لقد ظلت قضية تنمية السياحة في السودان تشغل بالي منذ أن أصبحت من المهتمين بالشأن السياحي والمتخصصين في الجوانب القانونية فيها ، بل من المنشغلين بآليات تخطيطها وتطويرها. وأستطيع أن أقول إنه منذ أن ولجت التخصص في شأن السياحة قبل بضع سنوات وجدت في هذه الصناعة عناصر جذب كبيرة شدتني إليها بكل قوة وأجبرتني على الخوض في علومها وأدبياتها بشكل يومي بغرض الاستزادة منها وصقل خبرتي فيها حتى إذا أوغلت فيها وتجمعت حصيلتي منها كنت أكثر قدرة على خدمة بلادي من هذه الناحية عن طريق المساهمة في إعادة تخطيط السياحة وتطويرها بما يخدم الأهداف الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية لبلادي من هذه الصناعة التي صارت صناعة عالمية لا تستطيع أي دولة حديثة ، سواء كانت غنية ، أو فقيرة ، متطورة ، أو متخلفة أن تتغافل عن فوائدها التي لا تُحصى ولا تُعد . وقد قادني إهتمامي بهذه الصناعة إلى محاولة استجلاء وتبيان موقع السودان من هذه الصناعة الحديثة فإذا بي أكتشف حقيقة مُرّة لا يمكن تجرعها بالمرة ، وهي أنه لدى دخول موقع وزارة السياحة السودانية فإنك لا تجد شيئاً يدلك على أن هناك عمل يجري على الأرض في شأن هذا القطاع . ذلك انه بالرغم من وجود وزارة تمثل الإدارة الوطنية أو السلطة العليا القائمة على أمر هذه الصناعة في البلاد إلا أنه لا توجد على موقعها أية وثيقة تتضمن أية قوانين تنظم السياحة ، سواء من حيث الهياكل الإدارية القائمة على هذا القطاع ، أو من حيث القطاعات أو الأنشطة التي تشكل هذا النشاط الاقتصادي بالغ الحيوية . كما لا تستطيع أن تجد على موقع هذه الوزارة أية وثيقة تتضمن خطة قومية أو استراتيجية وطنية لقطاع السياحة في البلاد ، ناهيك عن أية لوائح أو قوانين فرعية تنظم كافة الشئون ذات الصلة بها أو آليات محددة للتعاون بين وزارة السياحة وجميع الأجهزة والمؤسسات المعنية بالسياحة في البلاد سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص أو الأهلي. ومن واقع خبرتي بهذه الصناعة فإني أجزم أنه لا تستطيع البلاد أن تكتفي بمجرد وجود وزارة تقوم على إدارة شئون السياحة وكفى ، بل لا بد ، بالإضافة إلى ذلك ، من التوفر على هيكل إداري (مؤسسي) واضح المعالم والأهداف ذات مهمة محددة ورؤية واضحة (Mission & Vision) تقام لإدارة هذه الصناعة مما يشكل البيئة المناسبة التي تتم فيها مشاركة الأجهزة العامة للدولة ومؤسسات القطاع الخاص في أنشطة السفر والسياحة ، على أن يكون ذلك كله متناسباً ومتوافقاً مع دستور وقوانين وعادات وتقاليد البلاد وإنعكاساً صادقاً للقيم التي تحكم أسس إدارة الدولة ومواردها التراثية والثقافية . وقد تواترت التجارب العالمية على ضرورة أن يجري تأسيس الهياكل الإدارية للسياحة باعتبارها قطاعاً اقتصادياً منتجاً على غرار النماذج الإدارية المطبقة في الدول التي يعتقد أن ظروفها الاقتصادية والجغرافية والديمغرافية تتشابه مع الدولة المعنية (Benchmarking) من أجل التوصل لاستنباط أفضل الممارسات والتجارب السياحية التي تفي بالغرض المطلوب في هذا الشأن ، ومن ثم تجري عملية جادة ومنهجية لتبيان مزايا وعيوب الهياكل التنظيمية المراد اعتمادها لغرض تخطيط وإدارة السياحة من أجل تحقيق رؤية الدولة المعنية لنوع السياحة التي ترغب في خوض تجربتها ، وذلك من خلال تحديد الهياكل التنظيمية المثلى للسياحة بالنسبة لكل من القطاعين العام والخاص في البلد موضوع الدراسة . وفي النهاية تتم التوصية بإجراء أية تغييرات هيكلية وتنظيمية قد تكون ضرورية على المؤسسات والأجهزة القائمة وتساعد في نجاح تطبيق خطة السياحة المعتمدة لدى الدولة . وفي ظل ما نشاهده الآن من افتقار السودان لهيكل تنظيمي واضح للسياحة ، فمن الواضح أننا لا نستطيع تحقيق تنمية مستدامة للسياحة في بلادنا ما لم يجر تخطيطها ، وإدارتها ، والمحافظة عليها في إطار اقتصادي ، بيئي متوازن ضمن هيكل ثقافي ، اجتماعي مناسب يأخذ في الاعتبار الموارد السياحية المتوفرة (existing tourism products) فعلاً والقيم الأخلاقية التي تحكم المجتمع السوداني . كما يجب أن يكون هذا الهيكل الإداري المذكور قادراً على العمل وفقاً لمبدأ الشراكة في الأداء بين القطاعين العام والخاص المعنيين بهذه الصناعة . وذلك