات تعبئة ورباط وجهاد مستمر ، وما لازم ذلك من عمليات تهجير قسري ، ونزوح طوعي ، ومحاولات للعصيان والتمرد وقمعها الخ. لقد أدى كل ذلك إلى اندثار وفقدان عدد هائل من الكتب والرسائل ، وسوى ذلك من المصنفات الأخرى التي ألفها كتاب سودانيون ، على الأقل خلال فترة حكم الدولة السنارية ، أو سلطنة الفونج (1504 – 1820 م) ، إن لم يكن قبلها. فمن بين تلك المصنفات المفقودة التي كانت قد أصابت شهرة كبيرة ، وتداولاً واسعاً داخل السودان وخارجه كما ذكر ود ضيف الله كتاب: "التوحيد" للشيخ أرباب بن علي الشهير بأرباب العقائد المولد بجزيرة توتي على الأرجح خلال النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي ، والمتوفى والمدفون بسنار في نحو أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. وهو – بالمناسبة – كان أستاذاً لنفر من الشيوخ المشهورين إلى الآن في السودان ، نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ خوجلي أبو الجاز ، والشيخ حمد ود أم مريوم ، والشيخ فرح ود تكتوك. وقد ذكر ود ضيف الله في الطبقات أن كتاب "التوحيد" لشيخ أرباب العقائد قد ذاع صيته ، وطارت شهرته ، وأصبح متداولاً بين أيدي الطلاب حتى دار برنو من بلاد السودان الأوسط. ولكن هذا الكتاب قد اختفى تماماً من خزائن الكتب العامة والخاصة ، وانقطع عن التداول داخل السودان ، حتى عثر على نسخة منه مؤخرا لحسن الحظ ، الناقد والبحاثة المعروف ، الدكتور احمد محمد البدوي (سوف لن أكشف عن المكان الذي عثر فيه ود البدوي على تلك المخطوطة ، ولا كيفية عثوره عليها ، وحصوله على نسختها ، لأن ذلك هو جهد هذا العالم والباحث المحقق الجاد ، وهو أولى به !). وقد توقع لي الدكتور أحمد البدوي أن أعثر على نسخة مخطوطة من هذا الكتاب النادر في بعض الخزائن الشخصية ببلاد السنغال ، وما زال التفاؤل يحدوني في هذا السبيل. على أنّ من طريف ما ذكره لنا الدكتور البدوي عن هذه النسخة التي عثر عليها من كتاب "التوحيد" للشيخ أرباب العقائد ، أنها جاءت تحت عنوان: "كتاب التوحيد للشيخ أرباب بن علي الخرطومي" ، نسبة إلى مدينة الخرطوم ، فتأمل. قلتُ: نسبة الشيخ أرباب العقائد إلى الخرطوم نسبة ملائمة جدا ، ولا ينبغي أن تكون مستغربة. ذلك بأنه قد ولد في جزيرة توتي كما تقدم ، وقد قيل إن الخرطوم نفسها – ومعناها في الأساس رأس الجزيرة – كانت تعرف قديما ب " خرطوم توتي ". ثم إن الشيخ أرباب العقائد ، على نحو ما هو مذكور في كتاب الطبقات لود ضيف الله ، كان قد انتقل بمدرسته (خلوته) وتلاميذه من توتي إلى الخرطوم الحالية ، وأنشأ فيها مسجده وخلوته في عام 1691 م . وقد اشتهر أن موضع مسجده قد كان ذات الموضع الذي يحتله الآن مبنى مسجد فاروق ، الذي تم بناؤه في مطلع خمسينيات القرن الماضي. وفي ظني أن أعداداً مقدرة من الرسائل والأطروحات العلمية قد تم إنجازها حول هذا الجانب أو ذاك من مادة كتاب "الطبقات" لود ود ضيف الله ، داخل عدد من الجامعات داخل السودان ، وربما خارجه. فإذا ما كان البروفيسور يوسف فضل حسن قد حاز فضل تحقيق هذا السفر المهم تحقيقاً علمياً رصيناً ، وإخراجه في طبعات محققة ابتداءً من أوائل سبعينيات القرن الماضي على سبيل المثال ، فإنّ أستاذاً جامعياً سودانياً هو الدكتور بشارة حمد الذي يعمل أستاذاً مساعداً للغة العربية بجامعة "جون هوبكنز" الأمريكية ، قد حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة "تكساس-أوستن" بالولايات المتحدة في عام 1992 م ، عن أطروحته بعنوان: "ود ضيف الله مؤرخاً: دراسة تحليلية وأدبية ولغوية لكتاب الطبقات" ، وهي رسالة نأمل أن نرى ترجمةً لها إلى اللغة العربية قريبا. ولكل ما تقدم ، فإنني أعتقد أنَّ ذكرى اكتمال قرنين على رحيل ود ضيف الله تمثل مناسبة سانحة عظيمة للاحتفاء بهذه الشخصية الوطنية الفذة الاحتفاء الذي يليق بها.