يعتبر فردريك نيتشة الأب الشرعي لتيارات ما بعد الحداثة تحدث عن إن ما بين الأنسانية وطريقها الذي ينبغي أن تسلكه بضع خطوات و لكن يحول ما بينها و بينه جبِار الصدف.إن أفكار نيتشة هي إشكالية تعارضية في طبيعتها و بالتالي من الصعوبة الإستدلال بها ,إلا أن مدارس ما بعد الحداثة تعتبرأفخاذ لفلسفته. ومفكر مثله, فريد في أسلوبه, قد إلتبس حتي علي المثقفين الفرنسيين حيث كانوا يعتقدون أنه شاعر حتي عام 1943 و بعدها إنتبهوا إلي إنه فيلسوف قبل أن يكون شاعرا يصعب الإستدلال بأفكاره . ويقال أن فهم الفرنسيين لفلسفة نيتشة كانت نتيجته قيام ثورة الشباب عام 1968. وكان يقودها دولوز بأفكاره وأفكار ماركس وفرويد. فالغرب اليوم تسوده أفكار ما بعد الحداثة, فأين منه عالمنا الثالث الذي لم يأخذ حتي الحداثة مأخذ الجد ؟ فهذا يحتم علي مفكرينا مراعات فروق الوقت ومعرفة الميول التي تؤدي لحل المشاكل الإجتماعية ومراعات الإعتبارات النفسية للفرد . فمثل هذه الإعتبارات جعلت فيلسوف مثل إدموند هوسرل أن يتحدث في كتابه أزمة العلوم الأوروبية 1937. وعلي نهجه سارت تلميذته الفيلسوفة الألمانية ,حنَا أرندت, فكان كتابها, أزمة الثقافة و الذي تصف فيه حالة المجتمعات الاوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأنها ليست مسبوقة بعهد. أي كأنها ليست مستندة علي تراث يسبقها, وبالتالي عليها أن تشق طريقها وتخلق أقدارها . وهذه الفكرة كانت قد أخذتها حنَا من أفكار رينيه شارل, وهذا ما يتطابق مع حالة العالم الثالث وخاصة الشعوب العربية في ربيع ثوراتها. فإنها مقبلة علي مرحلة ليست مسبوقة بعهد, وليس لها تراث في ذاكرتها وتاريخها ليسندها فيما يخص الحرية والديموقراطية والتسامح وإنفتاح الروح وحب الحياة كما يقول ميشيل مونتيت. فهذه هي حالة الإنسان الذي يحمل الشكل الكامل للحالة الإنسانية وهذه الأفكار كتبها ميشيل مونتيت في مؤلفاته التي تأخذ عنوان المقالات و التي كتبها كرجل دين, وأنثروبولوجست, وأتنولوجست, ناد بتبني الحكمة ونبذ العصبية منذ خمسة قرون. ورغم ذلك يري حنَا ورينيه شارل أن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية جعلت أوروبا تقف علي عتبة مرحلة ليست مسبوقة بعهد. وقبلها كان إدموند هوسرل, أستاذ حنا أرندت. في كتابه, أزمة العلوم الأوروبية, ينتقد إنتصار أفكار دوركهايم وأوجست كومت التي رسَخت للفردانية. وكذلك لم يوفر في نقده حتي أسبينوزا رغم ان لأسبينوزا أفكارا و إسهامات جليلة في كتابه, رسالة اللاهوت والسياسة, ربما تقف اليوم سدا منيعا أمام أفكار السلفيين الأسلاميين الذين يريدون أن يأخذوا المجتمع من الغيب الي الغيب . نحن الأن أمام حالة تحتاج لمفكرين يجيدون سباق المسافات الطويلة. وهذه الجولة التي تنتظرثورات الربيع العربي اليوم, تحتاج لزمن طويل حتي تعطي الفرد في العالم الثالث فرصة ليحمل الشكل الكامل للحالة الانسانية. وبالتالي نحتاج لفلاسفة لهم القدرة لحماية المكتسبات الجديدة لثورات الربيع. فإذا كان مثل المجتمع الفرنسي مازال يري أن وجود فلاسفة يحمون مكتسبات الأمة امرا ضروري, فما بالك في مجتمعات مازالت حديثة عهد بمثل هذه المكتسبات. والان في فرنسا نجد فلاسفة معاصرين لا يقلَون في مقامهم عن سارتر وكامي ودولوز وميشيل فوكو ودريدا. فنجد الأن جاك أتالي مستشار, فرانسوا ميتران, الذي سحب فرنسا من اليمين في انتصاره عام 1981 وخلقه لليسار العريض. كما نجد جول فيري الحفيد و هو ذو حضور كبير في وسائل الإعلام وشغل منصب وزير التعليم. وكذلك ايمانويل تود وهذا يمتاز علي الاخرين بأنه الأن في فرنسا ملقب بالفيلسوف النبي, وله أيضا ثقافةانجليزية عالية. فقد تنبأ عام 1976 بسقوط وتفكك الإتحاد السوفيتي من دراسة