ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    عضو مجلس إدارة نادي المريخ السابق محمد الحافظ :هذا الوقت المناسب للتعاقد مع المدرب الأجنبي    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا شريكي الحكم....(2) ... بقلم: محمد عبد المجيد أمين
نشر في سودانيل يوم 29 - 05 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم
كان من المقرر أن أتناول في هذا المقال راي بعض السياسيين البارزين من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان في ولاية النيل الأزرق ، فيما يتعلق بموضوع اتفاقية السلام الشامل ، ما لها وما عليها ، ولأنني مواطن عادي " مستقل " لا أنتمي لأي حزب سياسي ، فقد وجدت من خلال التعامل المباشر مع بعض الإخوة ، الذين ينتمون الي هذين الحزبين ، بعض الغرابة لكوني مستقل التوجه في بلد يعج بالأحزاب ، وفوق كل ذلك يمكن أن تدور حولك الشبهات :ان تكون "مدسوسا " من قبل حزب منافس ...مثلا ، وهكذا، لم تبني الثقة بعد حتى مع المواطن العادي ، فما بالك بالشعب !.
هل من الضروري لكي تستحلي الأمور وتحاول أن تتعرف علي مشاكل وطنك وأن تساعد علي حلها ، ولو بهذ الجهد المتواضع، أن تكون منتميا الي حزب سياسي؟. وأين هذا الحزب الذي يسعي لحل المشاكل بدلا من اختلاقها ؟ أليس من حق المواطن العادي أن يدلي برأيه ، تماما.. عندما سيطلب منه لاحقا أن يدلي بصوته ؟ ثم .. ألا يعلم هؤلاء أن " ناكر ونكير" لن يسألانا ، عندما يأتي وقت السؤال في القبر، الي أي حزب سياسي ننتمي؟ لا يهم ....نسأل الله فقط الثبات في الأمر.
في مسعي لمعرفة رأي شريكي الحكم فيما آلت اليه اتفاقية السلام الشامل بدأت باخواننا من قيادات الحركة الشعبية الذين أبدوا بعض التعاون بكل أدب ، ولكنه في نفس الوقت تعاونا متحفظا الي أبعد الحدود ، لدرجة أن أحدهم قد تهرب من مقابلتي ، ربما لعلمه أنه لا يجرؤ علي الادلاء برأي دون الرجوع الي رئيسه المباشر. نفس الموقف تكرر مع الشريك الآخر " المؤتمر الوطني " ولكنه كان اكثر "صفاقة" فقد وقعت في يد الشخص "الخطا " وهو قيادي عمالي في "التنظيم " ، سألني أولا الي حزب أنتمي ، فأجبته بأنني لا أنتمي لأي حزب ، فما كان منه الا أن كال لي التهم أهمها ،أنني كنت " شيوعي" سابق .. وانتهت المقابلة مع الأخ المذكور بأنه ليس له رأي في هكذا موضوعات وأن الرأي الأول والأخير عند رئيس التنظيم . خرجت بنتيجة ، كنت أعرفها سلفا ،مؤداها أن المنتسبين الي هذبن التنظيمين ، حتي وان كانوا في مواقع "قيادية" في تنظيميهما ، لا يملكون أي رؤية شخصية واضحة تعبر عن رأي تنظيمهما في موضوعات ملحة كاتفاقية السلام الشامل ولا يمتلكون اي آليات أو برامج مشتركة تمكنهم من تنفيذ بنود الاتفاقية ، بل أن بعض من هؤلاء القادة لا يعلمون أن هذه الاتفاقية افترض أن تكون من أولويات العمل السياسي للشريكين منذ تاريخ توقيعها ، بل أن منهم من جهر صراحة بأنه لم يقرأ الاتفاقية أصلا ولا يعلم عن محتوها بقدر ما يعرفه رجل الشارع العادي . لذلك ، لن يستطيع أي من هؤلاء المسمون بقادة القواعد الحزبية الادلاء برأي أو تعليق في مسالة ما دون الرجوع الي قيادتهم ، وأن قوة القيادة العليا تسلبهم دائما حق التعبير عن الرأي " الشخصي" باسم " التنظيم " وأن الشجاعة وحرية الرأي والتعبير، وربما المعلومة الصحيحة نفسها عناصر مفقودة حتى عند " اتباع" حكومة الشراكة ، ناهيك عن أنهما ينفذان اتفاقية مشتركة ، متوجبة التنفيذ. أليست هذه "دكتاتورية " مزدوجة في الحكم..!؟.
