الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    عقار يوجه بتوفير خدمات التأمين الصحي في الولايات المتأثرة بالحرب    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    محمد الفكي يتهم إسلاميين بالتخطيط لإشعال الشرق    حسين خوجلي يكتب: مدينة الأُبيض ومن هناك تبدأ الشرعية ومجتمع الكفاية والعدل    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    نصيب (البنات).!    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد بالفيديو.. الناشطة السودانية الشهيرة مدام كوكي تسخر من "القحاتة" وحمدوك: (كنت معاهم وخليتهم.. كانوا سايقننا زي القطيع وبسببهم خربنا وش مع البشير لمن قال أدوني فرصة)    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إغفاءة الملاح القديم .. بقلم: د. محمد عثمان الجعلي
نشر في سودانيل يوم 08 - 10 - 2011


أو:
حين طوى عم خيري شلبي الأشرعة (الجزء الاول)
د. محمد عثمان الجعلي
[email protected]
"طوبى لعقل كان يسعى لان يتكامل مع الوجدان
ولقلب كان يزرع المقابر بأزهار الريحان
ولكف قادر على فض اشتباك الاجفان
طوبى لطوبة مقبرة وورقة نعناع
شاي وحجر معسل وخرقة نمسح بها عرق وجهامة الأيام
طوبى للمفتون بألف ليلة وليلة وأمنا الغولة والجائعين والباحثين عن وسادة للنوم أو حضن للراحة أو قدم ذاب جلده على أديم الوطن"
(محمد محمد مستجاب: "العمدة خيري شلبي": صحيفة القاهرة 13 سبتمبر 2011 العدد 588)
"لا أشعر بالحزن لرحيل خيري شلبي! أشعر بالفقدان"
(محمود الورداني : خيري شلبي حالة كتابية يصعب تجاهلها)
"كان خيرى شلبى أديبا، نسيجا وحده، عالمه مِلْك يمينه، لم يتأثر فيه بأحد ولم يقلد مشروعا غربيا ولم يجر وراء صرعات أدبية تبعده عن القارئ وتنسيه غوايته الأثيرة، غواية الحكى. كان مع كل ذلك وفوق كل ذلك شخصية إنسانية فريدة علمتنا كيف يكون الأديب وفيا لعالمه الذى يكتب عنه وله، وكيف يعزل نفسه عن واغش الحياة الثقافية وكيف يحترم قلمه وفنه منذ أن كان أديبا مكافحا ومغمورا وحتى أصبح ملء السمع والبصر، فلا تكون له شلة نقدية أو قعدة أنصار وموالين، ولا يعرض إبداعه على أحد مستجديا تقديرا أو تقييما، يجلس فى الطربة التى يكتب فيها من زمان، متفردا بكآبته وصبابته وعنائه، مفضلا صحبة أموات المقابر على أموات التجمعات الثقافية، ليكون نموذجا للقدرة البشرية على الإنجاز دون صخب أو طنطنة، وليحقق بمفرده مسيرة روائية حافلة تحتاج إلى رسائل دكتوراه ومؤتمرات أدبية لرصدها وتحليلها واستطعامها".
(بلال فضل :"سلام على عم خيرى":صحيفة التحرير 10 سبتمبر 2011)
«جربت أن أكون لصاً، وحين ساءت ظروفي جداً أصبحت كاتباً».
