رحم الله الأخ صديق محمد بشير فقد كان نسيج وحده ، كان علماً من أعلام الفاشر خلال فترة الستينات ، تلك الفترة الخصيبة المفعمة بالثقافة ، والود ، والتواصل ، والحياة الأجتماعية الراقية المرهفة .... يحبه الصغير والكبير ، فهو ملء السمع والبصر. كان كما وصفة الأخ الأستاذ عبدالله آدم خاطر فنجرياً بحق وحقيقة ! صديق يتخير ليس فقط لبسه ، وعطره الخاص ، بل حتى لون الحبر الذي يكتب به خطاباته إلى أصدقائه .... أعني ذلك اللون الأخضر الذي يعشقه ، ويستخدم دفاتر خطابات زرقاء معينة فاخرة ، ويزين كل ذلك بخط أنيق فتكمل اللوحة ! أنت يمكن أن تجد إنساناً يبتسم مرة أو مراراً في كثير من المناسبات . لكنك لن تجد شخصاً يبتسم على الدوام! صديق يبتسم وهو يحييك ، ويبتسم وهو يحادثك ، ويبتسم وهو يصغى إليك..... ويوزع البسمات على المارة وهو في الطريق.... فهو يؤمن أن "البسمة في وجه أخيك صدقه" . ورغم ما يشاع من يسارية أو شيوعية صديق ، إلا أنه كان مسلماً ملتزماً حتى النخاع؛ كان لا يفرط في أداء فروضه ، فكما تجده في بيوت الأفراح تجده في المقابر وبيوت العزاء ، وعيادة المرضى ، وإغاثة الملهوفين . كان هو الذي يبارك الزوجين في أسعد ليلة لهما ألا وهي ليلة الدخلة ، فصديق هو الذي يقرأ سورة يس حفظاَ وليس من مصحف ، بينما العريس يضع يده على رأس عروسه. كان الدين عنده فعلاً هو المعاملة . وما ميله نحو اليسار إلا لحبه وعشقه للثقافة التي كان فرسانها بلا منازع في الستينات هم أهل اليسار . لذا كانوا أصدقائه وأحبابه. أما مكتبته ( مكتبة الجماهير الثقافية ) فقد كان أمرها عجباً! لم تكن فقط مستودعاً للكتب والمجلات من كل حدب وصوب ، بل كانت ملتقى المستنيرين من أبناء المدينة والمنتدى الذي يمضون فيه جل يومهم في إنتظار صحف الخرطوم ، وكانت تعج بصفة خاصة أثناء الأجازات بأسراب المعلمين والمعلمات ، والطلبة والطالبات من أبناء الفاشر ومن خارجها وهم في طريقهم إلى ذويهم . ولابد من الإشارة هنا إلى أنها خلفت مكتبة النهضة الرائدة كذلك في عالم الثقافة لصاحبها الأخ فضل محمدي، حاملة الراية من بعدها. بيته في حي القاضي كان كذلك لوحة فنية! أنيق في مظهره، نظيف في محتواه، بسيط في أثاثه، تحف الزهور والورود بساحته فتملؤه عبيرا وشذى! وان دلفت إلى داخله تجد نفسك داخل متحف رائع؛ فصديق من المولعين بجمع النقود القديمة، والطوابع، وعلب الكبريت، وصناديق السجائر، من كل حدب وصوب، بالإضافة إلى الصور النادرة ، وكلها منسقة بصورة تنم عن روح فنان. صديق كان وفياً لأصدقائه بصورة غريبة! إنقطعت الصلة بيننا فترة قاربت الخمس عشرة سنة.... وعند عودتي قبل عامين إلى السودان في أجازة قصيرة لا تتعدى الأسبوعين زارني الأخ صديق مرتين رغم بعد المسافات، وقصر المدة، وما يتكبده من مشاق في مواصلات العاصمة...... وهو نفس الصديق .... الطول الفارع .... الجبهة المشرقة .... البسمة الوضاءة التي تتبعها الضحكة الصافية المجلجلة؛ وترديد الجملة الواحدة مرات ومرات ، ونفس البشاشة والحميمية. لم تنل منه الدنيا رغم قسوتها ، ورغم ما ألمت به من أحزان لفراق شريكة حياتة الأستاذة زينب عبدالله شريف , وبعد أن هاجر من مدينته الأثيرة لدى نفسه الفاشر كالكثيرين من أهل الفاشر نظرا للظروف القاهرة التي أحاطت بهم، وبعد أن تبدل الحال. وأنت كنت تخشى على صديق أن يموت فور مغادرته الفاشر ، التي هي بحر هو سمكها! وتعجب كيف تغلب او غالب هذه الأحزان طيلة هذه المدة . وظل نفس الصديق الذي كم أنسنا بقربة ، وكم أمتعنا بشيق حديثه وقفشاته المحببة . لكن علً الحزن بلغ منه مداه أخيراً بعد أن زعزعه الدهر ، فترجل الرجل مودعاً هذه الحياة الفانية.... جاءها صديقاً وخرج منها صديقاً ! ورحم الله القائل : ( كم أردنا ذاك الزمان بمدح فشغلنا بذم هذا الزمن )