حقيقة أخري خرجت يها ، وهي أن لكل من الشريكين برنامجان ، أحدهما سياسي وهو الذي يلعبان به مع بعضهما البعض، وكلاهما ينضح بالأكاذيب وهو ما نقرأه ونراه عبر وسائل الإعلام ، والآخر "تنظيمي" وهو برنامج سري لا يعرفه إلا رئيس التنظيم وقلة قليلة ممن حوله ، وإفرازاته تتوزع علي القواعد الصغرى للتنفيذ ، ولنا أن نتخيل وهذا الحال مدي البراعة المطلوبة لهؤلاء اللاعبين لتقمص الدور المناسب في الوقت المناسب .
مع احترامنا التام للخصوصيات الحزبية ، أليس الأحرى بالشريكين ، أن يجلسا سويا ، في هذه المرحلة بالذات ، ويضعا التقاط فوق الحروف ، ليخرجا برؤية واحدة مشتركة فيها تأصل كل الثوابت ، هذا إذا كان لديهما ثوابت مشتركة حقيقية، ثم يعلنان ذلك غلي الشعب السوداني ويشرعان في العمل الجاد لحل كل المسائل العالقة في الاتفاقية ، ثم يعملان سويا لحل مشكلة دارفور بروح وطنية مسئولة ،وكفانا تدويل للقضايا الداخلية!!.
هناك مشكلة كبري واضحة وجلية في العمل السياسي الذي يمارس في السودان خاصة لدي الأحزاب وهو أن هذا البلد بالنسبة لهؤلاء هو الحزب، وليس ذلك الوطن العريض الذي نعرفه ،وكانهم ينظرون الي " الفيل" من زوايا مختلفة ، ويتكتم كل منهم ولا يخبر الآخرين عن الجزء الذي يراه وبذلك لن يصرحوا بأن الفيل فيلا ما لم يدلي كل منهم بما يراه ، في الوقت الذي يهز الفيل بذيله متحسرا علي هذا الزمن الضائع الذي استنفذه هؤلاء للإقرار بحقيقة أنه فعلا "فيل " ويستحق الرعاية والاهتمام وأن علي شريكي الحكم أن يدركا ذلك جيدا ويقرا به ، وأنه .. أي الفيل ، لكي يكون فيلا مكتملا لابد للجميع أن ينظر إليه بشكل جماعي "كلو علي بعضو" . وهذا يجرنا إلي مفهوم شكل الدولة لدي النخب التي تعاقبت علي الحكم في السودان ، فقد كانت مصابة بقصر نظر حاد ، لم تستطع أن تحدد حجم الفيل الحقيقي، تماما كما لم تستطع تطبيق نهج حكم يستوعب حجم ومشاكل هذه البلاد.. وبسبب هذا التهور والتعنت والغطرسة ، ربما سيصبح "فيلنا" عما قريب بغير مؤخرة .
أقلعت عن محاولة مقابلة رئيس الحركة ورئيس المؤتمر الوطني بالولاية بغرض سماع الغناء " من خشم سيدو" وذلك لسبب بسيط هو أن كل منهما سيصدح بالجزئية التي يراها فقط من الفيل.. ويستمر الخلاف في الرأي وفي التوجه.
