داروا مع الشمس فانهارت عزائمهم وعاد أولهم ينعي على الثاني ولم تزل لعنةُ الآباء تتبعه وتحجب الأرض عن مصباحه القاني - عبد الوهاب البياتي من قصيدة (سارق النار).. أوقفني البروفسور عبد الله حمدنا، والرجل على ما هو عليه من عمق معرفة بثقافتنا السودانية، وأصالة اهتمام بمعالم حياتنا الاجتماعية، بلطف ليعيب عليّ استشهادي بجزء من مقال للسيد حسين شريف رئيس تحرير جريدة حضارة السودان، في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، والتي صدرتها ب(...وأنها لأمة وضيعة تلك التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف وذلك "أن الشعب ينقسم إلى قبائل وبطون وعشائر" ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ، وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد ومن هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهوراً حديثاً وإلى أي قبيلة ينتسب؟!) حضارة السودان – العدد الصادر في 25 يونيو 1924م، ونقطة اختلاف أستاذنا حمدنا الله هي أن القبيلة لم تكن في العشرينيات كما ينظر إليها اليوم، بل هي كتلة ينبني عليها الوجود الاجتماعي في سودان أوائل القرن الماضي، وأشار إلى أنني قد أكون مارست تأويلاً مفرطاً في تحليلي لدور القبيلة اليوم والأمس، ولا أخفي أنني أرى في البروف عبد الله رجلاً عميق الفهم، شديد الارتباط بتاريخنا السوداني، والبروف لا يحتاج شهادة من شخص مثلي، قصير الظل، حبّاء في درب المعرفة، ولكن أيضاً أقول إنني لم أفهم تحولات القبيلة في تاريخ ثورة 1924م بصورة ملتوية، وحاولت أن أنتهزها فرصة لتحميل التفسير والحالة أكثر مما تستحق، فأنا أعترف تماماً بالقبيلة رابط وهي فالقبيلة تعرف بأنها: (جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد، يرجع إلى جد أعلى، وتتكون من عدة بطون وعشائر (المصدر: ويكبيديا/ وهي ذات النص الموجود في كتب علم الاجتماع، وقد نظرت إلى الترحال الذي مارسه مفعول القبيلة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، فوجدت أنه لم يطرأ عليه أي تغيير جوهري، بل ظل مفعولها ينتقل بسلاسة، ودون أي التفاتة من المثقف السوداني، فحينما عايّر السيد حسين شريف أبطال جمعية اللواء الأبيض بعرقهم، ووصفهم بالدهماء والرجرجة، لم يأت بما هو مخالف لتقاليد المجتمع السوداني في ذلك التاريخ، ولكن وللأمانة التاريخية علينا الرجوع إلى مضابط التاريخ، لننظر في أصل هذا الاتهام؛ الاتهام ب(الوضاعة الجينية)، والتحقير العنصري البغيض من قلم رئيس تحرير الحضارة، وإن كنت بالطبع لا أرى اتهاماً أن يكون المرء من عنصر زنجي، أو أصول اجتماعية متواضعة، فقد عَّلمنا تاريخنا الإسلامي أن هذه الأمة نهض بها رجال لا قبائل لهم، وكان لهم السبق في بناء أمتنا الإسلامية، لكن قبل الدخول إلى هذه النقطة، لنستعرض أسماء أعضاء جمعية اللواء الأبيض وننظر في صدق التهمة التي وجهها صاحب الحضارة، قال الرجل: ((البلاد أهينت لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم (مركز) في المجتمع..)، يعني هذا الكلام أن أعضاء جمعية اللواء الأبيض ليس لأحدهم ولا لأهله (مركز) في المجتمع، ومركز هذه يقصد بها ثقل اجتماعي أو اقتصادي، والرجل لم يكن موفقاً بالطبع، فمن هم أعضاء جمعية اللواء الأبيض؟ هم الضباط علي عبد اللطيف وصالح عبد القادر وعبيد حاج الأمين وحسن شريف وحسن صالح وأحمد مدثر الحجاز وتهامي محمد عثمان ومحمد سر الختم ومحمد المهدي الخليفة ومحمد إدريس ومحمد عبد الله البخيت ونور الدين فرج وعمر دفع الله، بالله هي ما ذكرنا من أسماء ليس لهم ثقل أو (مركز) اجتماعي، فلو تمعنت قارئي العزيز لتعرفت على أبناء أكبر بيوتات أمدرمان في ذلك الوقت، ولا ننسى أن سكرتير الجمعية كان هو (البك) عبد الله خليل- رئيس الوزراء لاحقاً في حكومة السيدين، أنأتي بعد هذا ونقول إن هؤلاء دهماء؟ أيمكن أن نصف من ذكروا بتواضع نسبهم، ونحتقر أصولهم، هذا إذا كان العرق تهمة من الأساس!. لذا قلت إن اتهام حسين شريف لا أساس له من الصحة.. لأننا لو نظرنا في تاريخنا الإسلامي، لوجدنا أن من قام بأمر هذه الدعوة، هم من لا قبيلة لهم، فهذا سيدنا بلال بن رباح الحبشي، مولى أبي بكر الصديق، اشتراه ثم أعتقه، وكان له خازنًا، ولرسول الله مؤذنًا، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، كما تصف كتب السيرة. واسم أبيه رباح، واسم أمه حمامة، بلال الذي لاقى عنتاً شديداً، وقدم نموذجاً من الصبر على الأذى، فصار أول من أذَّن للصلاة، وهو مؤذِّن الرسول؛ فعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: "نعم المرء بلال، هو سيد المؤذنين، ولا يتبعه إلا مؤذن، والمؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة".، هذا الرجل الذي جعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم (أهل قريش) أن يطوفوا به جبال مكة وطرقها، وبلال لا يقول سوى: أحد...أحد، رضي الله عنك سيدي بلال، وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، بل من حفظ أمر هذه الدعوة لم يكن يستند على إرث قبلي، ولم يكن في الأساس من أصول عربية، فمن قّعد اللغة، سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، والذي كان كان مولى بني الحارث بن كعب، ثم مولى آل الربيع بن زياد الحراثي، والإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كرشان القشيري العامري ، صاحب الصحيح، الذي يعد مرجعنا الأصيل في الحديث النبوي، وأيضاً الإمام البخاري والغزالي، وبن رشد والفارابي وبن سينا، وغيرهم كثير كثير، كل هؤلاء يا سيد حسين شريف لا (مركز) لهم في مجتمع الأمة العربية حينها، ولكنهم حفظوا لنا تراث هذه الأمة، بل وقدمونا إلى العالم بأسره..! أنجد بعد ذلك تراجعاً عن القول بأن مثقفنا في ذلك الوقت مارس عصبية غير مفهومة، بل وتنازل عن مشروعه التنويري لصالح مكاسب يجنيها من الدفاع عن الطائفية، هذا مع الوضع في الاعتبار أن رئيس تحرير الحضارة كان يدافع عن مصالح أصحاب الامتياز يف الصحيفة وليس أصدق على ذلك من قوله: (...وأن الزوبعة التي أثارها الدهماء قد أزعجت طبقة التجار ورجال المال..) فمن هم ترى من يشكلون طبقة التجار ورجال المال.؟! فالظاهرة السياسية التي في قلبها مثقفنا لا يؤسسها وعي الناس، آراؤهم وطموحاتهم، ولا ما يؤسس هذا الوعي نفسه من علاقات اجتماعية ومصالح طبقية، بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه (اللاشعور السياسي) الذي هو عبارة عن بنية قوامها علاقات مادية جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً لا يقاوم ، كما يقول د. محمد عابد الجابري، وفي حالتنا السودانية فقد ظل سلطان القبيلة مسيطراً على العقل السياسي منذ بدايات تشكله وحتى اليوم، فماذا نريد؟ نريد تحويل (القبيلة) إلى مجتمع لا قبلي، مجتمع تسود فيه القوانين، أي نجلس على أرضية من السياسة المدنية، التي تمثلها : النقابات والأحزاب والهيئات، ومنظمات المجتمع المدني، وأن نضع حداً فاصلاً بين الحاكم وامتثال المحكوم له، وفق صيغة الطاعة العمياء، إننا نقصد الديمقراطية. فهل ننجح...؟