(محمد مستجاب)
"كأن الحياة هي الكتابة
كأن الكتابة هي الحياة
«جربت أن أكون لصاً، وحين ساءت ظروفي جداً أصبحت كاتباً». جملة كتبها الساخر العظيم محمد مستجاب ذات يوم معطياً، عبرها، لمحة سريعة عن الخلفية الاجتماعية التي جاء منها والظروف الحياتية التي صنعته كاتباً. لكن ما لي أبدأ بعبارة لمستجاب في مقام الحديث عن رحيل خيري شلبي؟! "
(منصورة عز الدين(
خيري شلبي: لعبة الكتابة والحياة
باغتني خبر الرحيل المفاجيء للكاتب والروائي متعدد المواهب خيري شلبي (31 يناير 1938 - 9 سبتمبر 2011).. شغلتني فكرة الكتابة عنه ..راجعت بعض أعماله التي احتفظ بها..ظل يشغلني لعدة ايام .. ثم قرأت بعض ما جادت به أقلام من عرفوه عن قرب أو بعد ... كانت كلها كتابات صادقة عن أنسان وعن مبدع عظيم ..أغلب من طالعت كتاباتهم كتبوا عن دراية ومعرفة وثيقة بالراحل الكبير.. كتابتي عنه مبعثها الرئيس علاقة قاريء بكاتب مبدع وروائي موسوعي ضخم .. دخل الرجل دائرة اهتمامتي دون دليل او مرشد ولكنه استقر في قلب تلك الدائرة تماما فتوثقت علاقتي بأديب متفرد آنستني وأسعدتني أعماله طيلة العقد الأخير ..منذ مطلع الألفية وأنا اجوس مع هذا العبقري الآخاذ في فضاءات إنسانية لا حدود لها.. تدخل عالم عم خيري شلبي فتدخل دائرة الكتابة التي تستهدف التواشج مع القاريء عبر "الأنس"..حقيقة الأمر أنت لا تقرأ لخيري شلبي بل تؤانسه ويؤانسك ...حكاء عظيم عرك الدنيا وعركته ...جالدها وجالدته ..صارعها وصارعته ومن ثم فضا الإشتباك بإتفاق بينهما على ان تهديه الدنيا بيمناها الرزايا والمحن وان تهبه بيسراها قدرة وموهبة إعادة إنتاج دروس ومضامين هذه الرزايا والمحن للبشر في قوالب إبداعية متنوعة وفريدة تذكرة وعبرة و"أنساً" جميلا.
عالم خيري شلبي تصدق عليه مقولة إن الداخل مفقود والخارج مولود..طالعت اول اعماله صدفة ..صدفه محضة ..ومن ثم أمسك الرجل بتلابيب محبتي لسردياته العجائبية ..يغويك بمكر ومكائد أهل الهامش ممن طحنتهم الدنيا وعجمت عيدانهم فصاروا أصلب مكسرا...يغويك بما يسميه هو بتعبير جميل "صنعة لطافة" والتي تشمل لسان حلو رطب وبيان خلاب يكسيك الحرير والخز وانت تخطر في ثياب الدمور فلا تملك إلا ان تصيح "كانه هو" ..يناجيك بحديث من يمنيك المن والسلوى ..تلهث خلفه وانت تتبع بهيج كلامه وبديع بيانه فإذا انت في مغارات السحرة ووسط تعاويذ الكهان.. حين يتأكد أنه "طلسمك" يسرج بك في عوالم النفس الإنسانية في صفائها وزلزلتها ..في حبها وبغضها..في إنسانيتها الشفيفة وفي شهوانيتها البغيضة فأنت "فاطمة تعلبة" حينا و"حسن أبو ضب" تارة ..أنت "صالح هيصة" ..أنت "عم احمد السماك" في مناماته وانت "اسطاسية" ..أنت كل ذلك وبعض ذلك ولا شيء من ذلك...تقرأ لخيري شلبي فتكتسب صداقة إفتراضية للكاتب وكتابته ولواقع حي مدهش باهر في إنسانيته ولؤمه .. في بؤسه وفرحه وفي جديته ومهازله.
رحل صاحب "رحلات الطرشجي الحلوجي" فجأة في صبيحة الجمعة 9 سبتمبر 2011 فأنتبه الناس.. جاء في الأثر :"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" ... عجيب !..صخب الحياة وضجيجها وصراعاتها التي لا تنتهي نوم وسكون الموت صاخب له عج وعجيج ... عجيب!.. .. يقول الطيب صالح عن الحياة في ود حامد " الولادة بي كواريك ..والموت بي كواريك" ...حياة خيري شلبي كانت ذات جلبة وصخب و"كواريك" ...قماشة حياة ملتبسة الخيوط كان الاولى بها جبة درويش في موالد الصالجين وأهل القباب..قماشة حياة أخذت من ألوان البؤس والشقاء والضياع كما إزدانت بخيوط الشهرة والمجد .. وكمقابل موضوعي عادل لحياته الصاخبة كان موته هادئا ساكنا...مات مبدع "منامات عم احمد السماك" وهو ممسك بقلمه يدون مقاله الراتب لإحدي الصحف .. عن رحيله المفاجيء كتب محمد خير في كلمته" ذلك الحنين الغامض إلى الموت" :"استيقظ كعادته فجراً، فرد أوراق الكتابة، أمسك بصدره فجأة، لكنه لم يتمسّك بروحه طويلاً، أفلتها ببساطة. "عم خيري شلبي رحل بلا ألم، بمهارة خبير في الموت".... نهاية حياة عمنا خيري شلبي المحتشدة ببشرها وتاريخها وإنسانيتها وإلتصاقها بالتاريخ والسيرة الشعبية عنت لمن حوله ما استهدفته أبيات سيدي المتنبي الخالدات:
