انتهى الملتقى الثاني للاعلاميين السودانيين العاملين بالخارج، بعد أن مثل فرصة طيبة ونادرة لتلاقح الآراء والأفكار بين أبناء المهنة بالخارج مع رصفائهم بالداخل. الملتقى كان حافلاً بقضايا جديرة بالتعقيب بدءاً من الاعداد ومستوى المشاركة والبرمجة وصولاً للتوصيات وجوهر فكرة الانعقاد، جميعها قضايا نالت ولا تزال حظاً وافراً من التغطية. غير أن قضية واحدة كانت مثار جدل دفعتني لأن أدلو بدلوي لما صاحبها من زخم اعلامي، وهي أمر مشاركة الزميلة الاعلامية "اللامعة" الأخت زينب بدوي وما اثارته من تجاذبات، لا سيما أمر انسحابها من الجلسة الافتتاحية وهي رئيس للمؤتمر، والذي اثار امتعاض عدد من المشاركين وبعض كتاب الصحف السودانية الذين عللوا انتقاداتهم لوجود نائب الرئيس الاستاذ علي عثمان محمد طه وقت انسحابها. ما كنت أرغب الخوض في الأمر لولا درايتي بالدواعي التي دفعت الأخت زينب للإقدام على مغادرة المنصة الرئيسة بالقاعة حيث عقدت الجلسة الافتتاحية للملتقى. رغم تحفظاتي على الكلمة الافتتاحية التي ألقتها زينب بدوي في الملتقى والتي غلب عليها ماهو خاص، الا أن بعض الكتابات حول هذه القضية ينم عن عدم دراية وتهكم بلغ مراقٍ ما كان يجب أن تكون. زينب بدوي للذين لا يعلمون مدعاة للفخر والاعزاز للسودانيين لما لها من شعبية عالمية، فهي سجلت حضوراً أنيقاً عبر أعرق مؤسسات الاعلام العالمية (BBC) في سابقة لم يشهد لها الاعلام البريطاني والعالمي الناطق بالإنجليزية مثيلاً بعد ظاهرة السير تريفر ماكدونالد Sir Trevor McDonald صاحب البشرة السمراء القادم من جمهورية ترينداد في البحر الكاريبي. وهي صاحبة أكثر برامج المؤسسة انتشاراً وقبولاً "حوار ساخن Hard Talk" الذي قدرت نسبة مشاهديه في آخر استطلاع بما يفوق التسعين مليون نسمة في العالم. كتابنا لو أنهم يعلمون فتلك كارثة، تستوجب منهم أن يقيموا لزينب تكريماً يليق وما حققته من مكانة عالمية، ليجعلوا من ذيع صيتها ترياقاً ينهل منه الناس حولنا اشراقات وطننا وشعبه التي غطاها رماد الصراعات في دارفور، وحجب عن ناظرينا بريق عاداتنا الجميلة وموروثاتنا الأصيلة وقيمنا النبيلة. اذا كان الغرب واعلامه اختار لتشويه صورتنا نجوم (الموضة) وسينما هوليوود أمثال جورج كلوني George Clooney والأمريكية ميا فارو Mia Farrow، وسيل لم ينقطع من سفراء النوايا الحسنة. فلماذا لا نختار نحن لاعب السلة العالمي بول مانوت وعارضات الازياء السودانيات أكول دينق وأليك ويك والفنان العالمي امانويل والاعلامية المخضرمة زينب بدوي لنستثمر كل هذه العطايا في تدشين مشروعات العودة الطوعية بدارفور مثلا.. لنخاطب الغرب باللغة التي يفهم بدلا عن توجيه التهم لمن لبوا واجب المشاركة نصرة للوطن. إن ما حدث مع زينب بدوي يعكس الحالة التي تعيشها مؤسساتنا الاعلامية، وتلك هي الغاية التي أقامت من أجلها الدولة ملتقى الاعلاميين الأول واردفته بالثاني الذي أعطانا فرصة سانحة للتعرف على قدر بني جلدتنا لنُثني على مجهوداتهم، بدلاً من أن نستعديهم ونشعرهم بالغربة والاحباط في وطنهم. ان أمر انسحابها من الجلسة الافتتاحية مرده لمن لا يعلمون ارتباطها بحوار تلفزيوني لقناة (BBC) مع الرئيس عمر البشير، ما كان لها أن تعلن عنه، ايقاناً بأبجديات المهنة التي تحتم عدم البوح بأمر اللقاء قبل وقوعه لما له من أهمية، لا سيما وأنه الأول مع قناة غربية منذ صدور مذكرة التوقيف في حق الرئيس. كنت من المتابعين عن كثب لمجهوداتها في إجراء حوار الرئيس منذ مطلع مارس 2009، وروت لي في لندن كيف أنها تعاني في سبيل الوصول للرئيس، كان الأمر عندها نتاج تراكمات لقصور مؤسسي وفكر نمطي سوداني حول كيفية التعاطي مع وسائل الاعلام الغربية والصحفيين الغربيين والعالميين من أمثال جون سيمسون John Simpson الذي قضى أكثر من ثلاثة أسابيع بالخرطوم في محاولة يائسة سعى من خلالها اقناع القائمين على أمر ترتيب لقاءات الرئيس لإجراء الحوار لمؤسسته (BBC). لقد كنت من بين ضيوف برامجها أخبار العالم اليومWorld News Today من داخل ستديوهات (BBC) يوم صدور مذكرة التوقيف من المحكمة الجنائية الدولية في 4 مارس 2009 وكان مشاركاً في ذاك الحوار المدعي العام الأسبق لمحكمة الأممالمتحدة الخاصة بجرائم الحرب في سيراليون ديفيد كرين David Crane من واشنطن، وذلك للحديث عن استهداف المحكمة للقادة الأفارقة دون سواهم، فأخذت ألقنها نطق لقبي (الاعيسر) طيلة الدقائق التي سبقت اللقاء فهي لا تدعي عدم معرفتها للعربية كما زعم البعض. واتاحت لي تلك المشاركة التعرف على ما تتمتع به من احترام كبير في مؤسسة (BBC)، حيث يعمل معها جيش من المعدين. *** استاذنا الأديب الراحل الطيب صالح طيب الله ثراه، قال في أحد مقالاته (أنظر اليهم يكرمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شردوهم في الآفاق، من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتبقي العربات وتميت الأرض وتحيي الآفات). ثمة أمل أن يكرم أمثال هؤلاء لأجل الوطن وبالله التوفيق.