سألني بابو قائلا: "هل سبق أن جرّبت آلام المخاض؟" قلت: "أي سؤال هذا يا رجل؟" بابو: "أنا لا أعني حصرياً المخاض الذي يسبق ميلاد الأطفال، بل أريد المخاض بمعناه الواسع، مثل المخاض الذي يجيء قبل ميلاد فكرة، أو الذي يسبق نظم بيت من الشعر، أو المخاض الذي يطرقك قبل أن تحدّد مشاعرك تجاه شيء معيّن" قلت: "وما الداعي لتسميته "مخاضاً" إذن؟ فالنساء فقط هنّ اللآئي يجدن آلام المخاض، وبخاصة في اللحظات التي تسبق مساهمتهن في الانفجار السكاني" بابو: "أنت تخطيء حين تتصور أن آلام المخاض تنتاب النساء فقط، وبخاصة الألم الذي يتمخض عن إضافة شخص أو أكثر للجنس البشري. فكل إنسان، رجلا كان أو امراة، يمكن أن يتعرض لآلام المخاض. بل حتى الدول تنتابها آلام المخاض أحيانا" قلت: "ما هذا الكلام الفارغ يا أخي؟" بابو: "خذ روسيا وأوكرانيا مثلا. فهذان البلدان يشعران بآلام مخاض ناشئة عن اختلافهما حول ميلاد الأديب الساخر نيكولاي غوغول الذي عاش في القرن التاسع عشر. فالتهارش جارٍ الآن بين هاتين الدولتين بشأن ميلاد غوغول—أي بعد مرور مئتي عام على ميلاده" قلت: "ولكن أوكرانيا لم تكن دولة مستقلة في القرن التاسع عشر، بل كانت جزءا من روسيا نفسها" بابو: " صحيح، لكن حتى في ذلك الوقت أنتج غوغول أعمالا أدبية شهيرة أوسع فيها المجتمع الروسي سخرية ونقداً، في حين جاءت كتاباته عن أوكرانيا مفعمة بالحب والاعتزاز" قلت: "أعتقد أن التهارش بين روسيا وأوكرانيا حول ميلاد غوغول حادثة معزولة لا ينبغي تعميمها" بابو:" كلا، لم تكن حادثة معزولة. فهنا في باكستان مثلا ظلت مدينتا سيالكوت ولاهور تعانيان من آلام المخاض بسبب اختلافهما بشأن ميلاد الاديبين إقبال وفائز" لقد بدأ بابو وهو يدلي بوجهة نظره هذه وكأنه هو نفسه يعاني من آلام المخاض ويكاد أن يلد شيئا ما—أطروحة عظيمة أو شيئا أرفع مقاما. قلت: "كلتا المدينتين تقعان في باكستان، فلماذا لا يغتبط أهل مدينتي لاهور وسيالكوت بحقيقة أن هذين الشاعرين العظيمين ينتميان للأمة الباكستانية جمعاء، وبهذا يكفي الله المدينتين القتال؟" بابو: "كما أنه يستحيل أن يكون لك والدتان حقيقيتان، كذلك يستحيل أن تتعدد أماكن ميلادك. أم تظن أن هذا ممكنا؟ واحدة فقط من هاتين الوالدتين ستكون هي أمك البيولوجية، ولن تلدك إلا في مكان واحد فقط. وحالما تلد الأم وليدها فإنها تحميه بشراسة حتى لو كان هذا الوليد في مثل بلادتك" قلت: " لكن من الممكن أحيانا أن تُنكِر الأُم وليدها إذا كان متخلّفاً مثلك" بابو: "إنك لا تكاد تفوِّت إساءة!" قلت: "معذرة يا بابو. ولكن موضوع الإنكار يذكّرني بحقيقة أن بولندا مثلا لم تدّعِ أنها أنجبت الكاتب الروائي العالمي جوزيف كونراد. وقد تعلم أن الاسم الحقيقي لهذا الأديب الشهير هو كونراد كورزينيووسكي، ورغم أن كورزينيووسكي ينتمي بيولوجيا إلى بولندا إلا أنه كتب جميع رواياته باللغة الانجليزية. والعجيب أن الشعب الانجليزي تنكّر هو الآخر لكونراد، وذلك لأنه سبق للأخير أن وصف نهر التيمز بأنه النهر الذي يؤدي إلى لجّة ظلمة حالكة وذلك في روايته المسمّاة: رابعة الظلمة. وكانت رحلة كونراد إلى الكونغو قد اقنعته بأن الانجليز يحبون العاج إلى حد الجشع" بابو: "إنني جد منبهر بما تهيأ لك من معرفة بالكاتب جوزيف كونراد. فممن سمعت كل هذه المعلومات؟" قلت مصححاً: "كلا، أنا لم أسمع بهذه المعلومات، بل أفدتها من نظري في الكتب" قال بابو وكانه يحاول أن يتحداني: "وما هي الأشياء الأخرى التي تعرفها عن جوزيف كونراد؟" قلت: "أظن أن ما قلته عن كونراد يكفي لهذا اليوم. ولكنني أود أن أحيطك علما أن الانجليز ظلوا إلى يوم الناس هذا يحافظون على جشعهم القديم—فقد كانوا بالأمس مولعين بالعاج وهم اليوم منهومون بالنفط" بابو: " يار! لقد أفحمتني يا رجل! ولكن أظن اننا كنا نتحدث عن المخاض، وكنت أنا الذي أثار هذه القضية، أليس كذلك؟" قلت: "أي قضية تعني—قضية الميلاد أم قضية المخاض؟" بابو: "لا تشوّش عليّ من فضلك ولا تغيّر موضوع النقاش. أعتقد أنك ستشاطرني الرأي أن باكستان والهند أيضا تعانيان أحيانا من آلام المخاض بدليل اختلافهما حول أيهما أنجب أسد الله خان وغالب وسعدات حسن مانتو وقُرّة العين حيدر" كنت عند ذاك الحد قد ضقت ذرعاً بهذا الحِجاج العقيم (كاج باهسي)، لكن الجدل يظل جدلاً، ومن منطلق هذا الجدل قلت: "ألم تلاحظ أن هناك مولودا بائسا واحدا وضعته بلدنا هذه دون أن تعاني آلام المخاض؟" بابو: "ومن هو هذا المولود؟" قلت: "هو البروفسور عبد السلام الحائز على جائزة نوبل. هل تعرف سبب تنكّر بلده له؟" بابو: "سبب ديني ربما؟" قلت: "تخمينك موفق. لكن ثمة سبب آخر وراء تجاهل بلده له" بابو: " وما هو هذا السبب الآخر؟" قلت: "السبب الآخر هو اكتشافه للقوة النووية الضعيفة" بابو: "وهل كان اكتشافه لهذه القوة مصادفة؟"