لأن إيجاد الهيكل التنظيمي المناسب للسياحة في أي بلد ليس أمراً سهلاًً وميسوراً ، ويتطلب من كافة الأطراف المعنية بالصناعة العمل سوياً في تكامل وتعاون جاد لإنجاز هذا العمل . ويتطلب الأمر بطبيعة الحال بحث ، ومراجعة الهياكل التنظيمية البديلة للسياحة ، وأنماط التمويل المناسبة للسياحة في عدد من دول العالم بغرض الاستفادة من التجارب القياسية (Best Practices) ، مع تحديد مواطن ضعفها وقوتها بغرض اختيار ما يناسب البلاد منها وإطراح ما لا يناسبها من هذه التجارب . كما يحتاج الأمر لبحث نقاط القوة والضعف، وتحديد الفرص والمحاذير (SWOT) ، والتعرف على القيود والعوائق التي تعترض الهياكل التنظيمية للسياحة القائمة في البلاد (إن وجدت) ، فضلاً عن تلك الموجودة في أماكن أخرى مما قد تكون تجاربها ذات صلة بأية تجارب خاصة بالسودان . وكذلك مراجعة الهياكل التنظيمية القائمة للسياحة في القطاعين العام والخاص في السودان مع تحديد مواطن الضعف التي قد تعيق تلك الهياكل في تنفيذ أهداف السياحة والسفر في البلاد . والعمل على تقديم الخبرة والاستشارات اللازمة حول الموضوعات الملائمة والهياكل التنظيمية المُثلى للقطاعين العام والخاص من أجل ضمان مشاركة جميع المهتمين بتطوير السياحة في السودان . وكذا تقويم المراحل المُثلى لعملية تنفيذ الهيكل التنظيمي للسياحة (إن وجد) لدعم وتعزيز تطبيق الخطة الوطنية للسياحة إن كان ثمة خطة جاهزة . بالإضافة إلى فحص مضامين الموارد ، والموارد المحتملة للتمويل للتنفيذ والصيانة اللاحقة للهياكل التنظيمية اللازمة للسياحة . وكما سبق القول، فإن من بين الأهداف الإستراتيجية لأية خطة سياحية ضرورة التوفر على اثنين من عوامل النجاح الحاسمة وهما: إطار مؤسسي أو تنظيمي مناسب للسياحة . وأطر قانونية وتنظيمية ذات شفافية تحكم تطوير وتشغيل المرافق والخدمات السياحية . ومن هذا يتضح أنه يجب أن يكون للدولة نظام (قانون) عام للسياحة يبين وظائف وسلطات الإدارة الوطنية للسياحة وعلاقتها بالوزارات والأجهزة العامة الأخرى ، والأجهزة الاستشارية والقطاع الخاص . ومؤدى ذلك أن المسئولية القانونية عن السياحة والعلاقة بينها وبين حماية وترقية الثقافة والتراث يجب أن تكون واضحة . ويجب أن يبين التنظيم تعريفات محددة للكيانات والأنشطة ذات العلاقة بالسياحة والتي يجب أن تعكس معايير وتقاليد عالمية . ونظراً لأن السياحة نشاط يخص القطاع الخاص بالدرجة الأساس ، من حيث علاقته بالاستثمارات المطلوبة لأغراض السياحة من أجل توفير البنيات الأساسية اللازمة ، وتقديم الخدمات والمنتجات السياحية ، فإن تحقيق دور القطاع الخاص في هذا الخصوص لا يمكن أن يتم إلا في إطار من الدعم المنظم والكامل من جانب القطاع العام . ومن ثم فإن صناعة السياحة لا يمكن أن تزدهر أو تنمو بقوة ما لم تعمل في إطار من الدعم المؤسسي والتنظيمي الذي توفره السلطة المركزية في الدولة من خلال الهياكل الإدارية اللازمة لذلك . ومن هنا تنبع الحاجة لإيجاد أجهزة قوية لإدارة قطاع السياحة من أجل تحقيق التنمية المستدامة . وتوجد في الواقع من الأمر مجموعة متنوعة من الأساليب التي تستطيع الدول أن تتبعها لاختيار وإنشاء ما تشاء من الهياكل التنظيمية الخاصة بالسياحة ، إلا أن اختيار أي من هذه الهياكل الإدارية مما يناسب كل دولة يعتمد بالدرجة الأساس على طبيعة النظام الإداري والسياسي المطبق في الدولة المعنية من حيث مركزيته المفرطة ، وما يترتب على ذلك من تكاليف عالية ، أو من حيث سماحه بقدر من المشاركة المحلية ودور ما للقطاع الخاص في عمليات التنمية السياحية . فهلا تكرمت مقام وزارة السياحة السودانية بالاضطلاع بدورها المرجو في تخطيط السياحة في البلاد من أجل تنويع مصادر الدخل القومي في البلاد وتقديم الثراث الحضاري للسودان إلى العالم بما يعزز فرص الشعب السوداني للفخر ومباهاة الشعوب الأخرى بما لديه من كنوز أثرية في هذا الزمن الذي عز علينا فيه أن نجد ما نفخر به بين الأمم . وبالذات في هذا الزمن الذي باتت البلاد تعتمد فيه على الموارد النفطية غير المضمونة اقتصادياً بعد أن تم إهمال دور الزراعة والمزارع في الاقتصادي الوطني بشكل مأساوي . أقيوم أكمجو مسلم خبير قوانين السياحة والسفر ومستشار الاستثمار الدوحة - قطر