فى يوم خيبتنا الكبرى ، كان ملفتا لنظر الذين لا يعلمون ان المشير كان يخاطب العالم بصدر منشرح . ولم تبد على قسماته دلائل الكدر او الاكتراث . و الحزن لم يجد طريقه الى قلبه وهو يعلن ترحيبه بالدولة الجديدة . و بذهاب ذلك الجزء العزيز من الوطن. حتى المؤاساة المعنوية التى توقعها منه شعب السودان تعزية له لانشطار بلده الكبير كانت غائبة تماما عن خطاب جورباتشوف السودانى الذى تبدى على قسماته ما يشبه الانبساط المكتوم . وهو يرسل الوعود الكبيرة بدعم الدولة الوليدة التى لولا مزايدات نظامه على أهل الجنوب لما ولدت اساسا . لقد كان الانبساط الغامض هو السمة البادية على محيا الرجل الذى كان ثانى اثنين فى عصرنا هذا مزقا بلديهما دون ان تطرف لهما عين من حزن او من حياء . وان كان يحسب للمستر جورباتشوف انه ، عكس المشير ، كان يتصنع الحزن ، و يتمسح به ، كلما وجد فرصة للحديث عن تدمير الاتحاد السوفيتى القديم ، راميا باللوم على رئيس الاتحاد الروسى بوريس يلتسن . و كان الرجل يغالب خيبته هو الآخر لكى يكون حزنه المصطنع بحجم امبراطورية عظمى كان اسمها الاتحاد السوفيتى اضاعها بين غمضة عين وانتباهتها واسلم العالم كله الى اليانكى المغرور الجاهل الذى لا يعلم عن اوضاع العالم من حوله اكثر مما يعلم عن رياضة البيس بول . اما المشير ، فقد استغل المناسبة الحزينة ليعلن بصورة غير مباشرة عن فرحه و اغتباطه بخلو أجواء السودان الجديد من اهل العقيدة الاخرى ، مدشنا فى عجالة تنقصها الكياسة الدبلوماسية ، مدشنا دولة العروبة و الشريعة الاسلامية فى ما بقى من السودان ، واسقط بفرمان فورى كل جدليات الهويات الثقافية القديمة من السودان العروبى الجديد ، بعد ان صار السودان بلدا اسلاميا عروبيا بذهاب الجنوب . لقد بدا الرجل كمن تخفف من حمل ثقيل . ولم يبد عليه ذلك الحزن الصادق الذى بدا على وجوه الالوف من ابناء شعبه فى طرفى البلد القارة وهم يودعون بعضهم البعض باكين بقلوب منفطرة فى صبيحة التاسع من يوليو 2011 حزنا على وطن ورثوه عن اجداد اماجد بذلوا فى سبيل توحيده وارساء دعائمه و الحفاظ عليه ارواحهم ودماءهم الزكية . ربما يكون مسلك المشير غير المكترث فى ذلك اليوم قد بدا غريبا للكثيرين . وللكنه قطعا ليس غريبا لدى الذين يعلمون خلفيات حزب المشير الفكرية وايمانه المكتوم بأن وجود شعب جنوب السودان ضمن هيكل السودان الكبير هو خصم على جهوده لتأسيس دولة الشريعة فى هذا الكيان . واقوم الف مرة أن يذهب شعب جنوب السودان فى حال سبيله . وأن يتخفف شمال السودان من جنوبه عندما يتوفر الظرف المناسب . مسلك المشير غير المبالى وغير المكترث فى ذلك اليوم الحزين بالنسبة لشعب السودان الكبير هو فى حقيقته تأكيد لرغبة قديمة يضمرها حزب المشير بطرد الجنوب المسيحى من ديار الصحابة الجدد . يفضح ذلك الهوى المكتوم تفلت المشير و تعجله الاعلان عن مولد دولة الشريعة العروبية وسقوط جدل الهوية الثقافية فى ما بقى من السودان بعد ( سقوط)الوحدة لأن السودان المتبقى اصبح ذو هوية ثقافية واحدة حسب قناعة المشير ونظامه هى الهوية العروبية الاسلامية رغم الجيوب غير الاسلامية التى مازالت منتشرة فى كثير من ربوعه حتى بعد مغادرة الجنوبيين المسيحيين ديار الصحابة اياهم . وامضى فى حديث الشجون . واقول ، ويدى على قلبى المريض ابتداءا ، اقول ليس هناك حالا اجلب للحزن والتأسى من حال بلدى الحزين هذا فى ايامه العصيبة هذه . الذى لم تفلح محنته القاصمة هذه فى تفتيح عيون