لم يبقي أمامي الا الجزء الأخير من العمل الذي يتوجب علي انجازه لصياغة هذا المقال وهو استطلاع رأي بعض من عامة الناس عن ما يعرفونه عن اتفاقية السلام الشامل والانجازات التي حققاها شريكي الحكم ، وانعكست بشكل ملموس علي حياتهم اليومية ..ولكني ، أقلعت أيضا عن هذه المحاولة لعلمي التام بأن الناس .. عموم الناس ، مشغلون بالمعايش أكثر من أي شيء آخر ، ولا وقت لديهم للتعبيرعن رأي كهذا سلبا كان أم ايجابا ، ربما لعلمهم أن الشريكان لن يلتفتا لرأيهم وأن كل منهم ماض في تنفيذ ما في رأسه .
كان حري بنا في موقف كهذا وبدلا من أن نختزل أو "نخمن" رأي الناس هكذا أن يكون لديا مراكز مهنية محايدة متخصصة في استطلاعات الرأي يستعان ببياناتها في سد الثغرات في مقال كهذا ، ولكن مثل هذه المراكز لا توجد إلا في الدول المستقرة سياسيا وبها مساحة من الحرية ، وليس كدول مثلنا " تعبانة" و "سجمانة" . علي الأقل اذا وجدت مثل هذه المراكز كنا سنعرف إلي وجهة تتجه اتفاقية السلام ،وموقف الساسة الكبار منها ، والنسبة المنجزة ، ومدي استجابة الشعب وتقبله لها. أن مراكز استطلاع الرأي أداة هامة ينبغي تبنيها لأنها تعكس رأي الشارع في القضايا الجوهرية وهي شكل من أشكال المشاركة الجماهيرية في الأحداث .
لعل ولاية النيل الأزرق من أبرز الولايات التي تنعم بالأمن والاستقرار، منذ توقيع الاتفاقية وحتى الآن ، علي الرغم من أن لها وضعية خاصة في الاتفاقية ،كونها من المناطق التي تأثرت بالحرب ( اتفاقية السلام الشامل- جنوب النيل الأزرق ص 53) ، ويعزو ذلك إلي أن الساسة في هذه الولاية من منطقة واحدة تقريبا(الصعيد) وهو السبب الذي جعلهم يتفقون علي بعض الأهداف المشتركة ،خاصة في وجوب الارتقاء بإنسان الولاية ودفع عجلة التنمية في كل المجالات. ويمكن أن تري تلك الأهداف وقد تحققت بالفعل من خلال توسيع ورصف الطرق وإنارتها وإنشاء الكثير من مشروعات البني التحتية في كل إنحاء الولاية ، وهذا دليل واضح علي أن التناغم والتجانس في المحيط الجغرافي الواحد قد جسد رغبة شريكي الحكم في إرساء دعائم السلام ونبذ الحرب ويمكن انجاز المزيد في مجالات التنمية المختلفة ، ولكن المعوق الوحيد الواضح هو تلكؤ المركز في تطبيق باقي بنود الاتفاقية، أو عدم تطبيقها علي النحو المتفق عليه ، وتأخر الموارد المالية للولاية.
لابد من الإشارة هنا إلي أن هناك بندا في اتفاقية السلام الشامل ينص علي اجراء جوهري لم يأخذه الطرفان بعين الاعتبار وهو تشكيل لجنة برلمانية مكونة من أعضاء الطرفين بالمجلس التشريعي الولائي تكون مهمتها تقويم وقياس تنفيذ الاتفاقية (اتفاقية السلام الشامل- 3-3 صفحة 80) . باتري..! أين هذه اللجنة ؟... وهل هي قائمة بالفعل! ..أم أن زحمة وتوالي الأحداث قد ألهت حكومة الشراكة عن تنفيذ هذا الإجراء الهام؟ . أنها ولا شك أداة معيارية جيدة، لو أخذ بها منذ بداية تطبيق الاتفاقية لتم تلافي الكثير من الأخطاء، تماما كأهمية مراكز استطلاع الرأي.
