وقفنا في الحلقة الأولي، من هذه السلسلة، حول ركائز انتخابات التحول الديمقراطي،عند تفنيد الركيزة الأولي والأساسية لقيام انتخابات التحول الديمقراطي المنشود وهي: التنفيذ الكامل لبنود الاتفاقيات المبرمة بين المركز وقوي الهامش السوداني، كشرط جوهري، وركيزة أساسية انتخابات لتحقيق التحول الديمقراطي المنشود، ومن ثم، قيام الانتخابات الحرة والنزيهة التي يجب أن يشارك فيها عموم شعوب السودان، وشرعنا في الإجابة علي السؤال الفيصل: هل تم تنفيذ بنود الاتفاقيات المُبرَمة علي النحو المنشود بحيث يمكن الاعتماد علي محصلة التنفيذ في تقرير أن، التحول إلي السلام صار ممكناً وممهد الطريق؟ وهل يمكن، وفق المُعطَي الراهن، إجراء انتخابات التحول السياسي المنشود؟ وأجبت بصفتي مواطناً وعضواً في حركة مقاومة مسلحة وقعت اتفاق سلام ودخلت في آليات التحول الديمقراطي، وتوفر لي بالتالي، الإطلاع علي موقف تنفيذ الاتفاق المبرم بين الحركة والمركز، فأجبت بالنفي القاطع علي السؤال، وسُقْتُ الأدلَّة والبراهين علي عدم التنفيذ كما ينبغي، وانتهيت في الدفع رقم (5) إلي أن عدم تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية في الاتفاقيات المبرمة بسبب الطرف الحكومي(المؤتمر الوطني) قد أدي إلي إعاقة عملية ضرورية ومهمة لحركات الكفاح المسلح في رحلتها للتحول من منظومة عسكرية مقاتلة إلي تنظيم سياسي مدني، كما أوردت خطل المنهج المُتَّبع من قِبل الذين يتولون الحكم في الدولة السودانية منذ الأزل، ويتّبِعه هذا النظام القائم بسفور، وهو منهج قوامه معادلة باطلة تعتمد علي: تقديم الحكومة الخدمات والتنمية للمواطنين وتسليح مليشيات القبائل، مقابل أن يعلِنَ المواطنون صراحة، الولاء السياسي للحزب الحاكم وتبني مواقفه السياسية والتصويت له في الانتخابات، والخروج والاحتشاد المستمر لتأييد مواقفه السياسية، ومظاهرة قيادته والمدافعة عنها، في مواجهة القرارات الدولية، وإعلان بطلانها وتجديد البيعة الدينية علي المساندة والجهاد لتثبيت أركان حكم النظام!! وبدون هذا التأييد والخروج والاحتِشاد المُستمر والدعم، لن ينال المواطن أينما كان لا الحقوق المستحقة بالمواطنة ولا التنمية ولا الأمن ولا الطعام ولا التسليح، ويترك نهباً(vulnerable)لعوادي الزمن وغلواء الذين أيدوا واحتشدوا فتسلحوا وطعِموا مقابل الولاء والدعم والمساندة! ومن ثم، أواصلُ سرد وفضح مواقف تنفيذ الاتفاقيات المبرمة إجمالاً لتدعيم وتعضيد الموقف الذي تبنيته بالإجابة بالنفي القاطع علي السؤال الفيصل حول إمكانية قيام انتخابات التحول السياسي المنشود: 6) نتائج إحصاء أبريل2008م: قلنا مراراً وتكراراً، أن عملية التحول الديمقراطي سِمتُها وشرطها الأساس الشمول، أي أن تشمل كافة القطر السوداني، فليس مُتخيلاً أن يأتي التحول المنشود جزئياً، ولتحقق شرط الشمول، لم يُحالِف الصواب قرار الحكومة إجراء التعداد السكاني (الشامل) في أبريل2008م بينما دارفور ملتهبة وأهلها في شغل ومحنة، والأمن فيه معدوم كُليَّةً، ومعظم سكان الإقليم في ملاذات