لَيَاليّ بَعْدَ الظّاعِنِينَ شُكُولُ طِوالٌ وَلَيْلُ العاشِقينَ طَويلُ
وَمَا عِشْتُ مِنْ بَعدِ الأحِبّةِ سَلوَةً وَلَكِنّني للنّائِبَاتِ حَمُولُ
وَإنّ رَحِيلاً وَاحِداً حَالَ بَيْنَنَا وَفي المَوْتِ مِنْ بَعدِ الرّحيلِ رَحيلُ
لحياة عم خيري شلبي جوانب تتصل بعجائب وغرائبيات حكاياته التي أبدع في سردها عبر رواياته المتعددة.. أشار العديد ممن كتبوا سيرته إلى نقطة مفصلية في حياته حدثت قبل سنوات طويلة وذلك حين تعطّلت سيارته في طريق "صلاح سالم" السريع... يقول محمد خير:"بالكاد استطاع الانحراف نحو اليمين، توغّل في منطقة المقابر القديمة "قايتباي"، تعطّلت السيارة لكنّه استطاع العثور على ميكانيكي من سكان المقابر... انهمك العامل في التصليح، بينما جلس الروائي على كرسي قديم يستكمل كتابته. تدافعت الكلمات بلا عائق...وجد في جوّ المقابر الساكن شيئاً غامضاً لم يفهمه. منذ تلك الحادثة، أنفق الأعوام الطويلة يكتب في غرفة في المقابر. أصدقاؤه هم الموتى وأصدقاؤهم من عمال ومهمّشين وهائمين على وجوههم. هناك كتب أعماله الكبرى، ورسّخ نفسه كأحد أهم أعمدة السرد في جيل الستينيات. بعد سنوات أخرى، حاول تفسير الحنين الغامض إلى الموت بأنّه الحنين إلى "فوة" المدينة الأثرية التي تحوي 365 مسجداً وقبة أثرية بعدد أيام السنة منذ العصر المملوكي. هناك، قضى طفولته حيث ولد في محافظة "كفر الشيخ"، وحفر التاريخ وآثار الموتى مكاناً عميقاً في قلبه"....ساعة مباركة تلك التي تعطلت فيها السيارة ...وساعة مباركة تلك التي جعلت الحرفي يأخذ وقتا في معالجة عطب السيارة وبالقدر الذي اتاح لخيري شلبي أن يمعن النظر في المكان وأن يستلهم معنى أن يبقي في تلك المنطقة ليكتب ويمتع ويبدع وينجز ...عين تلك المنطقة تحديدا حيث الميكانيكي والمقابر بقي العبقري يفيض علينا بفتوحات من الحكي الذي لا يمل ومن السامر الذي لا ينفض.
كما ينوه معاصروه فإن المكونات الأساسية لإبداعه تجذرت في معاناته مع الحياة ومعايشته لمجتمع الهامشيين والضائعين ... حياة ومجتمع طريدي المدن صاغه عم خيري شلبي في أعماله كلها تقريبا وبخاصة في عمله الكبير "وكالة عطية" الرواية التي اتفق أغلب النقاد إنها الأشد تعبيراً عن عالمه الروائي .. يشير الكاتب والناقد محمد خيرإلى الحدوتة المركزية في الرواية قائلاً:"حين يعتدي الطالب المتفوق في معهد المعلمين على أستاذه، فيطرد من المعهد، ويسقط فجأة من سقف مستقبله الزاهر إلى قاع المدينة بين الصعاليك والمهمشين والمجرمين الذين تجمعهم «وكالة عطية»... المكان هنا هو البطل. مع ذلك، فكل شخصية تستحق البطولة" .. في ذات الإتجاه جاءت شهادة الروائي الكبير يوسف القعيد الذي يقول "إن الرجل كان عصامياً، عرق وتعب وعلّم نفسه بنفسه، وحاول الاهتداء لصوته الخاص ولجملته في الكتابة. فتح عينيه على المهمشين الذين أصبحوا عالمه. روايته "موال البيات والنوم" ركيزة أساسية في أعماله، يحكي فيها عن البطل الذي يبحث كل يوم عن مكان ينام فيه، وفي هذا جزء من سيرة خيري على ما أظن. كان شديد الإعجاب بالصعاليك، بالحجاوي، وعبد الحميد الديب. وكان كثيراً ما يحاول التصعلك مثلهم، لكن ظروفه الصحية منعته من ذلك في السنوات الأخيرة. كتابة شلبي تمثل تجربة مهمة في السرد والكتابة الأدبية المصرية".