من اللافت للنظر اهتمام الحركة الشعبية وحرصها علي تطبيق الاتفاقية ، حيث زار الأستاذ بقان أموم مؤخرا ولاية النيل الأزرق وعقد سلسلة من اللقاءات مع قيادات حركته وبعض التجمعات الجماهيرية ، نوقش فيها وقيمت السنوات الأربعة الماضية من عمر الاتفاقية وذكرت الإنباء أنهم قد وضعوا الخطط والبرامج لخوض الانتخابات المقبلة ، ومن هذه الزيارة يمكن أن نكتشف أن أحد الطرفين يظهر أنه مهتم ، بل وحريص علي تطبيق الاتفاقية ، بينما الطرف الآخر يركز كل جهده فقط في التحضير للانتخابات .
في السبعينات ، كنا مجموعة من الشباب المتحمس ، نقارع السلطة الدكتاتوية آنذاك من خلال المسرح القومي ،المسرح الجامعي ، والمنابر الأخري بأنحاء السودان ، نعبر عن الرأي الجمعي ، تطلعاته ، آماله ، وأحلامه من خلال الرؤية الفنية مسرحا كان ، ام شعرا ، أم غناء ، أم كتابة ، ام فنا تشكيليا ، أم كاريكاتيرا إذ كانت هذه هي وسائل التعبير السلمية المتاحة والمساعدة علي بلورة الرأي في ذلك الوقت، ولم يتعدي سقف مطالبنا آنذاك سوي الرفض التام للحكم الدكتاتوري الشمولي والمطالبة بحرية الرأي والتعبير وبعض الديموقراطية ، ولم يجد النظام القائم انذاك غضاضة في السماح لهذا " التنفيس" والقبول بالرأي الآخر لبعض الوقت، بل كان يستجيب أحيانا لحالات الاحتقان بالاذعان للرأي الجمعي ، ولما اشتط النظام في غيه اختصرت المطالب إلي التخلص من نظام الحكم حتى تحول الرأي الجمعي فيما بعد الي "انتفاضة" شعبية ، أحدثت نقلة نوعية في تاريخ السياسة السودانية ، وأثبتت أن الشعب يمكن يأخذ بزمام المبادرة ويحل مشاكله بنفسه مع السلطة. حتى الجيش، أدرك بحسه الوطني أن السيادة للشعب وليس للرئيس وزمرته، فانحاز فورا إلي الشعب وحقق إرادته .
لم تكن السياسة في ذلك الوقت " مهنة " يرتزق " منها الانتهازيون والافاقون ، كما هو حاصل الآن ، وانما كانت واجبا مهنيا قبل كل شيء ، لا دخل فيه للعصبية والجهوية الحمقاء ، ولم يكن هناك خلط في المسائل الجوهرية والقضايا القومية المصيرية بعكس الصورة التي نراها الآن ، بل ولا تفريط في السيادة كما هو الافراط الآن.
ولكن ! اذا احترمنا متطلبات " العصر " وعوامل التغيير الحتمية فاننا سنفقد بهذه الطريفة السيادة تدرجيا وينفرط عقد السودان خاصة اذا تركنا الأمور تسير علي هوي الساسة ، والسبب أن مفهوم السيادة كما يفهمه هؤلاء ويطبقونه الآن هو سيادة الحزب ممثلا في " قادته" علي الأمة ، وليس سيادة الأمة علي نفسها ، في أطرها الحدودية التي تشمل روابطها الاجتماعبة والثقافية والاقتصادية والدينية وارثها التاريخي والتي تصنع كلها شفرة مميزة لا تتغير خليتها الأساس بتغير الأجيال . نعم ، الشعوب والقبائل ليست نبتا عشوائيا ، نشأ هكذا علي غير اتساق ، وانما هي شفرة أودعها الله تعالي في خلقه ، نتقل من جيل الي آخر ، اساس التميز بينها مهما تغيرت في الظاهر هو " التقوى" وليس هذا الخلط الذي نراه .
