في صباح أول سبتمبر 1970 غشيت مركز الحزب الشيوعي بالخرطوم الغربية على شارع متفرع من شارع الحرية. وقرأت هناك النسخة الخطية من بيان للمكتب السياسي للحزب حول موقف الحزب من تأميم دولة انقلاب مايو للصحف. وكان بخط مؤلفه بالطبع أستاذنا عبد الخالق محجوب. نسيت ملابسات إطلاعي على بيان لم يصدر بعد. وبدا لي أن أستاذنا ربما رآني (أو ربما استدعاني) في المركز فطلب من مساعد له (ربما كان المرحوم فاروق علي زكريا) أن يطلعني على أصل البيان. وهو عارف بالطبع أنني كنت أقود الجبهة الثقافية التي حرك فيها التأميم ثائرات الجدل والخلاف والطمع وما شئت. وكتبت بياناً مستمداً من بيان الحزب لتنظيم الكتاب والفنانين التقدميين (أباداماك) أجازته سكرتارية التنظيم وطبعته. واحتفظت بنسخة من بيان أبادماك. وفتشت قدر ما فتشت على بيان الحزب عن تأميم الصحافة فلم اقع عليه أبداً. ويئست من العثور عليه. وقلت ربما لم يطبع نصه الأصل الذي قرأته أو ربما طبع وتفرق أيدي سبأ. بل لم أجد لهذا البيان ذكراً في الأدب الذي يميز فيه الشيوعيون أنفسهم عن شطط مايو برغم ما جاء في البيان من موقف ناقد للتأميم من جهة حرية الرأي ومن جهة العدوان على منشأة اقتصادية رأسمالية هي المطابع. وكان النظام قد أمم الصخف بمطابعها. وأنشر هذا البيان العائد في مناسبة مرور 40 عاماً على قيام إنقلاب مايو (ولا اقول ثورة فهذه يجدونها عند الغافل) وفي مناسبة نزاع الصحافة وقانونها القائم عسى أن يكون الماضي عظة. والعقل زينة. وكان أستاذنا فطناً لبييباً. رحمه الله حول تأميم الصحافة الصحافة بالطبع أداة من أدوات العمل الإيدلوجي والسياسي. ومن ثم فمن المستحيل النظر في أمرها (دورها في المجتمع وتنظيمها وحريتها إلخ) بطريقة منفصلة تماماً عن مجموع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحيط ببلد معين. تؤكد مجموعة هذه العلاقات الاقتصادية والسياسية أن بلادنا تمر بفترة معينة من مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. وهذا يعني فيما نحن بصدده، أن هناك قوى اجتماعية وطبقية مختلفة ذات مصلخة موضوعية في الفترة الراهنة وفي تحقيق أهداف الثورة. هذه القوى محددة في الطبقة العاملة وجماهير المزارعين والفئات الوطنية والتقدمية من البرجوازية الصغيرة والأقسام المنتجة من الرأسماليين الذين لا يخضعون لقوى الاستعمار القديمة والحديثة. إن هذه الطبقات تتحالف سياسياً في إطار برنامج الثورة الديمقراطية ولكنها في نفس الوقت تختلف عن بعضها من ناحية إيدلوجيتها ونظرتها للحياة ومناهج عملها. تتطور الثورة الديمقراطية بنمو الوعي السياسي الاجتماعي لدى الجماهير وبرفع نشاطها وباشتراكها الفعال في توجيه أمور البلاد. والجماهير تعبرإلى هذه المواقع المتقدمة فوق جسر الديمقراطية وبإشاعتها حتى تشمل كل أوجه الحياة. إن الحرية السياسية لهذه الجماهير من حقوق في التنظيم والتعبير والنشر ومن بناء للمؤسسات الديمقراطية التشريعية، عوامل لا بد من توفرها لنجاح الثورة الديمقرطية ولقيام التحالف السياسي على أسس متينة ولضمان التطور الصحيح للحركة السياسية. استناداً إلى هذه السمات البارزة في تطور الثورة الديمقراطية فإن حرية التعبير أمر تحتمه حقيقة الاختلافات الإيدلوجية في هذه المرحلة التي لابد أن تجد منافذ لها. وحقيقة أن التحالف السياسي نفسه يقوم بين فئات وطبقات مستقلة رغم وجود البرنامج المشترك بينها. إننا نعالج وضع الصحافة في هذه الفترة من الثورة الوطنية الديمقراطية كجزء من حرية التعبير الإيدلوجي والسياسي للجماهير صاحبة المصلحة في الثورة الديمقراطية، فنرى أنه: لابد من فتح المنافذ والأبواب أمام الجماهير والطبقات صاحبة المصلحة في الثورة الديمقراطية للتعبير عن ذاتها ولإنشاء مؤسساتهها الفكرية. وكشيوعيين-- نناضل من أجل إنجاح الثورة الديمقراطية ثم الانتقال للاشتراكية-- نرى أن الطبقة العاملة والجماهير الكادحة لابد لها من هذه الحرية لكي تستطيع انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية ولتبني تحالفها المتين، ولتنتقل بالبلاد صوب الاشتراكية. ولهذا فحرية هذه الجماهير