القائمين على امره . لأنهم معنيون فقط باستمرار استحوازهم المنفرد على السلطة وبعدم اتاحة الفرصة لأى من كان بالاقتراب من عرينهم السلطوى وليس مهما أن تحرق روما السودانية غدا . كما حرقت روما القديمة . يقولون انه لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب . هذا صحيح على اطلاقه . فان البكاء على اللبن المسكوب لن يعيده الى الضرع او الى ماعونه . ولكننا لا نبكى لبنا مسكوبا . اننا نتشقق حزنا على الكيان الحبيب الذى انجبنا . وعلمنا . واطعمنا وسقانا . وكسانا ولم شملنا ونظف شعسنا بما انعم علّينا من ريع وريف ضمن لنا كرامة العيش والوجود والتآخى . فان تزول هذى الموجبات فى غمضة عين وانتباهتها ، فلابد ان تتجذر فى ديار الغارمين المحن الجلمود . ويصبح الامر اكثر مدعاة للحزن والتأسى حين لا تصادف فى صبحك ومسائك ، وانت الذى اصيب فى وطنه للتو ، أن لا تصادف إلا الاخبار الكئيبة التى تقول لك ان فصل الجنوب ، و تفتيت السودان الذى عرفت ليس كافيا ولا يشفى غليل الذين ما زالت شفاههم تتلمظ لقضم المزيد من لحوم الوطن المسجى . بل يجب ان تمضى الساقية مدورة . يجب ان تذهب دارفور غدا . على ان تلحقها غرب كردفان بعد غد . ثم لا تلبث أن تأتى جنوب النيل الازرق فى مؤخرة السباق نحو الهاوية . وانظر من حولى فارى تسابقا دوليا متجددا نحو بلدى يقطع نياط القلوب مذلة ومهانا . قوى اجنبية جديدة تأتى بجيوشها العسكرية تزاحم فى ما تبقى من السودان القديم . تاتى من الجارة اثيوبيا هذه المرة . وتتموضع فى ابيى . تريد أن تحمى بعض اهلنا من نزغنا ضدهم . فقد اصبحنا منذ بعض الوقت صبية اغرارا نقتل على حبات النبق الناشف . وعدنا نحتاج لمن يحمينا من انفسنا ونزغنا ، حتى اذا كان هؤلاء الحماة ياتون من رواندا صاحبة الاسم الاثيم فى القتل العشوانى . تخيل خيبتك وانت تنتظر حماية من عسكر دولة قتل شعبها بعضه البعض بالملايين على العدم الصفرى . كأنك تطلب من فاقد الشئ أن يعطيكه . و تمضى الساقية مدورة فى ما تبقى من سودان المشير المعطون فى التعاسة . لقد اضاع المشير وحدة بلاد تسلمها متمددة فى الافق مثل سجادة التاريخ ، يباهى بها شاعرها الفحل ويسميها بالوطن الحدادى المدادى . اضاع المشير كل هذا ولم يكسب السلام . ولم يطمئن الى ماذا يحدث غدا لما تبقى من الحصن المتآكل من اطرافه . فهذهة سوزان رايس سفيرة الولاياتالمتحدة فى الاممالمتحدة تريد قوات دولية جديدة فى جنوب كردفان . السفيرة التى ذاق اجدادها مرارة الاضطهاد السياسى بالمعيار الثقيل ربما اخافتها تهديدات اساطين نظام المشير بضرب كل من يرفع رأسه فى السودان الفضل ، ضربه على نافوخه. وربما عرفت السفيرة اكثر ان الوزير الذى اطلق هذه التهديدات هو رجل صاحب سوابق فى تنفيذ الضرب المستحيل ! . السفيرة رايس قد تنجح غدا فى تحريك قوات دولية جديدة الى جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق . واذا حدث هذا ، ألا يحق لأهل ما تبقى من السودان القديم أن يسألوا كم من الاشبار بقيت من اراضيهم لم تطأها احذية الجند الدوليين الغليظة. لقد ظن هؤلاء انهم وصلوا نهاية طريق المذلة والمهانة الدولية التى يمثلها الوجود الاجنبى فى بلاد المهدى الامام التى جعلها ذات يوم مقبرة للغزاة الاجانب . ولكن بعض الظن غفلة . فالحديقة المسماة بالسودان التى اصبحت قد اكتظت بالجنود الدوليين وفاضت بهم عن سعتها . وصارت حديقة على الشيوع ، يبدو انها وانها مجبرة على تلقى المزيد من الاحمال. دعونى