ولا شك أن تجربته العميقة في الحياة وتعامله المباشر مع أصناف وألوان مختلفة من البشر ورصده العميق المتأمل لتحولات المجمتع المصري كانت ركائز عمله الضخم الكبير "ثلاثية الأمالي" ...هذا العمل الإبداعي الكبير، في تقديري، هو قلادة ودرة التاج في منجزه الإبداعي.. وإذا كانت ثلاثية نجيب محفوظ قد قاربت سلوكيات الطبقة القاهرية الوسطى في فترة ما بين الحربين فإن ثلاثية الأمالي (أولنا ولد ، ثانينا الكومي، وثالثنا الورق) هي إلياذة التوثيق للتحولات الإجتماعية غير المسبوقة التي أعقبت الإنفتاح الساداتي الأهوج (إنفتاح "سداح مداح" كما في تعبير أحمد بهاء الدين) وبلغت ذروتها في عهد الرئيس المخلوع مبارك...إن ما شهدته مصر ما بعد عبد الناصر من إنقلاب وإنفلات في قيم وأخلاقيات وسلوك الحكم وما استتبع ذلك من تواطؤ للسلطة المنهوبة بقيمها المنحرفة تلك مع الفساد القائم على التدليس وإنتهاب المال العام قد أدي إلى زواج شرير انجب كل ما ورثته مصر (بل وكل بلاد العالم الثالث المنعدمة الديموقراطية) من ما حدثنا عنه عم خيري شلبي في الثلاثية...حسن أبو ضب، بطل هذه الثلاثية، ابن شرعي تماما ل"شجرة نسب الغول" كما يعبر المفكر السوداني الكبير عبد الله بولا.
إبداع عم خيري شلبي هو نتاج حياته المتقلبة الغربية ... شهدت أسرته إنقلاب حالها من أسرة عريقة ذات صلة بالمناصب الرفيعة والألقاب إلى حالة متدنية عنوانها الفقر والإملاق .. الرجل الذي كان والده رجلاً سياسياً ناشطاً في حزب الوفد وخطيباً مفوهاً أضطر ان يزاوج بين العمل والدراسة ليعيل نفسه أثناء الإجازة الصيفية ..ابن العز والحسب أضطرته تبدلات الحياة أن يعمل في أراضي الإصلاح الزراعي ومع عمال التراحيل..عمل بائعاَ للخردوات والأدوات المنزلية ومندوباً لشركة وقهوجياً في مقاهٍ عديدة.
يقول الكاتب والمؤرخ الأدبي شعبان يوسف عن حياته :"خيري شلبي من قبيلة الكتاب العصاميين الذي تكبدوا مشقات كبيرة في سبيل تطوير أنفسهم، مثل إبراهيم أصلان وحنا مينة ومحمد صدقي ومحمد شكري وغيرهم حيث إنه عانى كثيرا في مقتبل عمره لكي ينشر أعماله الابداعية ولم يكن له مكان يقيم فيه".... وأشار شعبان إلى رسالة كان قد كتبها خيري شلبي يعرض فيها حاله و"تحدث فيها عن تنقلاته العديدة من مكان الى مكان، انه بنى نفسه بكل جدية، واتخذ من المقابر مكانا لسكناه زمنا طويلا، حيث كتب هناك معظم إبداعاته، وأبدع أجمل شخصياته وسط هذا العالم الموحش".. من بين أهل المقابر خرجت على الناس شخصياته الأسطورية "حسن ابو ضب" في ثلاثيته المعروفة..و"فاطمة تعلبة" شخصية الجدة في روايته الوتد".