في النقد السياسي ونشر فكرها وخاصة الماركسية اللينينية هي الضمان لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بطريقة حاسمة ولاستقبال مهام الاشتراكية فيما بعد. تقوم حرية التعبير السياسي على كفالة حرية النقد في إطار البرنامج الوطني الديمقراطي. إن احتكار السلطة للصخافة وأدوات النشر الأخرى وتحريم النشاط الديمقراطي للجماهير ومبادراتها أمر خاطيء لا يتمشى مع مقتضيات الثورة الوطنية الديمقراطية. ومهما ابتدعت الأشكال لتنظيم ذلك الاحتكار فهو يعني في نهاية الأمر قصر حرية التعبير والعمل السياسي على فئة معينة من قوى الجبهة الوطنية الديقراطية. ما هو موقفنا من القرار الذي صدر حول تأميم الصحافة: # التقارير التي أٌعدت كنظرية تسند هذه الخطوة تعبر عن مفاهيم خاطئة بالنسبة لدور الصحافة في المجتمع الاشتراكي. هذه النظرية تعتبر أولاً المرحلة التي تمر بها بلادنا مرحلة الثورة الاشتراكية. وهذا خطأ. وهي ثانياً ترى أن النظام الاشتراكي لا يمكن أن يتحقق إلا نادراً بواسطة تحالف يقوم على أساس الجبهة. وهذا أيضاً خطأ فاحش. وهي ثالثاُ لا تدرك قضية الديمقراطية الاشتراكية. وإن افترضنا جدلاً أن بلادنا تمر بمرحلة الثورة الاشتراكية، فالعمل الإيدلوجي يوضع دائماً بين ايدي التنظيمات الطليعية للجماهير الكادحة وتوفر له الديمراطية الاشتراكية. من المهم مناقشة هذه التقارير وإزالة تلك المفاهيم الخاطئة فيما يختص بالديمقراطية الثورية، وفيما يختص بطبيعة التحالف في هذه المرحلة الوطنية الديمقراطية. إن احتكار الصحافة بيد قسم من القوى الوطنية الديمقراطية (السلطة) خاطيء من ناحية التحالف ومن ناحية قضية الحرية للفكر التقدمي. وهو مقدمة لإحتكار العمل السياسي. ولهذا فنحن نعمل ونناضل لكي تكون للطبقة العاملة ولكافة الاتجاهات الثورية حريتها في التعبير وفي إنشاء صحافتها ومؤسسات نشرها المختلفة. # نزع القرار ملكية الصحف السيارة من أصحاب امتيازها ووضعها في يد الدولة. هناك الصحف الكبيرة المؤثرة على الرأي العام (الأيام، الصحافة، الرأي العام، السودان الجديد) والتي يملكها أفراد رأسماليون. في تقييمنا لهذا القرار نحن لا نحبس أنفسنا في إطار التفضيل بين ملكية الدولة لهذه الصحف وملكيتها لأفراد. كما أننا لا ننظر في هذه المرحلة للتأميم بصورة مطلقة معتبرين أن كل تأميم هو أمر سليم من الزوايا السياسية والاقتصادية. إن عيب تلك الصحف لا ينصب على حقيقة إنها ملك لأفراد بل أنها كانت تتجه، بصورة أو أخرى، وبمستويات مختلفة خلال عمليات الصراع الاجتماعي، وجهة تخدم مصالح متعارضة مع الثورة الديمقراطية في البلاد. إن هذا لا يمنع القول بأن الحركة الديمقراطية، في هذا الوقت أو ذاك، ونتيجة صراعات داخل تلك المؤسسات، استطاعت أن تفرض وجودها وتعبر عن مصالحها في بعض ما يكتب في تلك الصحف. هذا يرجع أيضاً إلى ضعف التكوينات الرأسمالية في بلادنا وإلى عدم حدة التعسكر الطبقي مما لم يسمح بالانفصال التام بين الصحافة والحركة الشعبية خلافاً للبلدان التي استوى تكوينها الرأسمالي. # قيام مؤسسة الدولة للصحافة يجب أن يستهدف تنظيم هذه الصحف وتطويرها وتغيير اتجاهها في طريق وطني ديمقراطي تمهيداً لوضعها في يد الجبهة الوطنية الديمقراطية. ولكن تعيينات رؤساء التحرير التي ظهرت لا تعبر عن هذه الوجهة الوطنية الديمقراطية الجديدة. فالمسألة كما اشرنا لا تقتصر على نقل امتياز الصحف من أفراد إلى الدولة بل يتعداه إلى نقل مواقع هذه الصحف إلى مراكز تقدمية في ميدان الصراع الاجتماعي والطبقي. # يشمل القرار تأميم مطابع تلك المؤسسات. إننا نفصل بين الإجراء الخاص بنقل امتيازات تلك الصخف إلى الدولة، وبين تأميم مطابع أفراد رأسماليين. فالإجراء الأول سياسي بحت اقتضته عمليات النضال الاجتماعي والسياسي في البلاد. أما الإجراء الثاني فلابد من إضافة عامل جديد هو العامل الاقتصادي: أولاً: إذا كانت هناك مطابع قامت على أساس العمالة والجاسوسية فلابد من مصادرتها بلا تعويض كإجراء سياسي سليم. هذا يتطلب بالطبع الدقة في التحقيق ومقابلة المعلومات ببعضها. المكتب السياسي للحزب الشيوعي