لم تعد العلاقات الدولية فى زمننا الراهن تحكمها معايير العدالة والشرعية الدولية او مقاييس الإنصاف والقيم الأخلاقية المنصوص عليها فى ميثاق الأممالمتحدة ، وانما المصالح الاستراتيجية والأمن القومي لدول بعينها ، وما ينتج عن ذلك من تحالفات دولية واقليمية غاية فى التعقيد والتشابك . وما يُعَرف اليوم بالمصالح الاستراتيجية والأمن القومي للدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية ، أضحى يكَرِس بصورة علنية ومكشوفة سياسات الهيمنة والتغول والاستحواذ ، وسياسات "لي الأذرع" التي تؤدي فى نهاية المطاف الى ما يطلق عليه ب"الفوضى الخلاقة" ، وكذلك سياسات تقسيم المقسم ، وتجزئة المجزء فى بعض الأحيان . كل ذلك يتم على مسمع ومرأى العالم ، وتحت مظلة الشرعية الدولية ، وبحجج وذرائع شتى وواهية. إن عالم اليوم يواجه مخاطر جمة ناجمة فى المقام الأول عن الاختلال فى موازين القوى ، واضطراب فى المعايير والمقاييس التى تحكم علاقات ومصالح الدول ، مما أدى الى حدوث تصدع كبير فى القيم والمبادئ التى أرست اُسس الأمن والسلم العالميين . هذا الوضع الاستثنائي فى العلاقات الدولية ، وما نتج عن ذلك من حالة شاذة غاية فى التشابك أوجد مناخات مضطربة ، وتحالفات غير متجانسة ، ونزاعات مفتعلة ، وحروب أسبابها نزعة الاستحواذ على مقدرات الشعوب وثرواتها . وقد برزت هذه الحالة الاستثنائية بشكل جلي مع سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة من جهة ، وتَصدُر الولاياتالمتحدة وحلفائها من الدول الغربية قيادة العالم ، وسعيها المحموم الى توسيع نفوذها بكل الطرق والوسائل . وشرعت هذه الدول منذ سقوط جدار برلين العمل على تسيير المنظمة الدولية والمنظمات الإقليمية إن بشكل مباشر او غير مباشر ، وتطويع كُبرى المؤسسات المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لإرادتها ، وجعل المنظمات الحقوقية والانسانية ادوات تخدم مصالحها وتوجهاتها وخاصة فى الدول النامية . والأدهى من ذلك حولت الاعلام المقروء والمسموع وخاصة المرئي والالكتروني الى صناعة تجارية محضه ، وأداة تحريضية وتعبوية غاية فى القوة والتأثير ، تخدم قبل اي شيئ آخر نهجها وأغراضها . ولانه كذلك فإننا نجد اليوم أن تناول الاحداث الاخيرة فى كل من تونس ومصر والبحرين واليمن ثم ليبيا وسوريا وأخيرا بريطانيا يختلف عن بعضه البعض فى الشكل والمضمون ، وحتى فى استخدام المفردات والتعابير، ولغة المخاطبة والصور الحية المنقولة من قلب الحدث . فغرف العمليات المخصصة لصناعة الخبر ونشره وتكراره ، أضحت صناعة متقنة ودقيقة ، تخدم خطط ومصالح الدول الغربية ومن يدور فى فلكها. وإلا كيف نفسر الاختلاف الجوهري فى تناول وعكس أحداث متشابه فى الشكل والمضمون حتى فى إستخدام العنف المفرط فيها. حيث نجد ان صُناع الخبر فى غرف العمليات الخبرية "إن جاز لنا التعبير" أمعنوا المرور على أحداث بريطانيا والبحرين مرور الكرام ، واختزلوها بل تعمدوا فى تهميشها على الرغم من ان إستخدام العنف المفرط فيها لا يختلف عما حدث ويحدث فى البلدان الأخري . بينما نجد ان ذات الجهات وذات المصادر قرعت الطبول