خلفية النشأة وطبيعة الحياة التي عاشها كانت من العوامل الفاعلة وراء ما انتجه خيري شلبي وهذا ما اكدت عليه شهادة صديقه وصفيه إبراهيم أصلان في كلمته "حضور هائل" إذ يقول: "نحن عادة نقف أمام الأعمال ولا نتوقف أمام طبيعة الإنسان الواقف وراءها. كان خيري مستودعاً ضخماً لذكريات وعلاقات وحكايات في مساحات ومناطق لا نعرفها جيداً مثل المغنى والألحان والشعر الشعبي وعوالم الصعاليك. والمبهر تمتعه بذاكرة نادرة لم يؤثر عليها الزمن إلا قليلاً. كان يحفظ دواوين شعرية كاملة لفؤاد حداد وآخرين..رحيل هذا النوع النادر من البشر يعطي إحساساً بأن الواقع الذي نعيش فيه ازداد فقراً، لأنهم أخذوا معهم ثروة كبيرة...لن أتكلّم عن خيري شلبي إلاّ باعتباره موجوداً، وسيظل موجوداً".
وإذا كان إبراهيم أصلان يرى أن إنتاج خيري شلبي الإبداعي هو ابن طبيعة الرجل وخلفيته بكل زخمها وتنوعها فإن المبدعة منصورة عز الدين قد ألمحت في كلمة دالة لها إلى أن إضافته الحقيقية تتمثل في إزاحته لكل الحواجز بين الكتابة والحياة... ولعل أبرز أدواته على هذا الصعيد كانت قدرته الفذة في تقديم الواقع دون تزييف ودون الحاجة لجراحات تجميلية للغة التواصل بين حقائق الحياة والتعبير عنها في نصوص إبداعية.. استغني صاحب "الوتد" عن ادوات الزينة والتجميل اللغوية واستنكف عن اللجوء لما هو مبذول من "فلاتر" مصطنعة فقدم للناس حياتهم دون تزييف ...ولعل تلك هي توربينات الجذب العالية بينه وقرائه..تقول منصورة :""خيري شلبي كتب الواقع بكل تناقضاته وفجاجته دونما فلترة وألقي به في وجه القارئ ....حين تقرأ أعماله تشعر أنك في حضرة حكواتي شعبي، وريث أسلاف من الحكائين ومنشدي الحكايات الخيالية في أرياف مصر وحواريها. قد تشعر كقارئ متطلب أنك تنحاز لمفهوم آخر للكتابة الإبداعية، قد لا تحصر دورها، مثلاً، في تمثل الواقع ومحاكاته، أو قد تفضّل الخيال الجامح وتراه شرطاً لا غنى عنه، لكنك رغم كل هذا لن تنجو من فتنة الواقع الحي غير المجمّل ولا المنّقى في أعمال خيري شلبي....فالكتابة عند الروائي الغزير الإنتاج، الموسوعي الثقافة، الملم بخفايا التاريخ الاجتماعي، الفني، والثقافي لمصر، شاهد على عالم يجري، وامتيازها نابع من قيامها بمهمة كشف هذا الواقع والشهادة عليه. قد تكون هذه النظرة للكتابة مشتركة بين معظم كتّاب جيل الستينيات، لكنها في حالة شلبي أكثر بروزاً ووضوحاً، لأنه، عبر أعماله، أزاح كل الحواجز بين الكتابة والحياة".
إن كتابة محمد خير ومحمد محمد مستجاب ويوسف القعيد وشعبان يوسف وبلال فضل ومنصورة عزالدين وإبراهيم أصلان عن الراحل خيري شلبي توميء جلها في إلى ثلاثة مسائل كانت ، في تقديرهم وتقدير غيرهم أيضاً، مكامن إبداعه المتدفق الذي تجاوز السبعين عملا في مختلف مجالات الإبداع الادبي..أولى هذه المسائل تتصل بموسوعية معارفه وإضافاته ...فقد عرف عنه الإلمام الشمولي بالسيرة الشعبية والألحان والغناء والمسرح.. المسالة الثانية تتعلق بموهبة وقدرات السرد الرائع الذكي والتي بلا شك استندت على ذاكرة حديدية نادرة ..اما المسألة الثالثة فترتبط بقدرات استخدام لغة متفردة قادرة على تحويل الحكي الشفاهي إلى حكي مكتوب في سبك روائي وقصصي مدهش بمهارة وبراعة شديدتين.
في الجزء التالي نتناول موسوعية خيري شلبي في إطلالة خاطفة على شلال إبداعه المتدفق قبل أن نقف على سحر الحكي عنده وعند ماركيز بل وعند حليم شنان وحاج الصديق "وزن عشرة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.