استجلب المزيد من الحزن و الندم الاسيف. واكتب بدم قلبى المريض عن حصاد بلدى المر هذا، وقد حلت به هذه القارعة التى اخذت من رونقه القديم حتى كادت لا تبقى منه شيئا ، و لا تذر . لقد كان بلدا زاهرا بخيراته العميمة ، و كان مزهوا بتنوعه الثقافى، وبارثه الاجتماعى ، وبتعدده الاثنى . وبتمدده الجغرافى . و كان مرجوا لغير هذا الذى حلّ به من محن الزمان الغشيم . ولكن رياحه لم تأت بما اشتهت سفنه التى ضرب بها السفهاء من ملاحيها فى عباب بحور لجية عاصفة ، فطاشت مع الرياح ، واهتزت حتى ضاع منها الدرب و ضاع من ربانها المجداف . و كان بلدا مغيثا للجائعين من اهل الجوار . وكان مجيرا للخائفين منهم . ورشحه العالمون بخيرات الارض سلة لغذاء العالمين العربى والافريقى . وما يليهم من شعوب . ولكن ضاع كل هذا يوم دخلت عليه الشموليات العسكرية القابضة كما يدخل الريح الاصفر من النافذة. واهدرت دماءه فى الطريق العام مرتين . مرة حين ركمت شعبه للعيش تحت ظلال السيوف الشمولية نحوا من خمسين عاما الا قليلا . ومرة ثانية حين مزقته بما مارست من صلف وعنجهية وازدراء بحق انسانه المسالم الوديع . وازدرت بعض بنيه واعلنت عليهم الجهاد باعتبارهم من ملة الكفر . وكانت النتيجة تنادوا الى الخلاص بصيحة واحدة عازمة : إنج سعد ، فقد هلك سعيد. وغادر المجرحون من اهل الجنوب الخميل الساجى الذى تمدد ذات يوم ظلا ظليلا فوق الجميع. وساح اخوانهم فى المذلة والهوان فى ارجاء المعمورة كلها مثل طيور السمبر الجوالة الوديعة يستجيرون من رمضاء حالهم الاسيف برمضاء الغربة وهجيرها . وتقتلهم الاخبار الكئيبة مرة ومرات . الوطن الوحد اصبح بلدين : السودان . و جنوب السودان . وهل هناك محرقة وجدانية اقسى من هذه . خمسون عاما إلآ قليلا قضاها شعبنا مدامكا تحت سنابك خيل الشموليات العسكرية العاصفة التى تعاقبت عليه منذ صرخة الميلاد . وظلت جاثمة على صدره بلا لزوم وهو ينتظر الخلاص . كان ذلك وحده عذابا كافيا لانتزاع الخلاص وليس انتظاره . ولكن الخلاص لم يأت . ربما لأننا لم نبدل ما بانفسنا . بل أتى بديلا عنه هذا الحصاد المر . حدث ذلك فى صبح ذلك اليوم الأجرد . صبح الجمعة بالتحديد . كان سعد الامة غائبا فى اجازة قصيرة . و كانت نواطيرها قد نامت عن ثعالبها ، فوفد عليها الانبياء الكذبة بحكاياتهم ، ينثرونها فى دغش الدجى . فاطعموا الشعب وعودا كاذبة حتى اوصلوه مدارج التخمة والغثيان . وسقوه من كأس الاوهام انخابا . و لكن لم يطل فجر النبؤات . بلى انبلج فلق الصباح عن الكذبة الكبرى. الشعب لم ياكل مما يزرع . و لم يلبس مما يصنع . ولم يفق العالم أجمع مثلما غنى زمارهم بذلك البله العظيم . بل لم يعد متاحا الا التكفف ، ومد ايدى الضراعة فى معسكرات الهوان الاجتماعى ، يسألون منظمات الاغاثة الدولية الحافا ، اعطوهم ام منعوهم ، حسب التساهيل . وعادوا مثل سمار الحى القديم يغنون لماض أفل . و لخيبته قادمة . هذا يغنى : نحن الشرف البازخ ابناء النيل . وذاك يغنى لعازة ، يكنى بها الوطن الفقيد : خذينى باليمين انا راقد شمال. وثالث مترع وجدانه بالخوف : ما عارف قدمو المفارق : ياوطنى السلام . وتتجذر الصورة فى لوحة مضيئة بالخيبة الكبرى : وحدة ضائعة بالافراط المجرم . و حرب عائدة فى اعقاب السلام الكاذب . وجوع يتفاقم رغم الرخاء الموعود . وسقام يطرق الابواب . و لا تسمع الا اناة المجرحين فى الليل البهيم . أخ . . . يا و طن المغاوير الذى كان ! Ali Hamad [[email protected]]