تابعت إجازة الأستاذ/ نور الدين مدني صاحب عمود (كلام الناس) منذ أن كانت مجرد دعاية وجنيناً في رحم الغيب علي رأي المثل السوداني (كلام الناس دعاية)، أي شائعة، حيث أعلن الأستاذ فور انتهاء عطلة عيد الفطر التقليدية عن نيته المبيتة للدخول في قفص الإجازة الذهبي، لذلك أفرغ في ذلك المقال نصائحه ووصاياه للسودانيين جميعاً، حكومةً وشعباً، حكاماً ومعارضين، وكما أخبرنا عن بداية الدورة الطبيعية لإجازته في مقال أفادنا عبر مقال أيضاً ما يفهم منه أنه بالفعل أنهى إجازته وعاد الي عمله، فأدركنا أنه ( الليلة عاد ) واستأنفنا معه دورة العودة من الإجازة (عادي زي الزبادي) كما نقول، نقرأ له حيناً ونترك ونطنش أو نمر علي عموده مرور الكرام أحياناً. وحتى عندما حدثنا في مقاله الإجازوي، إذا أجزتم لنا التعبير يا مشارقة اللغة ومغاربتها، عندما حدثنا في مقال تدشين عودته من الإجازة تحت عنوان (ارتريا سلام) أو كلام (من النوع دا)، لم نحس بشيء من مذاق إجازته ولم نستمتع بأجوائها الربيعية، لأننا ببساطة لم نكن هناك، ولم يتسنَّ للأستاذ أن يبتدع ويبتكر من الأساليب ما ينقلنا كتابياً عبر مقاله ذاك الي الأجواء الممتعة التي عاشها في إجازته، لذلك اعتبرنا ذلك المقال مجرد رد التحية والمجاملة لمضيفه ومستضيفيه في ارتريا والسلام، لكنه وبقوة الدفع الإبداعي الرباعي التي زودته بها الإجازة وما يتخللها من الاستجمام والخروج من الأجواء الرتيبة للعمل والحياة معاً، جلس علي أريكة الكتابة وأمسك بالقلم يكتب ويقدِّم علي أريحيته نموذجاً حياً للاستمتاع الحقيقي بالإجازة مستنداً علي ذاكرته التي أنعشتها راحة الإجازة، وأول قطرة في هذا الغيث الإجازوي كان مقاله الأخير الممتع (أشواق واقعية) المنشور ورقياً وإسفيرياً، وأنا كاطلاعي اليومي العادي علي نخبة أو كوكبة من فرسان الأعمدة مررت بهذا المقال مروري الراتب، لعلي أقرأ منه السطر والسطرين حتى ألم بمضمونه لماماً علي طريقة (الجواب يكفيك عنوانو)، لكن تلك الأشواق الواقعية وأجواءها الرومانسية وحبكتها الهندية وإعادة تهنيدها المشوِّقة علي يد الأستاذ/ نور الدين، لم تترك لي مفراً من مواصلة المقال حتى مرقتَ منو بيغادي. ومن فرط استمتاعي بذلك المقال، سجلت علي الفور إعجابي به في إيميل فوري علي شكل (إيس إيم إيس) الكتروني بعثت به للأستاذ علي إيميله، وطويت الصفحة وسرت سيري المعتاد في أزقة وأحابيل وحبال الشبكة العنكبوتية، وما هي إلا لحظات حتى تداعت أفكار مقالي هذا ابتداءاً من العنوان وملحقاته وتداعياته، مع أني في البداية كنت أظن أن الإعجاب لن يتجاوز بي عتبة الإعجاب الشخصي والمتعة الذاتية الوقتية التي يمكن أن يحس بها كل قارئ وكل متذوق ويعبر عنها علي الفور في (بضع كلماتٍ سراع) شفاهةً أو كتابة ثم ينصرف ناسياً متناسياً كل تعاتبٍ وتشاك. من هنا نعلم، أن الإجازة والكتابة عنها ليست دوماً وصفاً جغرافياً لمكان قضاء الإجازة مادياً أو بشرياً، كما فعل نور الدين في مقاله الأول، بل قد توحي الإجازة والاستجمام بالكثير، الكثير خارج الإطار التقليدي للكتابة عن الرحلات والإجازات كما برز في مقال الأستاذ الأخير محل تعليقنا وإعجابنا هذا، إذاً المقال الأخير (أشواق واقعية) من منتجات ومخرجات الإجازة وإبداعاتها وإشراقاتها وليس من تقليديات وأبجديات الكتابة عنها ، إنه خطوة متقدمة جداً وإبداع نوعي في أدب الإجازة والرحلات، كذلك يجب أن ندرك ضرورة أن تتاح الإجازة ومعيناتها وما يعين عليها لكل كاتب أو مبدع لكي يسترد وينعش بها قدراته وعافيته الإبداعية ليدخل الجديد والمنعش في كتاباته وأعماله الدورية الراتبة، وذكراً للشيء بالشيء يحضرني هنا أن الأستاذ/ سمير عطا الله الكاتب المخضرم بصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية قد ذكر يوماً أنه سأل سودانياً كان يعمل معهم في صحف الخليج لماذا لا يذهب الي السودان في إجازاته السنوية، أي لماذا يقضي إجازاته حيث هو لا يريم؟ فتعلل السوداني أن ذلك يرهقه من أمره عسراً، حيث إنه وإن تمكن من الوصول الي عاصمة بلاده الخرطوم بالطائرة في ذات اليوم فإنه محتاج لأسبوع كامل ( 6 أيام ) بالتحديد، ليصل الي بلدته وأسبوع آخر للعودة منها، لذلك سوف تتسرب أيام الإجازة المحدودة من بين أصابعه دون أن يتسنى له الاستمتاع بإجازته كما ينبغي، فما كان من عطا الله إلا أن ذكَّره متسائلاً: أليس في هذا العناء في حد ذاته مادةً للكتابة؟؟!!! لذلك أجِّزوا وسافروا ففي الأسفار والإجازات خمس فوائد وأشياء أخرى مفيدة وحتى (حاجات تانية حامياني ) مع الاعتذار للثلاثي المبدع/ ترباس وحاج موسى والبوني وآخرين. وتذكروا أيضاً أن الكثير من الكتاب الأجانب من الرحالة لا يكتبون عن الرحلات فحسب بل يخصصون جزءاً كبيراً من كتاباتهم عن رحلاتهم عن الإعداد لها منذ أن كانت فكرة في الخيال وحلماً من أحلام اليقظة، متخذين قصة الإعداد لها مقدمة موسيقية وسلالم خماسية أو سباعية الدرجات يتوسلونها لاختراق حصون الملل عند القارئ، فإذا بتلك المقدمة (بتاع المرحلة الإعدادية) تأخذ القارئ مغمض العينين من جزر الكناري الي جزر واق الواق في بضع أيامٍ أو شهور تستغرقها قراءة مجلد الرحلة، يظنها القارئ يوماً أو بعض يوم. ودمتم ممتعين ومستمتعين.