وفق هذا المعيار الإلهي يمكن للقبائل أن تتنافس هنا فقط ، وينعكس سلوكها المتصف بهذه الصفة الحميدة علي المجتمع ، دون تميز متعمد أو مستلب ، وتكون مثالا يحتذي للقبائل الأخرى كي تحذو حذوها وتتنافس بدورها للوصول إلي هذا المستوي سعيا وراء الارتقاء بالخلق القويم الذي هو أساس المجتمع . حري بمجتمع صحيح ، معافى كهذا أن ينجب حكاما فضلاء في بلد فاضل. هذه لبست " يوتوبيا " ، أنه منهج لدني مفصل ، مذكور في الكتاب ، وجاهز للتنفيذ ،ولكنه ترك "مهجورا" .
المشكلة في الحالة السودانية أن الثوابت باتت بغير ذي تحديد ، بل متغيرة حسب المواقف السياسية والإرادة الأجنبية أحيانا، وأصبح النظام يعمل فوق أرضية هشة يمكن أن تميد به وبنا في أي لحظة. فإذا اتفقنا علي أن الثوابت التي لا يمكن تجاوزها أو العبث بها هي : الدين، الوطن ، الشعب ، فان باقي المتغيرات بما فيها شكل الحكم سيكون رهنا لهذه الثوابت ويمكن السيطرة عليها . ويجب التأكيد علي أن هذه الثوابت لا تحتاج الي وصاية من أحد لأنها في الأساس ، منة من الله تعالي علي العباد ، المطلوب صيانتها ورعايتها بواسطة الدستور والقانون .
في حالتنا الراهنة لا توجد ثوابت ، فالدين يتاجر به علي حساب المصالح الآنية ، والوطن نتهك حرماته ويغتصب ويقتطع علي مرآي ومسمع من الحكام ، والشعب يصنف ويميز عرقيا وقبليا ، وجهويا ، فماذا بقي إذن كي يزاد عنه.
أولئك الساسة الذين لا يتدثرون بلباس التقوي، وهم كثر في تاريخ هذه الأمة ، مجرد فتنة ، يتخذون من الدين وسيلة يغررون بها الضعفاء والرعاع من الناس فينصاع هؤلاء وراءهم كالقطيع الأعمي وعندما يحين اجلهم ويقبرون ثم وقت الحساب يقولون:" ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا"67 الأحزاب.
واقع الحال المرير يجرنا الي التعرض إلي مثل هذه المنعطفات المصيرية ،اذ لا مفر من الهرب منها او غض الطرف عنها ، فهي حاصلة أمامنا ، فإما أن نواجهها ونعمل علي إصلاح الخلل ، اقله... أن نفعل ما نقول ، أو نسلم الأمر لمن يقول ويفعل.
يري المؤتمر الوطني (الإنقاذ سابقا) وكذلك من شايعهم من باقي الأحزاب التقليدية أن الدين من الثوابت وأن حياة المجتمع لا بد وأن تؤسس علي هذا النهج لأننا لهذا خلقنا ، وهذه حقيقة لا ينكرها أي غافل متزن ، ولكن.. في الحالة التي نراها وتعايشها نجد "ازدواجية " عجيبة ، لم نري مثلها إلا في الحالة "اليهودية" المتعالية علي الخلق والتي تفرض علي غير معتنقيها الاعتراف
بوجودها الغير شرعي !....هذا دين الله .. رب الناس أجمعين، شرعه تعالي للناس كي يعملوا به ، لا ليتاجروا به ويفصلونه كما تهوي أنفسهم ، وليس لأحد ، كما تعلمنا من هذا الدين، تميز علي الآخر إلا بالتقوى ،لا بالترفع و "العنترية" ، كما أن هذا الدين ينكر كل الرذائل التي يأتي بها هؤلاء جهارا ، نهارا في الوقت الذي يدعون أنهم "الحماة"لهذا الدين . ليكن ... فالدين في زمننا هذا بحاجة ماسة فعلا إلي أناس أخيار، أطهار، يأتون الآمر بحقه. وليس بحاجة إلي منابر حزبية ، كي يسوق له ، فهو ليس سلعة برسم البيع.. انه دين الله وليس دين الأحزاب.
