بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى:(هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية هذا بلاغ للناس بقلم: أبوبكر يوسف إبراهيم توطئة2: الشاعر الراحل الحاضر صلاح أحمد إبراهيم من نفرٍ إذا اقتنع بالمنطق آمن به ؛ وقد أسرّ لي بأنني والأستاذ المحجوب عبد السلام قد أثرنا في توجهه الوجداني؛ وشخصياً لا أعرف الأستاذ المحجوب معرفة شخصية ولكن من خلال ما رواه لي الراحل، فكأنما كان صلاح حوار يتحدث عن شيخه عندما يتحدث عن الرجل في غيبته ، يومها قال لي: أن أجمل ما في السودانيين السماحة وصفاء الوجدان.!! أواصل ما انقطع عن زيارتي لمعالم قصر فرساي في معية الراحل صلاح ؛ يومها قال لي: هل دخلت يوماً ما القصر الجمهوري في السودان لتعرف تاريخ بلادك منذ كان مستعمراً ؟ قلت له لا؛ و لا أظن أني أستطيع؛ لأن هذا القصر محاط بإجراءات أمنية لأنه مقر الرئاسة ولكنني قرأت عن غردون باشا بأقلام أهله أكثر مما كتبه مؤرخونا عنه؛ يا أخي نحن نجهل كثيراً تاريخ بلادنا وحتى ما هو متاح لعبت به الأهواء الطائفية؛ ورويت له قصة صورة وثيقة أمتلكها لأستاذ المهدي الأستاذ محمد شريف ود نور الدايم – عليه رحمة الله- ؛ وقصة هذه الوثيقة لا يقال عنها إلا كما يقول أهلنا: (خلّوا حمدو في بطنو)!!.. ضحك صلاح وقال لي صلاح مازحاً: عليك بالصمت وإلا سيستحل دمك.!! المتن2: قصر فرساي غاية في الإبداع الفني ؛فيوجد في الطرف الآخر من القصر بهو شاسع تزينه مجموعة كبيرة من اللوحات التاريخية الضخمة التي تمثل أعظم المواقع الحربية التي انتصرت فيها فرنسا منذ فجر العصور الوسطى حتى عصر نابليون، وقد رسمت معظم هذه المناظر في عصر نابليون بونابرت وأشترك في رسمها أعظم فناني العصر مثل ( لوي ديفيد) ، و (إيزابي) ، (وفرنيه) ؛ وتبدأ المجموعة بمنظرٍ يمثل انتصار الملك (كلوفيس) على الرومان الغاليين سنة 486م ، ويليه منظر استوقفنا طويلاً لروعته وطرافته لما فيه من إقدام وشجاعة للقائد المسلم الذي أبت نفسه الاستسلام وهو يرى جنده حوله يتساقطون ، وهو منظر انتصار الفرنج على العرب في سهول (ثوروبواتييه) سنة 732م، وهي الموقعة الشهيرة التي تعرف في التاريخ الإسلامي بموقعة (البلاط أو بلاط الشهداء)، وفيها يبدو عبد الرحمن الغافقي قائد العرب شيخاً مهيب الطلعة تتدلى لحيته البيضاء الطويلة حتى صدره، وقد وثب بجواده المضطرم إلى الطليعة شاهراً سيفه، ولكن جنده يتساقطون حوله من ضربات الفرنج؛ وأذكر أنني رأيت هذه الصورة منذ أعوامٍ خلت في طبعة إنجليزية لكتاب المستشرق (دوزيه) عن الأندلس ، وكنت أتوق إلى معرفة الأصل الذي نقلت عنه، فإذا بي والمرحوم صلاح في بهو فرساي أمام المشهد الرائع وجهاً لوجه. يلي ذلك صفين متقابلين من لمناظر أعظم المعارك التي انتصرت فيها فرنسا مُرَتبة حسب العصور والتواريخ؛ مواقع (شارلمان) ، ولويس الحادي عشر، ولويس الرابع عشر، وموقعة ( فالميه) أشهر معارك الثورة الفرنسية ضد أوروبا ، ثم طائفة كبيرة من مواقع نابليون مثل (مار نجو) ، (فاجرام)،(أوسترلتز) ، وغيرها. بيد أن أعظم ما يثير الخيال في أرجاء هذا القصر الشاسع، هو الذكريات التاريخية العظيمة التي كان مسرحاً لها، والتي أسبغت عليه طابعاً خاصاً من الروعة والخلود ؛ ففي قصر فرساي عقدت مؤتمرات ووقعت معاهدات كان لها أكبر الأثر في تاريخ فرنسا وتاريخ العالم بأسره؛ نذكر منها عهد استقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد وقع هذا العهد في قصر فرساي ترضيةً لفرنسا وتكريماً لها لما بذلته من كبير عونٍ للأمريكيين في هذه الحرب التي تسمى(حرب تحريرية)!!