له عن وفيات الأطفال وحالات الإنتحار. والرجل متخصص في أربعة مجالات: فهو مؤرخ وإقتصادي وديموقرافك وأنثروبولوجست. وهذه ملاحظة أن القائمين علي حراسة المكتسبات متخصصون في أكثر من مجال وهذا مهم جدا. نظرة إيمانويل تود للأزمة الإقتصادية في المجتمعات الأوروبية مكتملة النمو حددها في بطء النمو الاقتصادي وتنامي اللاعدالة في توزيع الدخل القومي بين طبقات المجتمع. وهذه ازمة مرتبطة إرتباطا مباشرا بالعولمة , ويقول إنها ناتجة من أزمة حقيقية للحضارة, وأساسها ثقافي وأنثروبولوجي. وهذا يوضح الفرق ما بين البعد الفردي للإنجليز ,والعائلي للالمان ,وفرنسا تقع ما بين المرتبتين. ورصد إيمانويل ,في رايه, تبني فرنسا لفكر وطني رغم إنها تؤمن بفكرة العولمة. وهذا هو التناقض الناتج من أزمة النخبة الثقافية . ينادي تود بالحماية الوطنية للإقتصاد من أجل تقوية اللبرالية, وزيادة الطلب العالمي, وبالتالي الرجوع إلي الديموقراطية المثالية. وهي ديموقراطية العدالة التي شوهت بسبب النخب الحاكمة وكانت نتائجها في بطء النمو الاقتصادي, وتنامي اللا عدالة بين الطبقات, وتفشي الفقر في الجتمعات الاوروبية كظاهرة جديدة. فإيمانويل تود من محبي أفكار كينزفهو إشتراكي ومع العدالة الإجتماعية المشروطة بالحرية . فأفكار كينز تتشابه مع أفكار بول كروغمان الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2009 ويختلف معه في نفس الوقت. فهل من ملتقط لهذه الإشارات في مجتمعنا؟ وهي ليست مجتمعات مكتملة النمو كما تنعدم فيها البحوث الإستنباطية والتطبيقية , وبالتالي تنعدم البحوث التطويرية. وهذه الحالة تحتَم علينا وجود مفكرين يهتمون بالمستقبل, وكما يقال أنبل كرم من أجل المستقبل, هو أن نعطي كل ما لدينا للحاضر. وحاضرنا الأن تسد أفاقه أافكار السلفيين الذين لا يؤمنون بالمواطنة كأساس. إن إيمانويل تود درس تركيبة الأسرة في المجتمع الإنجليزي والفرنسي والالماني والايطالي والسويدي , وصاغ دراسته الأنثروبلوجية وقدمها كحقائق لفك طوق الحلقات المفرغة التي أصبحت تاخذ بخناق الحضارة الغربية. وهنا تنجلي الأهمية القصوي لوجود فلاسفة بين صفوف الأمة من أجل التنبؤ بالمستقبل, كما يقول مونتين ويضيف قائلا علي الإنسان أن يتجرد من كل الأحكام المسبقة لكي يستطيع أن يرى الأشياء عن طريق حسه الإنساني. فسبب فوز جاك شيراك 1995 في الانتخابات الرئاسية هو إلتقاطه لإفكار تود وحديثه عن تفشي اللاعدالة وتفشي الفقر كظاهرة جديدة في المجتمعات الاوروبية إلا انه لم يطبقها كما ينبغي . إن حديث أيمانويل تود عن سقوط الإتحاد السوفيتي فتح شهية أخرين كألين كارير, و التي كانت تري أن سقوط الاتحاد السوفيتي سيكون بسبب إرتفاع الخصوبة والإنجاب في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية. ولكن سقوط الإتحاد السوفيتي كان بسبب إرتفاع الوعي السياسي في جمهوريات البلطيق السوفيتية. وبقي أن نقول, يجب أن يكون للسودانيين من يتنباء لهم بالمستقبل البعيد مثل ما للفرنسيين, كجاك اتالى, وجول فيري , وايمانويل تود, و برنارد هنري ليفي. وهذا الأخير كان من المستشارين لفرانسوا ميتران مع جاك أتالي, ولوران فابيوس , وغيرهم كثر من الحارسيين لمكتسبات الامة الفرنسية. وبرنارد هنري ليفي يميل أكثر لأفكار ما بعد الحداثة في نقدها للعقل ويري أن العقل هو المسؤول عن سيطرة الأنظمة الشمولية القاسية التي فتكت بالبشرية كالنازية والفاشية والشيوعية. ولهذا يري كثيرون أن تيارات ما بعد الحداثة التي تنتقد العقل لا تصلح للعالم الثالث اليوم وهو لم يتثني له أن ينعم بالعقلانية بعد رغم أن برنارد ليفي يري أن العقل هو سم الخياط الذي عبره ولجت النظم الشمولية . Taher Omer [[email protected]]