لا بد ، لكي نخرج من هذا النفق المظلم ، والتحديات العظيمة والجسيمة نجابهها كل يوم أن نقرر : إما أن يطبق الدين كما أنزل الله ، أو يكون من " المسكوت " عنه في العمل السياسي، لأن مقت الله سبق مقت الناس "أن تقولوا ما لا تفعلون "والممارسات أكثر من تتحدث عن نفسها حتى أنها أحرقت هذه الورقة ولم تعد صالحة للعب بها مرة أخري .
الحاكمية والسيادة
4- الحاكمية في الدولة لله خالق البشر ، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف ، يمارسها عبادة لله وحملا للأمانة وعمارة للوطن وبسطا للعدل والحرية والشورى ، وينظمها الدستور والقانون .
* المرجع : دستور جمهورية السودان لعام 1998
تخلي المؤتمر الوطني عن هذه المادة فيما بعد،ولم يظهر مضمونها أو ما يشير إلي هذا النص في دستور السودان الانتقالي اللاحق عام 2005 والمعمول به الآن
الدين والدولة
2/ تتجسد سيادة الأمة في شعبها وتمارس طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون دون إخلال بذاتية جنوب السودان والولايات. سيادة الدستور القومي الإنتقالي .
المرجع الدستور الانتقالي لعام 2005
الحركة الشعبية لتحرير السودان حركة متحررة من كل القيود ومنفتحة علي الغرب تماما ، تنادي بالحرية والمساواة بين الناس وتحترم كل الأديان ، وآتية من حرب منهكة ، وتريد أن تعيش بسلام علي أرضها . الحركة الشعبية لتحرير السودان أتت من الغابة إلي موطنها الأصلي بعدما وقع زعيمها الراحل د. جون قرنق علي اتفاقية السلام الشامل وانتهي أجله.. ورحل ،وجلس من أتي من بعده علي الكراسي الوثيرة ، تحت المكيفات الباردة ، ونسي أن للسلام استحقاقات أولها العمل علي تثبيته وترسيخه .
لم تكشف الحركة الشعبية عن صدرها للناس حتى الآن ، تتواري فقط خلف اتفاقية السلام الشامل وتحاجي بها الشريك الآخر وتتصيد أخطاءه كي تستفيد منها سياسيا... تماما كما يفعل الشريك الآخر. الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تطرح أي برنامج سياسي واضح يحدد أهدافها والأسس التي ينبغي أن يحكم بها السودان ، وكيف "ستحرر" السودان.. وممن!؟ وهل الحركة "الشعبية" مفتوحة لعموم شعب السودان أم للجنوب فقط ؟ وهل برنامجها السياسي- خاصة بعد أن تحولت إلي حزب سياسي- ، قائم علي أساس وطني ، مستمد من أسس أخلاقية راسخة يقبلها الناس ، أم أن الأمر مجرد "شعارات " فضفاضة تنادي بنصرة المهمشين والمستضعفين وإحلال الديمقراطية ! وأين هم مفكريها ومنظريها ، خلاف أولئك الذين عايشوا الراحل قرنق عن قرب ، وتعلموا منه ، وما هي "أدبيات " الحركة ،خاصة فيما يتعلق برؤيتها بعد السلام ومشاركتها في الحكم؟ ولماذا هذه الحساسية " المفرطة " تجاه كل ما هو إسلامي وعربي " الجلابة" ؟ أليست هذه عنصرية ؟ ومن سيؤيدهم ويدعمهم ، إذا كانت الغالبية الغالبة من هذا البلد مسلمون،لهم دستورهم الخاص ، لن يتخلوا عنه كما يتوهم هؤلاء حتى وأن كانت رؤيتهم لشكل الحكم " علمانية" التوجه ؟ ولماذا لم تطبق الحركة شعاراتها في الجنوب الذي تملك حكمه بالكامل ، وتكون مثلا يحتذي يقنعنا بأهليتهم لحكم عموم السودان ؟
إن الحركة الشعبية عموما ، ومنذ مجيئها إلي الحكم لم تطرح علينا سوي شعارات عامة وبغير تفصيل ، واخشي آلا يكون هناك " تفصيل".