، وكانت نتيجة هذا العهد الخالد أن قامت في العالم الجديد أمة حديثة مستقلة من أعظم الدول الديمقراطية ؛ وفي سنة 1871، على أثر محنة فرنسا وهزيمتها أمام ألمانيا في الحرب السبعينية سنة (1870) أُرغِمتْ فرنسا على أن توقع وثيقة هزيمتها وذلتها في قصر فرساي نفسه، في بهو المرايا الشهيرGllarie des Glaces )) وهو البهو الشاسع الذي يتوسط القصر فيطل على البستان من ناحيتيه ، وأرغمت فرنسا أن تتنازل لألمانيا عن الإلزاس واللورين ؛ وفي بهو المرايا أيضاً أعلنت الإمبراطورية الألمانية ، وتُوِّجَ أول إمبراطور ألماني وهو (فلهايم الأول –جيوم)، وأجريت مراسيم التتويج في نفس البهو بحضور ملوك الولايات الألمانية المتحدة ، وهذه أسود الذكريات وأتعسها في تاريخ فرنسا القومي. على أن فرنسا اعتزمت غداة ظفرها في الحرب الكبرى أن تمحو هذه الصفحة المشجية وهذه الذكريات الأليمة من تاريخها وأن تثأر لشرفها القومي من ألمانيا ، وأن ترغمها على أن توقع وثيقة انكسارها وذلتها في نفس المكان الذي اختارته ألمانيا من قبل لإرغامها وإذلالها؛ في هذا البهو الشهير ذاته ( بهو المرايا) ؛ وقعت فرنسا معاهدة الصلح – معاهدة فرساي- التي فرضها عليها الحلفاء الظافرون في (يونيو سنة 1919)؛ والتي تثقلها بمختلف الفروض والمغارم الهائلة، وتقضي عليها برد (الإلزاس واللورين) إلى فرنسا. ضحكت والمرحوم صلاح وقال معلقاً: بأسهم بينهم شديد!!. الغريب أنه ليس في (بهو المرايا) ما يذكرنا بأعظم معاهدة عرفها التاريخ سوى لوحة بسيطة مؤثرة كُتب عليها ( في 28 يناير 1919 ردت الإلزاس واللورين إلى فرنسا)!! حاشية: في نهاية البستان الشاسع من الناحية الأخرى صرحان آخران منعزلان هما قصر (تريانون الكبير) ، وقصر (تريانون الصغير)؛وأنشأ احدهما (لويس الرابع عشر)، وأنشأ الآخر (لويس الخامس عشر)؛ وكلاهما حافل بالذكريات العذبة، وكلاهما كان مسرحاً لليالي والحفلات الباهرة ؛ وكان (تريانون) ملاذاً محبوباً للملكة (ماري أنطوانيت) ؛ والإمبراطورة ( جوزفين بوهانيه) زوج نابليون. الهامش: قضينا في صحبة المرحوم صلاح أحمد إبراهيم عدة ساعات في التجوال في هذه المعاهد والمشاهد التي تذكي الخيال إلى الذروة وتحملنا إلى عصور وعوالم أخرى؛ كانت الساعة الرابعة عصراً حينما انتهينا من هذا التجوال الممتع، وغادرنا القصر المنيف والبستان الشاسع إلى قلب المدينة حيث طفنا بطرقاتها برهة ، ثم عطفنا على كطعم نتناول فيه الغداء وكان الطاهي هو صاحبه من مدينة عناّبة في الجزائر ، ولقد رأينا أن الأسعار في فرساي ليست أقل ارتفاعا منها في باريس، وأن موجة الغلاء المرهق قدمنا لك منها فيما تقدم أمثلة عديدة تعم فرنسا بأسرها. لقد كان يوم فرساي هو خاتمة التجوال بالنسبة لي في رحلتي الباريسية ؛ ولولا أن صلاح انتشلني يومها من نزلي لكنت ما زلت أغسل الأطباق حتى يومي هذا حتى أسدد نفقات الإقامة في ذاك الفندق ذي الثلاث أنجم ولكنه يفوق الخمسة في بيروت ودبي ولكنه ليس أقل سعراً منها ؛ إذ كانت الإقامة في باريس بما فيها من تكاليف وأثقال مرهقة ‘ وبما استوعبناه من مشاهدها ولياليها المتماثلة ، قد أخذت تثقل على النفس، فأزمعت المغادرة في اليوم التالي إلى عواصم ومجتمعات أكثر ترحاباً وأقل إعناتا وإرهاقا، وأرفع خلالاً ومثلاً!! ومع ذلك فباريس هي مدينة الثقافة، الفنون والتاريخ.!! من أجمل القصائد القصيرة التي كتبها عملاق الأدب الفرنسي فيكتور هيجو Victor Hugo ، الذي قال عنه مُواطِنه الشهير (شارل بودلير) Charles Baudelaire في كتاباته عن - النقد الأدبي - إذا كان للألمان (غوته Gœthe للإنجليز (شكسبير) Shakespeare (برايون) Byron، فإن Victor Hugo شَرعَاً للفرنسيين؛ و عن رائعته (L'âme en Fleur الروح الجميلة / الروح المُشْرِقَة / الروح المُشِعة / الروح النقية / الروح المُزْهِرة ) يرسم لنا الراوي تلك الصور الجميلة التي يُفْتَنُ لها النظر ، فهو يبحث عن مكان به أشجار ، و مروج خضراء ، بل يبحث عن منزل صغير / مأوى / وطن داخل الوطن ، محاط بالزهور ، مع قليل من العُزلة، و بعض من السكينة و الهدوء ، و سماءً صافية ، بل يطمع في أن يحط على سقف داره طائراً مُغرداً يأخذ له عُشاً أيضاً . فهل لنا أن نطلب أكثر من هذا؟! كم أنت جميلة يا باريس رغم أنها تجمع المتناقضات والمتضادات ؛ فكثيراً ما تشاهد المتشردين يلتحفون الأرض في محطات السكك الحديدية والجسور ويتدثرون بالسماء تحت وطأة شتاء وزمهرير؛ يتضورون جوعاً ويتسولون المارة من بني جلدتهم من الأثرياء الذين يعيشون حياة الدعة ورغد العيش يفوح منهم عبق أريج العطور الباريسية والملابس الراقية الباهظة الأثمان .. كم أنت جميلة يا باريس ، وكم أنت عجيبة غريبة في تفاوتك الطبقي!! Abubakr Ibrahim [[email protected]]