الهجرة المعاكسة كما نعلم هي ردة الفعل الطبيعي لحاجة في نفس يعقوب راودت المغترب طوال فترة اغترابه، فالهجرة من الوطن إلى الغربة حكمتها ظروف محددة في فترة معينة تواطأت فيها بعض الظروف الخاصة الطاردة التي أجبرت معظم الكفاءات للهروب من نار الأوضاع الاقتصادية االمتردية إلى بلاد الغربة. كما أن التدهور المريع في كافة جوانب الحياة والخدمات العامة قد شجع قطاعات كبيرة من جميع الفئات وأزكى نار الغربة، مما أدي إلى هجرة أناس كانوا أبعد من أن يفكروا في الهجرة أمثال الذين التصقوا بالأرض وغيرهم من أصحاب الحرف بل وأساتذة الجامعات وغيرهم ممن حسدوا على "صمودهم" في وجه التيارات والعواصف وجميع الإغراءات المادية . مما أدى إلى فراغ (إجتماعي) كبير دفع بأعداد لا بأس بها من المهنيين والحرفبين إلى هجر البلاد بشتى الوسائل فمنهم من (تأبط عقداَ) ومنهم من (باع أرضاً) "رغم أن أهم دواعي وأسباب الاغتراب هو تملك أرض وبناء بيت يؤوي الأسرة ويكفي أفرادها شر شرار أرباب البيوت وسماسرة العقار" ومنهم من (صار راعياً أو تمزرع) " رغم ما قيل عن أن السودان }سلة غذاء العالم{ وحاجة البلاد إلى من يسقي الزرع ويرعى الضرع" ومنهم من (حج أو اعتمر وزاغ عمداً بحثاً عن ملاذ آمن أوكفيل) ومنهم ومنهم إلى آخر القائمة التي يعلمها من تمرس في فنون الزوغان والروغان وتمرس في فنون الهجرة من بلاد السودان. كان لا بد من هذه المقدمة ونحن بصدد ظاهرة أخرى قد تكون أخطر من الهجرة نفسها. فالناس قد هاجروا بغرض تحقيق أهداف محددة لسنين معدودة، إلا أن سنين هجرتهم قد هاجمتها جرثومة السرطنة فتورمت بشكل خبيث لم تعد تجدي معه إمكانية الاستئصال الجراحي أو التنظيري بشقيه الطبي والفلسفي، كما وأن وصولهم أو اقترابهم من حد الخطر أو تفاقم الأمور بسبب أن (العيال كبرت) أو وصول سن التقاعد قد أفضى بهم إلى العمل على زيادة سنين التعاقد. ومسألة تضخم سنين الغربة لها دوافع وأسبات عديدة منها التغيير المستمر للهدف المنشود، فالهدف في حقيقة الأمر هو واحد لكن الانحراف عن تحقيقه بسبب تغير الظروف الاقتصادية هو العامل الأهم، فاذا كان الهدف من الغربة أن يشتري المغترب بيتا فان التضخم الذي اصاب اسعار البيوت (التي أضحت تحسب بالمليارات) أجبر كثيرا من تلك الفئة المغتربة على تمديد فترة الاغتراب لسلامة (الاقتراب) من الهدف (المستهدف)، وهكذا يظل المغترب في سباق لانهاية له مع المستجدات (الاقتصادية)، التي لا تعمل منظومتها ومتطلباتها في السودان. ففي كل يوم يمر تزداد النسب سوءا وتتفاقم الأمور الى الأسوأ ويبتعد المغترب عن تحقيق مراده واصابة هدفه المنشود. والظاهرة التي نفرد لها هذه الكلمة هي خاصة جداً بحفنة من السودانيين ذوي الاغتراب (الما خمج) الذين قيل فيهم ما لم يقل مالك في الخمر، من أنهم يحصدون الدولارات ويشترون لزوجاتهم } كراسي جابر والثياب السويسرية الفاخرات{ ويركبون ما غلى من سيارات أمثال اللاندكروزرات والمرسيدسات ويملكون أولادهم وبناتهم الذين يدرسون في الجامعات آخر موديلات السيارات وآخر الصيحات من الجوالات....... { ممن وصلوا إلى نهاية المطاف ومرحلة (تأبط الشيكات) " أعني به استلام شيك مستحقات نهاية الخدمة". ففي الآونة الأخيرة وبحكم عامل السن فقد تأبط كثيرون شيكاتهم وهم في قمة السعادة وقد غمرتهم الفرحة بإنهاء مشوارهم الطويل مع الغربة التي، رغم عطائها الكبير الجم إلا أنها قد سلبت بعضهم التاج (الذي لا يراه إلا المرضى). ورغم أن الذين تأبطوا الشيكات قد حققوا الكثير من احلامهم وشيدوا العمارات وامتلكوا البيوت والأراضي والمزارع واحتفظوا بالأرصدة الضخمة في البنوك بالمليارات، إلا أنهم بالمقارنة مع الآخرين الذين حددت أسقف مستحقاتهم المالية بمبالغ متواضعة