واقامت الدنيا ولم تقعدها بعد ، بتكرار مشاهد الاحداث فى ليبيا وسوريا وعلى مدار الساعة . والأخطر من ذلك فان صناع الخبر فى غرف العمليات الخبرية المغلقة شرعوا في الأونة الأخيرة فى إختلاق وفبركة احداث لا وجود لها ، ولم تحدث قط ، وذلك بغرض إرباك من يستهدفونه ، وسحب البساط من تحت أقدامه ، بل وزعزعة وحدته الداخلية إن أمكن ذلك . كل هذا لدليل قاطع بان ليس هناك اليوم إعلام حرٌ ونزيه ، ولا إعلام ينشد الحقيقة او يتصف بالأمانة الصحفية التقليدية المتعارف عليها . بل هناك إعلام موجه ، وصناعة تجارية رابحة ، وأجهزة الكترونية متطورة تديرها وتوجهها مؤسسات تجارية كبرى لا علاقة لها بالكلمة الحرة والنزيهة ، ولا بالحرية والمصداقية ، ولا حتى بما يسمى بالقيم السامية للسلطة الرابعة. إن وسائل الاعلام العالمية فى زمننا الراهن أضحت صناعة وماكينة تنتج وبشكل منسق ومنظم بضاعةً إخباريةً لكل منطقة ، بل ولكل بلد على حدا ووفق مواصفات ومعايير توائم مصالح ومنافع منتجيها . فوسائل الاعلام بكل أشكالها أصبحت ماكيناتٍ وألياتٍ ضخمة ، يتم إدارتها وتوجيهها من قبل مَنْ يمتلك اليوم القوة والنفوذ والمال ، ويمتلك القدرات التكنولوجيا المتطورة والقادرة على الوصول الى المتلقي او المستهلك فى عقر داره دون جهد وعناء . انه واقع مزر، وحقيقة ماثلة على الارض لا يمكن غض الطرف عنها او تجاوزها كيفما كان . هذا الواقع الذي تكتوي اليوم بناره الدول النامية والمغلوب على أمرها ، سيؤدي بلا شك وإن عاجلا او آجلا الى تعقيدات وتداعيات وربما الى انفجارات فى العلاقات الدولية يصعب التكهن بنتائجها وإفرازاتها السلبية على الأمن والسلم العالميين . لقد سئم العالم فرض سياسات الكيل بالمكيالين ، وإزدواجية المعايير . ولم يعد يتحمل افتعال النزاعات ، وتأجيج أحداث باستغلال وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الى درجة أضحى من الصعوبة تفنيد الحقيقة عن الزيف ، وتمييز الحق عن الباطل . وإزاء هذه الظاهرة الاستثنائية ، والآخذة فى التوسع والانتشار دون تمحيص لما يمكن ان تحدثه من تداعيات على المدى البعيد ، نجد بالمقابل تنامي دائرة الاستهجان والرفض القاطع لسياسات الهيمنة والتهجم، وتزييف الوقائع ، والتهويل حول اوضاع بلدان بعينها وبشكل انتقائي عبر وسائل الاعلام وخاصة المرئية منها . وإزاء ذلك كله نقول وبكل صراحة ، ما كان على المنظمة الدولية والمنظمات المتفرعة منها وكذلك المنظمات الانسانية والحقوقية فضلا عن المنظمات المالية الكبرى ما كان عليها أن تكون أدوات طيعة لاحداث إختلال فى توازن القوى الذي أطل بعد الحرب الباردة ، وتكون جزءا لا يتجزء منه ، بل وتلعب دورا سلبيا وممالئا لسياسات واستراتيجيات الدول الغربية . كان حريا بهذه المنظمات ان تلعب الدور المنوط بها ، وتسعى الى الاسهام فى معالجة الاختلال فى المعايير ، واصلاح سياسة الكيل بالمكيالين وتقويم الاعوجاج السائد فى اُسس العلاقات التى تحكم الدول من خلال تفعيل دور الاممالمتحدة وتعزيز قدرتها على الفعل والحركة . بيد ان هذه المنظمات وعلى رأسها منظمة الاممالمتحدة التى عولت عليها دول العالم كثيرا ، وسعت الى إصلاحها وإعادة هيكلتها ، لم تعد تلك المنظمة الفاعلة والقادرة على إدارة دفة العلاقات الدولية وفق ما ينص عليه ميثاقها ، كما لم تعد قادرة على فض النزاعات ، ومنع الحروب او الوقوف امام التدخلات السافرة لدول بعينها فى شؤون الدول الأُخرى . المشكلة الحقيقية هي ان المنظمة العالمية أضحت منظمة تتقاذفها أمواج مصالح الدول الكبرى ، ويُسيرُها فى الخفاء والعلن أصحاب القوة والنفوذ والمال الى درجة أضحت أداة ممالئة لاستراتيجيات ومصالح الدول الكبرى ، وليس مصالح شعوب العالم كافة . ان الاعوجاج والاختلال السائد اليوم فى العلاقات الدولية ناتج بالدرجة الاولى عن تبني الدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالامريكية سياساتٍ واستراتيجياتٍ وهيمنة استعمارية جديدة أخلت وماتزال تخل بمبادئ العلاقات الدولية بلجوئها الى اُحادية القرار وإستخدام القوة المفرطة فى معالجتها للنزاعات والأزمات الداخلية كما حدث فى العراق وأفغانستان ، او بتحريك ما تسميه بالقوى الاقليمية المدعومة من قبلها ونيابة عنها كما هو حاصل فى الصومال ، او بالتشويه والاساءة لبعض البلدان من خلال تسليط الآلة الإعلامية العالمية والمنظمات الانسانية والحقوقية وغيرها مثلما هو واقع على ارتريا وغيرها من البلدان التى سعت وما تزال تسعى الى ان يكون لها نهجا مستقلا تمليه عليها مصالحها الوطنية وأمنها القومي . وفي ذلك كله أضحت المنظمة الدولية تلعب دورا ممالئا لدور الدول الغربية ، وتقف مكتوفة اليدين امام جرائم إبادة جماعية ترتكب بحق البشر فى كل من العراق وأفغانستان والصومال ، وتنتفض حين تندلع الاحداث فى البلدان التي لا تساير الكبار او تعارض وتقاوم نهجهم فى معالجة النزاعات والأزمات التى تعسف اليوم الكثير من مناطق المعمورة . ان المنظمة الدولية لم تعد قادرة على تحمل مسؤولياتها تجاه قضايا عالمية غاية فى الوضوح من حيث عدالتها وشرعيتها وخلفيتها التاريخية . تهُبٌ المنظمة بكل ما لديها من إمكانات وتسخر كل المؤسسات التابعة لها حين تقف الدول الغربية ضد هذا البلد او ذاك او ضد نظام بلد يخرج عن طاعة هؤلاء ويسعى الى تطبيق نهج لا يمالئ توجهات هذه الدول . كما تغض الطرف عن قضايا واضحة وساطعة كالشمس ، وحقوق جوهرية لا لبس فيها ، ونزاعات او حروب هنا او هناك لا تكون الدول الغربية طرفا فيها او لا تمس مصالحها لا من قريب اوبعيد . وازاء ذلك ، نجد اليوما اكثر من اي وقت مضى اجماعا دوليا يدعو الى اصلاح الاممالمتحدة وترتيب أوضاعها من الداخل ثم البحث عن مخرج يعيد اليها هيبتها ومكانتها ويمكنها من تأدية رسالتها وتنفيذ المبادئ والأسس التى قامت من اجلها قبل أكثر من ستين عاما . بيد ان هذه الدعوة النبيلة لإصلاح وإعادة هيكلة المنظمة العالمية سوف تذهب أدراج الرياح طالما بقى الاختلال فى ميزان القوى سائدا ، وطالما سعت الدول الغربية الى التفرد بقيادة العالم وتسيير دفته الى ما لا يحمد عقباه . إن إصلاح الاممالمتحدة إذن مرهون بسياسات الدول الكبرى وإرادتها على الاصلاح ، وقبولها بواقع عالم اليوم كما هو وليس كما تتمناه . فهل يستقيم الظل والعود أعوج ؟!!