آمنة، معسكرات نزوح داخلي أو لجوء صريح في تشاد ومصر وإفريقيا الوسطي، أو شِبه لجوء لعدد مهول من سكان الإقليم بالجماهيرية العربية الليبية العظمي(1,3 مليون مواطن)، كل هؤلاء خارج عملية التعداد ابتداءً، بينما بقية سكان الإقليم قد انتقل معظمهم طواعية، إلي المدن الكبيرة ينشدون الأمن والعيش الكريم وبعض الرفاهية، وقد شجَّعهم علي ذلك، الارتفاع الرهيب في إيجارات المباني بالمدن الرئيسية بالإقليم بحيث مكّن المواطنون من إيجار مساكنهم فيها للمنظمات الدولية بأسعار مرتفعة وكافية لإيجار منازل في الخرطوم والمدن الأخرى، وفائض نقدي يعينهم علي مباشرة حياة كريمة في المدن الآمنة، بعيداً عن قعقعة المدافع وأزيز الطائرات المقاتلة ونزق الجنجويد والمليشيات الأخرى، فلا يمكن بالتالي، تصور إمكانية إجراء تعداد سكاني سليم في إقليم خالٍ من سكانه الأصلين. 7) أهمية الإحصاء السليم في عملية التحول السلمي الديمقراطي: يكمُن أهمية الإحصاء السليم في عملية التحول السلمي الديمقراطي في الآتي: أ- يُعتمَد علي نتيجة الإحصاء السليم، في تعديل المعايير التي تم إعمالها في قسمة السلطة والثروة في جميع الاتفاقيات المبرمة، ذلك أن الاتفاقيات المُبرمة بين الهامش والمركز قد اعتمدت معيار نسبة السكان في اقتسام السلطة والثروة في الدولة السودانية، ففي اتفاق السلام الشامل2005م تم اعتماد معيار شمال/ جنوب بمعني نسبة سكان الجنوب من مجموع سكان الدولة السودانية وفق نتيجة تعداد 1993م وهو تعداد أقرب إلي السلامة. بينما في اتفاق سلام دارفور2006م، تم التنصيص علي، وإقرار هذا المعيار بشكل واضح منذ بداية المفاوضات الموضوعية، ويجب تضمينها في الدستور القومي فوراً سداً للذرائع، لأنه معيار عادل وطبيعي، وهو يعني، أن يكون نسبة سكان كل إقليم/ولاية إلي مجموع سكان الدولة، هو نصيب ذلك الإقليم/الولاية من الدخل القومي، ونسبة مشاركته/ها في السلطة القومية من القمة إلي القاع، وهو معيار أساس وعادل وثابت، ويجب أن يقرأ مع بقية المعايير التعويضية التي اقتضتها العدالة وضرورة جبر الضرر التاريخي والحرمان، وقد تراضي عليها الأطراف في مرحلة التفاوض وتُدمج جميعاً فيما عُرِف بمعيار التمييز الإيجابي للأقاليم التي لم تنل حظها من البناء والتنمية من الدخل القومي عبر تاريخ الدولة السودانية، فتأخرت أكثر عن ركب التنمية والتطور، فاتفق الأطراف علي تمييزها بنسبة مُقدَّرة من الدخل القومي (تمييزاً إيجابياً) لها لتُمكّيِنُها من اللحاق بركب المركز والأقاليم الأقرب جغرافياً من المركز، لأن التهميش يزداد كلما ابتعدنا عن المركز نحو الهامش، ويبلغ مداه في التخوم النائية من الجنوب والغرب والشرق والشمال الأقصى حيث تنعدم مظاهر الوجود الحكومي ومعالم التنمية. ب- يُستَنَد إلي نتائج الإحصاء السُكاني السليم، في رسم الخارطة الانتخابية من حيث توزيع العدد الكلي للدوائر الجغرافية علي الأقاليم والولايات، ثم التوزيع الداخلي للدوائر الجغرافية وفق الكثافة السكانية للمناطق المختلفة داخل الوحدات الإدارية الأصغر، ورسم