الواقع أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تفعل شيئا يذكر سوي مكايدة ومناطحة الشريك الآخر، والإدلاء بتصريحات ومواقف هنا وهناك ، كلها فضفاضة ، بل أن قادتها خلدوا إلي الراحة والرفاهة ، لدرجة أن هناك مسئولون في حكومة الشراكة يأتون إلي مكاتبهم الرسمية صباحا وهم يترنحون ؟ أهذا هو نموذج لحكام المستقبل ؟ إن الحرية الشخصية تحترم في حدودها .. نعم، ولكن الأديان والعمل العام ومراعاة مشاعر الناس أكثر احتراما.
إن الحركة الشعبية لتحرير السودان ، إذا أرادت أن تنجح في الانتخابات عليها أولا أن تتسودن بنسبة مائة في المائة ، لا في الهوية ، وإنما في الجوهر ، وعليها أن لا تركن بالكلية لمعية العم "سام" لأنها مصلحة آنية غير مضمونة العواقب ،وتستعين برأي سلاطين وحكماء الجنوب العظام كي تصبح وطنية خالصة ، هكذا علمنا زعماء التحرر في أفريقيا .. ونجحوا. كما أن عليها أن تبني قواعد شعبية أكثر استنارة من القاعدة الحالية التي هي خليط من الأميين ، وإنصاف المتعلمين ، والحانقين علي حكومة الإنقاذ سابقا وحاليا، والمعارضين ، والمحكومين، هذا غير الأفاقين والانتهازيين من مرتزقة السياسة ، في مقابل قلة قليلة من الفئة المستنيرة الذين هم من حسن الحظ جوهر ورمز الحركة.
واضح أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تعتمد علي الدعم اللامحدود من الغرب وتستقوي به وهذا نعرف سببه ، وعلي الانفصال، في حالة ما لم تنجح الوحدة مع الشمال، وهذا أيضا وارد في اتفاقية السلام الشامل ومن حقها ، وفي غياب برنامج سياسي واضح يعلن علي الملأ ويقتنع به ما يقارب الثمانون في المائة من أهل السودان ، سيكون من الصعب ، بل ومن المستحيل المواصلة ، إذ... لن يكون هناك غير رغبة "الانفصال " بسلام .
سيناريو طريف آخر(طبعا غير قابل للتطبيق) أن نعكس اتفاقية السلام فيحكم المؤتمر الوطني الجنوب وتحكم الحركة الشعبية الشمال ونري ...هل سيكفان عن هذا الضجيج ويعملان سويا نحو الإصلاح؟
يا شريكي الحكم.... نحن لسنا لعبة تلعبون بها وتزايدون عليها في ملاعب السياسة، ولسنا غنيمة تقتسم ثرواتها وتوزع سلطاتها هكذا. نحن شعب...قدرنا فقط أننا صبرنا عليكم أكثر مما ينبغي ، آملين بصبرنا هذاأن ينصلخ هذا "الاعوجاج " بكما أو بغيركما.
أربع سنوات مرت من عمر الاتفاقية والشريكان علي حالهما ، جولات من الكر والفر والمناوشة والمكايدة ، وضمير الأمة أيضا علي حاله ، يصبر ويتفرج بصمت وكأنه قد أمتلك ناصية الزمن ويرقد" قفا " متفرجا علي هذا الفيلم "الهندي" وكأن دوره قد اقتصر علي المشاهدة فقط.
اللهم يا رب الناس .. يا ملك الناس.. ملك أمورنا إلي من يخشاك فينا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ، لك العتبي حتى ترضي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، حسبنا هو ،نعم المولي ونعم النصير،والحمد لله رب العالمين
محمد عبد المجيد أمين(عمر براق)
E-mail:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.