جداَ قد يدفعها من تأبطوا الشيكات رسوماً جمركية لسلعة واحدة فقط. فإننا نجد أن معظم ممن (تأبطوا الشيكات) الذين قرروا العودة الطوعية بعد بلوغهم سن المعاش والاستقرار في السودان، قد انتكسوا وفشلوا في مجاراة الحياة في السودان وعادوا إلى عالم الغربة مرة أخرى بعد أن حمدوا الله على أن خلصهم من نار الغربة. وهم بذلك يزرعون الشك وعدم الثقة فيمن ينتظر ويأمل في العودة النهائية والاستقرار مع الأهل والعيال. كثير من المغتربين يفكرون اليوم في العودة (نهائي) الى السودان لظروف متعددة ومتفاوتة، فقد كبر العيال وبلغوا سن التعليم العالي مما أدى الى انشطار الأسر، شطر في السودان وشطر في بلاد الاغتراب. ولكن الفار (يلعب في عب هؤلاء) عندما يرون أن من سبقوهم في العودة الى السودان قد هجروا البلاد وقرروا الخروج (النهائي) من السودان دون أن يشيروا الى أي من المبررات والأسباب التي حدت بهم الى اتخاذ هذا القرار رغم أن هؤلاء قد طال اغترابهم وأسسوا من الركائز الاقتصادية ما يكون لهم سندا على تحمل اعباء الحياة في السودان، ومعظم الهجرات الآن أصبحت تتجه غربا وهذه أكيد هجرة يصعب الرجوع عنها، فالذين القوا عصا الترحال في أمريكا وكندا وغيرها من البلدان الغربية وبلاد شرق آسيا وبلاد (الواق واق) هؤلاء سيكون رجوعهم صعبا وقاسيا، سيما وقد (انصهروا) وصاهروا تلك الشعوب التي لا تستطيع العيش في السودان لأسباب (مناخية)، فهل يقدر على (كتاحة) وحر السودان الا السودانيين. من الأسباب والمبررات التي يسوقها البعض ان السودان أضحى لايطاق من حيث غلاء المعيشة.؟؟؟؟؟ هذا في نظري سبب لا يسنده الواقع، فالعالم اليوم كله (غلاء في غلاء)، لم تعد الحياة سهلة لينة كما كانت بالأمس، راقبوا وشاهدوا نشرات الأخبار فهي لم تنفك تنقل لنا كل اليوم المزيد والمزيد من اخبار خروج الآلاف من البشر في تظاهرات ضد الأوضاع الاقتصادية السيئة والفقر وغلاء المعيشة والأسعار، التي أصبحت (متطايرة)، لا تكبح تضخمها أية اجراءات، (عايرة وأدوها سوط)، والأوضاع نفسها تحتاج الى الاستقرار ، الذي اصبح عملة نادرة، فاذا وجدت بلدا مستقرا سياسيا، تجد العوامل الطبيعية مثل الأعاصير والرياح تعصف به والزلازل، والعياذ بالله والحمد لله، تفتك به، فبمقارنة حال السودان بما يجري في العالم نقول الحمد لله. ورغم أن هناك من هم دونهم (أصحاب المال وأفضل الأحوال) اقتصاديا وماديا الا أنهم صامدون، والشئ المثير للدهشة أن اؤلئك النفر كما أسلفنا يمكن تصنيفهم من المقتدرين ماليا ويمتلكون العديد من العقارات والأراضي ووضعهم المالي ممتاز بشكل مميز. وهناك من يقول ان ذلك مسألة تعود فقط فقد تعود أولئك على نمط معين من العيش والحياة توفر لهم في بلاد الغربة ويفتقدونه في السودان الأمر الذي جعلهم أسيري ذلك النظام، رغم أن قلة استطاعت الفكاك من اسر وتأثير ذلك الوضع وتأقلموا بشكل سريع ومريح مع الوضع الجديد، إلا أن الأمر لا يزال يطرح نفسه وعلينا أن نتدارسه بشكل جدي عملي لكي نجد المخرج منه حتى لايؤدي ذلك الى بلبلة وسط قطاع كبير من المغتربين الذين سيدقون أبواب الهجرة العكسية طوعا واختيارا أو تحت ضغط ظروف الغربة حيث صارت الأوضاع هناك طاردة وهجرتهم غير ذات جدوى. وسوف نرى قريبا موجات (الهجرة المعاكسة)، فقد اعلنت بعض البلدان العربية نيتها تقليل تدفق العمالة الأجنبية لأراضيها ومؤسساتها الاقتصادية والتجارية وتسريع عملية (احلال) العمالة الوافدة عن طريق (توظيف) العمالة (الوطنية)، وتضييق الخناق عليها بسن القوانين والنظم التي تعطي اولوية (التوظيف) للمواطن، وترجيح كفة (العمالة الوطنية) في سوق العمل، وعندها سنجد هجرة كبيرة معاكسة الى بلدان الشرق الأوسط وشرق آسيا. alrasheed ali [[email protected]]