الخارطة الانتخابية العامة من جِماع خرائط الأقاليم والولايات والوحدات الأصغر حجماً. ج- يُعتَمد علي نتيجة الإحصاء السكاني السليم، في التخطيط الاستراتيجي للتنمية البشرية للدولة، ويستند إليه في بناء السجل الانتخابي الدائم من مخرجات التعداد السكاني السليم كأساس، ثم العمل فيه لمواكبة الظروف والمستجدات التي تطرأ عليه بالحذف والإضافة. إذاً، فالإحصاء السليم هو الأساس السليم للسجل المدني/ السجل الانتخابي. 8) باعتباره الركيزة الأساسية والحلقة الأولي من حلقات العملية الانتخابية، يقع باطلاً إي إحصاء غير شامل، أو غير دقيق، او مطعون في نتائجه من الشركاء الأساسيين في العملية السياسية، وفي ذلك نجد أن حركة تحرير السودان المُوقِعة علي اتفاق السلام لدارفور مايو 2006م قد اعترضت ابتداء علي إجراء الإحصاء في التوقيت المضروب، وساقت أسانيد وحجج دامغة ومُفحِمة لتثبيت ما ذهبت إليه، وأودعت مذكرة شاملة وحاوية لرؤيتها لدي أرفع درجات الدولة، مؤسسة الرئاسة، ومجلس الوزراء، علي أن تلك المؤسسات لم تعِر ذلك الأمر أية أهمية! رغم أن الحركة التي تقدمت بالطعن شريكة أساسية في حكومة الوحدة الوطنية وذهبت الحكومة، المؤتمر الوطني، في عملية الإحصاء الناقصة إلي نهاياتها، ولم تستطيع إعلان نتائجها بشكل رسمي وعلني وجهري حتى تاريخ اليوم! والنتائج المعلنة مؤخراً، وعلي استحياء، جاءت خيالية، ومصنوعة، لا تمت إلي الواقع بصلة، فهي تتحدث عن زيادة مضطردة في عدد سكان إقليم دارفور!! وهل يعقل ذلك؟ مع العلم أن، سكان هذا الإقليم لا يمكن أن يكون عددهم قد زاد في الظروف التي سبقت إجراء الإحصاء الناقص في إبريل2008م، فقد قلنا ونكرر أن، الإقليم كان خالياً من سكانه بنسبة تفوق 75% بسبب الحرب والظروف الأمنية الماثلة التي جعلت من غير الممكن قيام عملية تعداد حقيقية وسليمة.. وبالحساب البسيط، أهل دارفور قضي منهم في الحرب نصف مليون نفس، وتأوي ملاذات النزوح واللجوء وشبه اللجوء حوالي الأربعة مليون مواطن، وحالات النزوح الاختياري إلي المدن الأكثر أمناً داخل السودان حوالي المليون مواطن، بمعني أنّ، حالة عدم الدخول في العملية التعدادية إبريل 2008م غطت حوالي75% من سكان الإقليم وبالتالي هي النسبة التي لم تشملها عمليات ذلك التعداد، فكيف لإقليم فقد أكثر من ثلاثة أرباع سكانه زمن التعداد، أن يشهد زيادة في عدد السكان كما ورد في نتيجة الإحصاء المزعوم؟ فمن أين أتت الزيادة المزعومة، وهل يصدق عاقل أن إقليماً ظل يعاني الحرب والدمار والتهجير لنصف عقد من الزمان أن يزيد عدد سكانه؟؟ الإخوة في الحركة الشعبية لتحرير السودان اعترضوا مؤخراً علي نتيجة التعداد بعد إعلانها، وساقوا الأسباب والحجج لذلك وهي وجيهة، أما السبب الجوهري، والحجر الذي أباه البناءون، هو أن التعداد لا يقوم متزامناً الحرب، ولكن في زمن السلام والاستقرار والأمان، وقد قلنا ذلك منذ البداية، ولعلَّ الجميع قد فطن إلي ذلك الآن، وصار رأينا،هو الحجر الذي أباه البناءون، فأصبح حجر الزاوية، كما قال المسيح عليه السلام، والسلام.